مع اقتراب موعد الإعلان النهائي لوقف إطلاق النار في قطاع غزة برز هذا الأسبوع الموقف اليمني بعدد من العمليات العسكرية المتتالية والمركزة والموجعة ضد قوات البحرية الأمريكية في البحر الأحمر، تسببت في تراجع حاملات طائراتها وهروبها وإغلاق مراكز تعارفها وذلك كله على مرأى ومسمع من جيوش العالم كله، تلى ذلك أيضا منذ بداية هذا الأسبوع عمليات عسكرية يمنية متتالية بشكل أكبر وأوسع ومركزة أكثر وموجعة أكثر وأكثر ضد كيان العدو الإسرائيلي ويصاحبه صمت أمريكي سياسي وعسكري محرج ومذل، لكن في المحصلة فأنه مهما كانت ردود فعل أو تصريحات الأمريكان حول المعارك والمواجهة بين القوات المسلحة اليمنية والبحرية الأمريكية وهي القوة البحرية التي هيمنت على بحار العالم لقرن كامل، فأن ذلك يؤكد ان العمليات العسكرية اليمنية فرضت معادلة الهيبة وقد حققت أهدافها الاستراتيجية على الهيمنة الأمريكية هذه، لتجد أمريكا نفسها اليوم في مواجهة ثلاث معضلات مترابطة ومتآزرة سببتها لها اليمن والجيش اليمني والشعب اليمني..
المعضلة الأولى : هي تراجع المكانة النسبية الأمريكية على صعيد سلاسل أمداد البنية التحتية البحرية العالمية ، أي وزنها النسبي في الصناعة والاقتصاد العالميين، اللذيّن وإن ظلت تحتل فيهما مكانة مهمة بالمعنى المطلق، فإنها تتراجع فيهما بالمعنى النسبي، نتيجة تزايد حصص ومكانة الآخرين فيهما، خصوصا الصين التي كانت تخاف من حاملات الطائرات الأمريكية، لتجدها أمام القوات اليمنية مجرد قشه، وهذا يعني فرض حتمية تغير البنية الفوقية العالمية بما يتوافق ويتناسب مع الأوضاع النسبية الجديدة، ما يثير صراعات بين القوى الغربية وفي قلبها الولايات المتحدة، المصرة على الاحتفاظ بحصتها ومكانتها القائمة الموروثة، والقوى الصاعدة الطامحة والمتشوقة حتما لما يتناسب مع أوضاعها الجديدة ..
المعضلة الثانية : استمرار مساندة القوات المسلحة اليمنية لغزة حتى آخر يوم يعني ان الولايات المتحدة لم تعد قادرة على حسم الخلافات الدولية وفرض إرادتها المُنفردة بمجرد التهديد كما كانت تفعل سابقا، ليس فقط مع الخصوم الكبار، بل حتى مع الخصوم المتوسطين، مثل إيران، نتيجة لتراجع فارق القوة النسبي بينها وبين الآخرين، بحيث لم يعد يكفي مجرد التلويح به لإجبارهم على الامتثال لإرادتها ، بل أصبح يتطلب تفعيلا ماديا له بعمليات عسكرية صريحة بكل ما له من تكاليف كبيرة مباشرة على صعيد قوتها الاقتصادية والعسكرية من ناحية ، وتكاليف غير مباشرة على صعيديّ مصداقيتها العالمية وضعف تحالفاتها الإقليمية من ناحية أخرى..
المعضلة الثالثة: تحقيق القوات المسلحة اليمنية لهدف أضعاف أمريكا نسبيا في موقف العالمي مقارنة بالسابق، يجلب عليها مزيدا من الضعف، أي من العجز على فرض إرادتها المنفردة، حيث يشجع ذلك على تمرد بعضهم ونجاح الآخرين على التمرد بالمثل (بمختلف درجات ذلك التمرد) بما يعمق من اتجاه تراجع هيمنتها وقدرتها على إجبار الآخرين (وهذا يفسر عدوانيتها الشديدة تجاه روسيا في العامين الماضيين)، كما أن العمليات اليمنية صنعت معتقداً جديداً نوعا ما وهو انه كلما أصبحت الهيمنة محل تساؤل وشك، خصوصا مع الاهتزاز المتزايد للمشروعية في دعم ومشاركة أمريكا لإسرائيل في ارتكاب المجازر بحق الفلسطينيين والقصف المتكرر للأماكن المدنية في اليمن، كلما أدت محاولات تعزيزها أو توظيف أسلحتها محل مقاومة متزايدة وردود أفعال تضعف فاعليتها في الأجل القصير، بل وتنهيها كليا في الأجل الطويل..
هذه المُعضلات الثلاث التي تضرب أمريكا في مقتل هي أهداف استراتيجية يمنية وقد حققتها القيادة اليمنية والجيش اليمني والشعب اليمني بحنكة وشجاعة منقطع النظير، وكل مقاومة تحاولها أمريكا في مواجهة تراجع هيمنتها هذه بقصف اليمن أو الاعتداء على سيادته، فهي لا تفعل سوى المزيد من إبراز ذلك التراجع وحتى تعميقه، نعم لقد نجحت استراتيجية الهيبة اليمنية في هزيمة الهيمنة الأمريكية، بحيث أظهرت ضعفها أمام أعدائها، وشك حلفائها في قوتها، وتراجع هيمنتها والتشجيع على التمرد عليها، وكل مقاومة أو مواجهة أمريكية للاستراتيجية اليمنية يعني المزيد من الغرق في البحر الأحمر اليمني بمعناه الجغرافي والسياسي والاقتصادي والعسكري ..