يوم عرفة.. ذاكرة الألق الروحي والقيم السامية


(يا راحلين إلـى منـى بقيـادي/ هيجúتْمْ يوم الرحيـل فـؤادي/ سرتم وسار دليلكم يا وحشتـي/ الشوق أقلقني وصوت الحادي// ويلْوْح لي ما بين زمزم والصفـا/عند المقام سمعت صوت منادي/ ويقول لي يا نائما جد السْرِى/عرفات تجلو كل قلب صادي// من نال من عرفات نظرة ساعة / نال السرور ونال كل مراد// تالله ما أحلى المبيت على منى / في ليل عيدُ أبـúرِك الأعياد// ضحوا ضحاياهم وسال دماؤها / وأنا المتيم قد نحـرت فـؤادي// يارب أنت وصلتهم صلني بهـم/ فبحقهـم يـا رب فْـك قيـادي// فإذا وصلتـم سالميـن فبلغْـوا / مني السلام أْهيúـل ذاك الـوادي// قولوا لهم عبـد الرحيـم متيـمَ/ ومفـارق الأحـبـاب والأولاد)
ما أجلاها من قريحة وما أعذبه وأصدقه من شعر وشوق اختزل وجدان الأمة الإسلامية الحقِة على لسان شاعر يماني أناخت تحت وقع قوافيه نفوس المؤمنين مطايا شوقها إلى حج بيت الله والوقوف بين يديه في يوم عرفة (الوقفة الكبرى)..
في هذه المادة سنتتبع باختزال كبير إضاءات من ذاكرة الألق الروحي والقيم السامية ليوم عرفة الذي يعيشه المسلمون في أنحاء المعمورة وجداناٍ وروحانيةٍ وكما لو أنهم والحجيج على صعيد عرفة وكذلك عادات وتقاليد يمانية كانت تتزامن مع موسم الحج خطوة بخطوة من خروج الحاج من بيته ومروراٍ بمناسكه في الحج وصولاٍ إلى يوم عودته.. إلى التفاصيل.

الأبيات المذكورة سابقاٍ هي من كلمات الشاعري اليماني الشهير عبد الرحيم البرعي-الحديدة- رحمه الله حيث ذكر المؤرخون في تاريخ الأدب الصوفي اليمني أن عبد الرحيم البرعي في حج الأخير كان مريضاٍ وأْخذِ محمولاٍ على جِمِلُ فلما قطع الصحراء وأصبح على بْعِد خمسين ميلاٍ من المدينة هبِ النسيم رطباٍ عليلاٍ معطرا برائحة الأماكن المقدسة (المدينة المنورة “يثرب” مدنية النبي صلى الله عليه وآله وسلم – وفيها مسجد وقبره- وعاصمة الدعوة الإسلامية الأولى) فازداد شوقه اشتعالاٍ للوصول إليها لكن المرض أعاقه عن المأمول وقبل أن يلفظ نفسه الأخير ..كان قد خط آخر بيت لهذه القصيدة (صلى عليك الله يا علـم الهـدى/ ما سار ركبَ أو ترنـم حـادي) ليرددها اليوم نخبةَ واسعة من المسلمين الذين قرأوا عن شاعر المدائح النبوية ذات النسق الروحاني الفريد الشيخ عبد الرحيم البْرعي- رحمه الله..
هذه إضاءة خاطفة من إحدى قصائد البرعي كواحد من أشهر شعراء الصوفية اليمنيين.. وهناك دواوين طويلة وجزلة -لشعراء يمنيين وعرب ومسلمين كْثْر- لا تْحصى ولا تْعد في وصف الحج والشوق إليه خصوصاٍ يوم عرفة الذي شكل ذاكرة ثرية في الأدب والشعر الإسلامي وهو اليوم الذي يتوجه فيه الحجيج إلى عرفة وهو الركن الأعظم من أركان الحج وإن لم يدركه الحاج فلا حج له ويسن صومه لمن لم يكن بعرفة فإنه يكفر ذنوب سنتين سنة ماضية وسنة آتية وهو اليوم الذي يكثر الله فيه عتق عبيده من النار وما رؤي الشيطان أدحر ولا أصغر منه سوى هذا اليوم إلا ما كان منه يوم بدر ويظل الحجيج بعرفة حتى الغروب ثم يتوجهون إلى مزدلفة..
شوق المسنين
ومثلما شكل يوم عرفة ذاكرة للأدب الإسلامي ووجهة ملهمة للشعراء والناثرين الصوفيين فقد شكل أيضاٍ مبعثاٍ للشوق والحنين إلى بيت الله العتيق لأداء مناسك الحج والعمرة وزيارة الديار المقدسة وقبر المصطفى صلى عليه وعلى آله وصحبه وسلم هجساٍ وجدانياٍ يرافق اليمنيين خصوصاٍ المسنين منهم في كل لحظة وحين ويتأجج في كل مناسبة موسمية مرتبطة بشعائر الحج أو العمرة فهم وإن لم يكن باستطاعتهم المادية الذهاب فهم يعيشون المناسك مع الحجيج لحظة بلحظة صياماٍ وتسبيحاٍ وتلبيةٍ وتكبيراٍ.. وليس في هذا القول مبالغة فمنذ تجاوزت أعوام عمره الخمسين والآن تقترب من الثمانين ظل محمد الحيمي– كان حارساٍ في منشأة خاصة– يعيش اللحظات والساعات الطوال هجساٍ وشوقاٍ وجدانياٍ وروحياٍ إلى الحج وإلى يوم عرفة وزيارة المدينة المنورة.. لكن ظروفه تبقى حائلاٍ بينه وبين حج بيت الله وزيارة قبر نبيه المصطفى..
ومثل محمد الحيمي ينتظر الملايين في المعمورة الإسلامية هذه الشعيرة المقدسة فمنهم من يصل إلى مسعاه وحلمه الروحي الكبير ويغسل ظمأه وعمره وروحه وخطاياه بماء الحج والتعبد والزهد وأداء مناسك هذه الفريضة والوقوف في يوم عرفة حيث يتساوى الخلق فلا فرق بين غني ولا فقير ولا رئيس ولا مرؤوس..
نظام قاس.. وآلاف تنتظر الفرج
قد يكون من الطبيعي على وزارة الأوقاف أن تتبع نظاماٍ معيناٍ للتفويج يأخذ في اعتباره تكافؤ الفرص للملايين الذين ينتظرون يسر الوصول إلى بيت الله الحرام.. لكن رغم هذا إلا أن أي نظام سيكون قاسياٍ جداٍ على المسنين بالذات خصوصاٍ حين يشد العزم فيجد نفسه أمام طابور طويل يحتم تأجيل فرصته للعام القادم كما هو حال نحو (17000) لم يحظوا هذا العام فرصة الحج.. وهذا لا يؤخذ على الجهات المختصة فالواقع فرض تأجيل حق هذا الرقم من الأشخاص الذين يتحرقون شوقاٍ للحج وزيارة الديار المقدسة بعد أن عقدوا النوايا على هذا العام فقد تم تحديد حصص الدول الإسلامية بالتساوي من الجهات المختصة والمعنية بخدمة الحرم المكي والمدني وتنظيم مناسك الحج والعمرة وزيارة الأراضي المقدسة فكانت حصة اليمن لا تتجاوز نحو (19) ألف شخص تم اختيارهم بعد المقارنة والمفاضلة في قوائم تتضمن (36) ألف مقدم طلب لأداء فريضة الحج..
عادات وتقاليد يمانية
موسم الحج ليس مِوúسمِــاٍ عاديـاٍ يرتبط فقط بما يعمله الحجاج من طقوس روحانية تعبدية في البيت الحرام على شكل وصعيد ومستوى واحد من الإنسانية المتوجهة لرب واحد بل يعيش هذا الموسم كل المسلمين في أنحاء العالم هذه الطقوس التعبدية اللفظية منها (كالذكر والعبادة والتسبيح والتهليل والتسبيح ) والعملية (كالصيام والصلاة والصدقات وصلة الأرحام وذوي القربى).. ناهيك عن العادات والتقاليد التي عْرِف بها التراث الشعبي وتكونت لديه ذاكرة شعبية عامرة بكل ما ينم عن القيم الأصيلة والسامية النابعة من جذور الانتماء العقائدي والفرائحي والأسري للأمة الإسلامية وبخصوصية كل مجتمع له ثقافته الشعبية.. ففي اليمن خصوصاٍ في صنعاء تعيش الأسرة طقوس الحج بعادات وتقاليد أصيلة ونادرة منذ يخرج رب الأسرة أو حتى أحد الجيران في رحلته إلى الحج فيتم توديع الحاج بأناشيد وأغان شعبية بسيطة وبعده يتم نصب المدرهة أو الأرجوحة التي يتأرجح عليها الصغار والكبار مهللين حينا ومنشدين أحياناٍ أخرى بأناشيد تتضمن أدعية للحجيج وأخرى تبوح شوقاٍ لأداء مناسك هذه الشعيرة ويستمر الحال منذ خروج حتى يوم عودته إلى الأسرة والحي لتبدأ الطقوس الفرائحية الأخرى بمناسبة وصوله بالسلامة..
أما يوم عرفة فيشهد في المجتمع اليمني بأسره على أرجاء خارطة البلاد طقوساٍ تعبدية وقيم سامية من التسامح والتعايش وصلة الأرحام وتوزيع الصدقات.. وعادات وتقاليد إيجابية يعيشها الأطفال والنساء والرجال في هذا اليوم المبارك.. لكن للأسف الشديد بدأت تلك العادات تتلاشى وتتقلص مع تطور الحياة وصخبها المدائني..

mibrahim734777818@gmail.com

قد يعجبك ايضا