انسحاب القوات الفرنسية من النيجر نجاح سياسي أم إخفاق أمنى ؟

مرارة بطعم الهزيمة لباريس لكن خسائرها مشتركة

 

منذ الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكم الرئيس المنتخب محمد بازوم نهاية يوليو الماضي انخرط المجلس العسكري بمعركة سياسية أولى مع باريس على خلفية قراراته إلغاء الاتفاقيات الموقعة مع فرنسا انتهت لصالحه بإعلان باريس سحب قواتها، في خطوة أتاحت للمجلس العسكري انتصارا سياسيا ودعما شعبيا واسعا لكنها فتحت الطريق أمامه لتحديات داهمة أمنية واقتصادية.

الثورة  / أبو بكر عبدالله

بعد نحو 63 عاما من النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري الذي فرضته فرنسا على مستعمراتها المستقلة في غرب أفريقيا بـ 59 اتفاقية دفاعية واقتصادية وسياسية امنت لها نفوذا استمر لعقود وجدت باريس نفسها اليوم أمام متوالية تساقط للنفوذ من مالي إلى بونا فاسو وأفريقيا الوسطى والغابون والسنغال وساحل العاج وصولا إلى النيجر التي سحبت فرنسا قواتها العسكرية منها بصورة مذلة، بعد معركة تجاذبات سياسية استمرت شهرين رضخت فيها باريس لمطالب إنهاء نفوذها العسكري بصورة نهائية.
والأزمة العميقة في النيجر والتي قادت إلى انقلاب الحرس الرئاسي على الرئيس المنتخب محمد بازوم في يوليو الماضي، لم تكن بعيدة، فالنفوذ الفرنسي الطويل هناك شكل رأيا عاما مناهضا لباريس ولعب بالمقابل دورا مهما في دعم الانقلاب العسكري على نظام بازوم وتثبيت اركانه بعد أن شرع العسكريون بإلغاء الاتفاقيات الموقعة مع باريس وصولا إلى خوض معركة سياسية مع باريس انتهت بقبول باريس سحب قواتها من هذه الدولة الغنية بالموارد الطبيعية.
لمرات عدة شهدت النيجر اضطرابات ومحاولات انقلابية ساهمت فرنسا بإخمادها، لكنها بدت في الانقلاب الأخير عاجزة وتجني عواقب عقود من سياساتها الاستعمارية التي اتسمت بقدر كبير من الهيمنة والاستحواذ على الموارد الاقتصادية والدفاع عن مصالحها على حساب مصالح النيجريين، وهي السياسة التي حاولت الحكومات الفرنسية الأخيرة تلافي تداعياتها ولا سيما الرئيس ايمانويل ماكرون الذي وصف تاريخ بلاده في إفريقيا بـ “التاريخ المظلم”.
ولعل التفاف الشارع النيجري حول المجلس العسكري الانقلابي بمطالبه بمغادرة السفير الفرنسي وثم مغادرة القوات الفرنسية من النيجر، واستعداده تحمل أي عواقب بما في ذلك الحرب والعقوبات كان تعبيرا صريحا عن مدى تطلع النيجريين للاستقلال الكامل وإنهاء كل مظاهر النفوذ الفرنسي.
مرارة فرنسية
النجاحات التي حققها المجلس العسكري في النيجر بإرغام باريس على سحب بعثتها الدبلوماسية ثم قواتها العسكرية المشاركة في عملية ” برخان” كان نتيجة طبيعية للنجاحات التي حققتها المجلس في تعبئة الشارع النيجري واستثمار حالة العداء التي يحملها للنفوذ الفرنسي ناهيك بالظروف التي هيأت للعسكريين مقاومة الضغوط بإعلان توقيع “ميثاق دول الساحل” مع المجلسين العسكريين في مالي وبورنا فاسو والذي تعهدت فيه المجالس العسكرية الحاكمة في الدول الثلاث بالتضامن لمواجهة أي اعتداءات على أراضي أي دولة منها.
في المقابل فإن القرار الفرنسي بالانسحاب الكامل كان نتيجة طبيعية لفشل مقارباتها السياسية في مستعمراتها الأفريقية، وفشلها في حلفائها الغربيين ولا سيما الولايات المتحدة الأمرية لتدخل عسكري في النيجر يعيد الرئيس بازوم وينهي الانقلاب.
الفشل ذاته رافق الأداء الفرنسي عند محاولتها حشد حلفائها في دول غرب أفريقيا الذين رفضوا المشاركة في تدخل عسكري فرنسي مباشر، كما رفضوا بشكل غير معلن الانخراط في أي توجهات لتدخل عسكري عبر “أيكواس” قد يجلب للنيجر ولبلدانهم الكثير من الويلات.
وخلال الإعلان عن قرار باريس سحب قواتها من النيجر، بعد تجاذبات استمرت شهرين مع المجلس العسكري كانت نبرة المرارة واضحة في تصريحات الرئيس ايمانويل ماكرون وكشفت عن انسحاب مُذل.
ذلك أن باريس كانت في الواقع وحيدة في مواجهة المجلس العسكري، بعد أن سارعت حليفتها الولايات المتحدة في بداية الأزمة لاتخاذ موقف برغماتي مغايرا للموقف الفرنسي المشجع للعمل العسكري، وخصوصا بعد إعلان مسؤولة بوزارة الدفاع الأمريكية إن إمكانية استخدام الخيار العسكري في النيجر تثير قلق الولايات المتحدة، ما اضطر باريس إلى الخضوع لشروط ومطالب المجموعة العسكرية الانقلابية التي طالما رفضت باريس الاعتراف بها وبقراراتها المناهضة للتواجد الفرنسي في أراضيها.
وكان ملاحظا تجاهل الرئيس ماكرون الحديث عن الرئيس المعزول محمد بازوم بوصفه الرئيس الشرعي وتوقفه عن الحديث عن دور عسكري محتمل لمجموعة التعاون الاقتصادي لدول غرب أفريقيا “ايكواس” واكتفائه بإعلان “انتهاء التعاون العسكري مع النيجر وبدء المغادرة التدريجية لـ 1500 جندي فرنسي.
انسحاب مذل
لأبعد من مجرد الشعور بالاستقلال وإنهاء النفوذ، فإن إعلان سحب القوات الفرنسية من النيجر في عملية منسقة مع المجلس العسكري الحاكم تستمر حتى نهاية العام الجاري، مثل انتصارا للمجلس العسكري في معركة تحييد باريس عن أي عملية عسكرية مباشرة أو غير مباشرة تستهدف الإطاحة بالانقلاب، ناهيك بما مثله من انتصار سياسي بانتزاع اعتراف فرنسي ضمني بسلطة المجلس العسكرية وانتهاء حقبة حكم الرئيس المعزول محمد بازوم الموالي لباريس.
وعلى أن هذه الخطوة جاءت وسط نجاحات حققها المجلس العسكري بحشد الشارع المناهض لتواجد القوات الفرنسية وإنهاء العلاقات الاقتصادية والتجارية معها باعتبارها استعمارية تستنزف موارد الدولة الفقيرة وتفسد حياتها السياسية بدعمها أنظمة ديكتاتورية، إلا أن المشهد أثار الشكوك من أن مطالب خروج القوات الفرنسية كان لأغراض سياسية في ظل تواجد الكثير من القوات الأجنبية الأمرية والإيطالية والألمانية والأوروبية في الدولة النيجرية.
والمعروف أنه وحتى وقت قريب كانت فرنسا تعتمد على نفوذها السياسي في النيجر، واضطرت لنشر قوات في النيجر في أعقاب انسحابها الاضطراري من مالي وبورنا فاسو في 2022 وأوائل 2023، لتتمركز في 3 مواقع رئيسية هي القاعدة الجوية العسكرية الأمريكية الفرنسية المشتركة 101 بالعاصمة نيامي بنحو ألف عسكري فرنسي و800 جندي أمري يعملون بمهام مشتركة وعدد اقل من القوات العسكرية الأوروبية الذين يعملون بمهام تدريبية عسكرية ومدنية فضلا عن قوات أخرى قوامها 500 جندي في مركزي “دعم” بمنطقتي ولام وتيلابيري.
وبحسب الترتيبات المعلنة من باريس ونيامي فإن خطة سحب القوات بدأت قبل أسابيع بـسحب باريس 400 جندي من منطقة ولام الواقعة على طول الحدود بين مالي والنيجر على أن يتم بعد ذلك سحب القوات المتمركزة في قاعدة نيامي الجوية بحلول نهاية العام الجاري.
لكن هذه الترتيبات لم تشمل القوات الأجنبية الأخرى المتواجدة في النيجر فهناك قوات أمريكية قوامها 1100 جندي في قاعدتين جويتين وقوات المانية تقدر بنحو 110 جنود في يتمركزن في قاعدة عسكرية في نيامي كما أن هناك قوات إيطالية قوامها 250 جندياً، فضلا 100 جندي تابعين للاتحاد الأوروبي.
وكان واضحا أن المجلس العسكري الحاكم لم يطلب من هذه القوات مغادرة البلاد بل أن الناطق باسم المجلس العسكري العقيد عبد الرحمن أمادو أكد أنه لا توجد مشاكل مع القوات الغربية الأخرى في النيجر” ما أثار الشكوك حول ما إن كان المجلس العسكري استثمر ورقة القوات الفرنسية لتثبيت دعائم حكمه خصوصا مع التغير الجديد في موقف واشنطن التي أعلنت مؤخرا أن ما جرى في النيجر انقلاب وقرارها قطع المساعدات المقدمة للنيجر، بالتزامن مع شروعها بترتيبات لإعادة تموضع قواتها المتمركزة في العاصمة نيامي ونقلها إلى مناطق أخرى في الشمال النيجري.
فجوات خطيرة
حتى اليوم لا يزال عسكريو النيجر يؤكدون أن تواجد القوات الفرنسية في النيجر اعتمد على ادعاء زائف بمحاربة الإرهاب، غير أن الواقع يقول غير ذلك فالدور الذي لعبته القوات الفرنسية أفلح خلال 8 سنوات بمحاصرة تمدد التنظيمات المتطرفة التي حشدت كل جهودها للتوسع في مناطق مثلت الرعب الواقع على الحدود بين النيجر ومالي وبورنا فاسو.
مع ذلك يراهن البعض على أن انسحاب القوات الفرنسية سيكون مفيدا من ناحية أن التنظيمات الإرهابية المنتشرة بكثافة في مناطق المثلث الحدودي سيفقدون الذرائع التي تطغى على خطابهم السياسي لـ”الجهاد ومحاربة الكفار الذي يحتلون مناطقهم”.
هذا الرهان لا يبدو واقعيا، فالتنظيمات المتشددة دائما ما ترفع هذه الشعارات للحفاظ على تواجدها والمضي بمشاريع توسعها، في حين أن أي فراغ في القوات المؤهلة لمثل هذه المواجهات يمكن أن يعزز من قدرات التنظيمات الإرهابية المتطرفة في تلك المناطق ولا سيما جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة الذي يخطط للسيطرة على الحكم في النيجر وتحويلها إمارة إسلامية.
وفقا لذلك يرجح البعض أن تشهد مناطق المثلث الحدودي توسعا كبيرا يمكن قياسه بما حدث في هذه المناطق غداة سحب القوات النيجرية التي كانت مكلفة بمواجهة التنظيمات المتشددة هناك وسيطرت التنظيمات المتطرفة عليها من اليوم التالي.
وعودة التنظيمات الجهادية الانتشار في هذه المنطقة لن يكون كارثيا فقط على النيجر بل على دول الساحل الأفريقي كاملة، فهي تعتبر من أهم البؤر التي ينشط فيها تنظيما “القاعدة وداعش” وقد تتحول إلى منطقة استقطاب وتجنيد رئيسية لهذه التنظيمات في ظل غياب جهود المكافحة وطول أمد الاضطرابات السياسية وظروف الفقر.
وتزداد الآثار السلبية على النيجر لكون تنظيم “نصرة الإسلام والمسلمين” المرتبط بتنظيم القاعدة” ينشط في النيجر ضمن أجندة محلية تسعى إلى السيطرة على الحكم وإقامة إمارة إسلامية، ما سيجعلها مؤهلة لجذب كل التنظيمات المتطرفة الناشطة في غرب أفريقيا وشمالها.
والتجارب المشابهة في مالي وبورنا فاسو بعد انسحاب القوات الفرنسية والقوات التابعة للأمم المتحدة منها، تقدم دليلا، حيث أدى انسحاب القوات العسكرية المالية من العديد من معسكراتها في الشمال إلى توسع نفوذ التنظيمات المتطرفة والحال كذلك في بونا فاسو التي سجلت سقوط أكثر من الفي قتيل في عمليات إرهابية وسط تصاعد خطير للعمليات الإرهابية خلال العام الماضي في كل أراضي الدولة.
تنصل عن المسؤولية
بعد بدء انسحاب القوات الفرنسية، بدا أن المجلس العسكري كان مدركا لتداعيات هذا الحدث، فرئيس المجلس العسكري عبد الرحمن تياني اقر بوضوح أن القوات الفرنسية كانت متواجدة في بلاده لمكافحة الإرهاب وانهم أوقفوا من جانب واحد كل أشكال التعاون، معلنا أن الشعب النيجري “هو الذي “سيحدد العلاقة المستقبلية مع فرنسا” بما اعتبره البعض تنصلاً مبكراً عن مسؤولية أي تداعيات سلبية لقرارات المجلس العسكري في إنهاء مهام القوات الفرنسية في الحرب على الإرهاب.
هذا التقدير المثير للجدل بدا واقعيا فالجيش النيجري غير مؤهل حتى اليوم لمواجهة مخاطر تمدد المجموعات الإرهابية، والتاريخ القريب يؤكد أن هجمات التنظيمات الإرهابية تتزايد في كل مرة يجري فيها انقلاب عسكري مع استمرار تلك الجماعات في استغلال الفوضى الأمنية.
ويمكن القول إن التقديرات التي أعلنها وزير الجيوش الفرنسي سيباستيان لوكورنو والتي توقع فيها انهيارا سريعا لمنطقة الساحل في أعقاب انسحاب القوات الفرنسية من مالي وبورنا فاسو كانت واقعية إلى حد ما، فالبلد الغارق بالأزمات الاقتصادية ويعاني حاليا من تبعات العقوبات الأفريقية لن يستطيع مواجهة توسع التنظيمات الإرهابية في بلد أغلب سكانه أقرب إلى التشدد الإسلامي منه للدولة المدنية.
واحتمالات حصول النيجر على دعم روسي عبر مجموعة “فاغنر” المتواجدة في مالي وبونا فاسو لا يبدو واقعيا في المدى القريب على الأقل، فالشارع النيجري يراقب عن كثب توجهات المجلس العسكري ووعوده بعدم استبدال القوات الفرنسية بأخرى روسية، كما أن الولايات المتحدة والغرب بصورة عامة لن يسمحوا بحصول هذا التقارب.

قد يعجبك ايضا