اليمن ليس حضارة طارئة ولكنه بلد يمتد في عمق التاريخ ويلزمه في زمنه هذا أن يقوم بتفكيك بنيته الحضارية والتاريخية والثقافية والاجتماعية ليعيد البناء وفق أسس جديدة ذات جذر تاريخي يتسق مع تصورات الناس الحضارية حتى يستعيد مقوماته الحضارية والسياسية والثقافية ويستعيد مركزيته الإقليمية وصدارته التي كانت في غابر زمنه ولن يصل إلى مبتغاه حتى يصنع من فكرته الدينية مشروعا سياسيا واعيا وقادرا على إحداث التحولات وتحريك عجلتها .
فالحديث عن التطورات الاجتماعية والثقافية، وجدلية الاندماج الاجتماعي، والاندماج السياسي للجماعات والأحزاب والطوائف من ضرورات المرحلة التي يجب أن تبرز على سطح طاولات النقاش، فالعقل الاجتماعي والعقل الفلسفي يفترض به أن يخوض في تفاصيل الحركة الاجتماعية التي تعيد إنتاج نفسها من خلال الاشتغال على التفكيك في البنى التقليدية، وذلك بحثا عن وسائل مثلى لدعم التسامح، وقبول الآخر، والاعتراف بوجوده، والتعايش معه، واحترام معتقداته وثقافته، ولعل البحث عن تلك العلاقات الشكلية بين مكونات المجتمع المختلفة والدولة وفق المفهوم الجديد الذي أفرزته وتفرزه حركة المجتمع يقود إلى الحديث عن دمج كل الفرق والجماعات والأحزاب في إطار المفهوم الجامع الشامل الذي تستظله عبارة “المواطنة المتساوية “، حتى نتمكن من توحيد الأرض والإنسان، فعوامل التوحد أكثر من عوامل الشتات ولعل مشاعر الناس وتوحدها واعتزازها بيمنها قد برز من خلال مناصرتنا لغزة ومن خلال فوز فريق الناشئين ببطولة غرب آسيا .
ولعل إشباع مفهوم “المواطنة” – تنظيراً وجدلاً وتكثيفاً وتشريعاً وممارسة – هو الباب الذي نلج منه إلى البناء الصحيح في توطيد الروابط الاجتماعية، والمشاركة في النشاط الاجتماعي المتنوع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وبحيث نصل إلى حقيقة الاستقرار والشعور بالوجود لكل أطياف المجتمع ومكونه العام، فالتعدد ظاهرة محمودة تمنع الاستبداد وتحد من الطغيان من خلال التدافع الصامت الذي يحدث بين مؤسسات الدولة المختلفة وبين المؤسسات المدنية والذي يحدث بشكل غير مباشر وبصورة بينية، فالفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، يعمل على تفعيل خاصية التدافع الصامت من خلال المواجهة والاحتكاك بين السلطات، فالسلطات الثلاث تحتك وتتضاد مع الأخرى وبما يفضي إلى القول إن الدولة من خلال تعدد سلطاتها ستجد الدولة.
ذلك أن السلطة في ظل التعدد والتنوع، وفي ظل الأنظمة الديمقراطية الحديثة لها شكلان، شكل داخل الدولة والآخر خارجها، فالسلطة داخل الدولة – كما يرى ذلك فقهاء القانون – هي للقانون، فالدولة تكون طرفاً دستورياً محايداً، ومسؤولو الصف الأول لن يكونوا إلا موظفين، ترتبط سلطتهم بالقانون، وبالفترة الزمنية التي ينص عليها الدستور، وبحيث لن يكون بوسع أي جماعة أو حزب أو طائفة أن يتجاوزوا ذلك السقف الزمني.
أما الشكل الذي خارج الدولة فيتمثل في إعادة توزيع السلطة /النفوذ بالطريقة التي تحفظ التوازن بين المجتمع الرسمي، أي مجتمع الدولة، وبين المجتمع المدني من أحزاب ونقابات ومراكز ومراجع دينية، وهذا الشكل يخلق لحظته المتفاعلة مع الزمن، ويحد من الصراع، ويقلل من ظواهر الطغيان والاستبداد والفساد وبما يتوافق مع المصالح المرسلة للجماعات والكتل التاريخية التي تعمل حركة المجتمع على خلقها في لحظات التحول والتبدل.
وكما قلنا آنفاً في السياق، إن المفهوم يتغير تبعا لما هو كائن من حركة وتغير وتبدل وتعدد، فالوعي الاجتماعي كان في زمن ما قبل 2011م ضحية تعسف رسمي متعدد الجوانب والآليات، عمل على إخضاع مشاعر الناس وعقولهم على التصور بأن مفهوم الدولة لا يتجاوز الهيمنة السياسية ومجموعة الرموز التي يخضعون لها كالرئيس والوزير والمحافظ والشيخ، ولكنه ومن خلال ما نشهده من حركة بدأ المجتمع يعي، وبدأ يقرأ الفروق اللازمة بين مفهوم سلطة الدولة ودولة السلطة، فسلطة الدولة تعني أن جميع أجهزة الحكم فيها من مؤسسات ودستور وقوانين وقيادات تعمل في منظومة متكاملة لتحقيق الغايات الوطنية، ودولة السلطة تعني أن أجهزة الدولة ومؤسساتها وأدواتها القانونية والدستورية تعمل في منظومة واحدة لتحقيق مصالح السلطة الحاكمة ويصبح الوطن وثرواته ومواطنوه ملكاً لها.
وطبقاً لما سبق، نذهب إلى القول إن ما يحدث في واقعنا هو عملية انتقالية وتبدل في المفهوم، ومثل ذلك يضعنا في مواجهة زمن جديد يتوجب التفاعل مع متغيراته ومظاهره العامة.
فالثورات تُحدث تبدلاً في شكل العلاقة بين الدولة والمؤسسات الاجتماعية والثقافية وبين فرق وطوائف المجتمع، فالتبدل والتغيير من خصائص الثورات والهزات الاجتماعية العنيفة التي حدثت في كل حقب التاريخ، ولذلك لا تكف الأخبار في تناولاتها اليومية عن حدث أو صراع أو حركة اجتماعية، فالتدافع الذي يحدث هو صراع بين ماضٍ يتشبث بالوجود وحاضر متبدل يرغب في الوجود، ومثل ذلك التدافع من سنن الله في كونه، ويحدث خوف الفساد وخوف الثبات، وتبعاً لذلك التدافع يتمايز الناس إلى جماعات وأحزاب، ويحدث أن يطغى الأقوى ويستبد، والطغيان والاستبداد من طبائع المنتصر في أي تجمع بشري ولن تحد منه إلا الفنون التي تجهد في تكثيف موضوعها في صناعة حيوات وبحيث تجعل من فردية الفرد كلية، فهي عن طريق الفن تعمل على زيادة الوعي باللحظة والوعي بالذات في إطار المجموع الوطني أو الإقليمي أو العالمي، وميزة أي حدث ثوري تكمن في قدرته على إحداث متغير في حياة الناس والمجتمع، وتلك من خصائص ثورة 21 سبتمبر، التي عملت وما تزال تعمل ونأمل أن تستمر في صناعة التحولات حتى يستعيد اليمن ريادته ويمتلك أسباب وعناصر النهوض .