خطوة متقدمة داخليا تواجه مكابح التوافق الدولي
إقرار «القاعدة الدستورية» في ليبيا هل يقود الفرقاء إلى الانتخابات؟
بعد نحو عامين من الجمود في ملف الأزمة الليبية تجاوز الأطراف السياسية المتصارعة على السلطة مؤخرا عقبة الإقصاء السياسي بتوافق لجنة الـ 6+6 وموافقة البرلمان على قوانين انتخابية تتيح لجميع الأطراف الترشح في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية دون إقصاء أحد، في خطوة فتحت الباب لسجالات سياسية جديدة حول تحدي تشكيل الحكومة الموحدة التي ستقود ليبيا إلى الانتخابات، في ظل انقسام داخلي ودولي عميق.
الثورة / أبو بكر عبدالله
لربما لعبت كارثة الفيضانات التي هزت المجتمع الليبي بمكوناته السياسية المتناحرة في إقليم درنة دورا مهما في دفع أطراف الصراع الليبي المستمر منذ 12 عاما للتسريع بإنجاز القوانين الانتخابية أو ما اصطلح على تسميته «القاعدة الدستورية» التي طالما عرقلت تنظيم انتخابات انتظرها الليبيون طويلا لإخراجهم من أطول أزمة انقسام وصراع مسلح يعيشونها منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي.
هذه المرة أعلن رئيس البرلمان عقيلة صالح بصوت واثق اصدار البرلمان بإجماع قوانين الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقدمة من لجنة الـ 6+6 المؤلفة من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة وتشكيل لجنة لقبول طلبات الترشح لرئاسة الحكومة الجديدة الموحدة التي ستحل محل الحكومتان اللتان تتنازعان الشرعية في شرق البلاد وغربها.
أهم ما في هذه القوانين أنها تجاوزت واحدة من أكثر العقبات التي حالت دون تنظيم الانتخابات لخمس مرات، بإقرارها التخلي عن سياسة الاقصاء والسماح لكل الليبيين الذين تتوفر فيهم الشروط الخاصة بالترشح لخوض المعركة الانتخابية سواء كانوا مدنيين أم عسكريين بما فيهم مزدوجي الجنسية وأكثر من ذلك منحها الفرصة لكل من يترشح ويخسر الانتخابات العودة إلى وظيفته السابقة».
توافق داخلي استغرق الكثير من الوقت لكنه في النهاية مثل انتصارا وطنيا بإزلته الكثير من الألغام التي حاولت بعض الأطراف الداخلية والدولية وضعها بداخل القوانين لمنع ترشح بعض الشخصيات السياسية والعسكرية وتفصيلها على مقاسات شخصيات معينة للإمساك بمقاليد الحكم.
على أن القوانين المقرة ستشكل أساساً لتوحيد السلطة في البلاد وإنهاء الانقسام الحكومي الحاصل منذ سنوات وتحقق رغبة الليبيين في انتخابات ديموقراطية تنافسية تضع من يختاره الشعب الليبي على سدة الحكم، إلا أن النيات الحسنة بالخروج من دوامة الصراع والفوضى ولانقسامات بإصدار «القاعدة الدستورية» لا تزال تواجه بعض العقبات التي قد تجعل من هذه الخطوة درجة أولى في سلم طويل يحتاج الليبيون لاجتيازه إلى سنوات.
اتجاهات عامة
حتى اليوم لم ينشر النص النهائي لقوانين الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، لكنها تبدو واضحة استنادا إلى المشاريع السابقة والتي توقف البحث فيها في قضية شروط الترشح للانتخابات الرئاسية التي جاءت النسخة الأخيرة منها متضمنة حلا توافقيا لها على قاعدة المشاركة الجماعية دون أقصاء لأحد.
على أن البرلمان الليبي أعلن موافقته على إصدار القوانين إلا أنه لم ينشر محتواها في الجريدة الرسمية، ما جعل إعلان رئيس المجلس النيابي عقيلة صالح اشبه بتطمينات بحتمية المصادقة على التشريعات المقدمة من لجنة الـ 6+6 بعد أن كان أخضع مشاريع القوانين للتصويت بل أخاضعها للنقاش والمصادقة عليها وإصدارها بصورة رسمية.
لكن البعض اعتبر أن خطوة إقرار التشريعات بإجماع لجنة الـ 6+6 ، من وجهة النظر الدستورية والقانونية أساسية حيث أن إقرارها من اللجنة المشتركة المؤلفة من البرلمان والمجلس الأعلى للدولة تعني أنها صارت نافذة استنادا إلى الصلاحيات التي منحها التعديل الدستوري الـ 13 للجنة المشتركة في إعداد القوانين بشكل نهائي وتقديمها للبرلمان للمصادقة عليها دون تعديلات ولم يتبق سوى إعلانها ونشرها في الجريدة الرسمية.
وبعيدا عن التجاذبات السياسية الحاصلة حول الآلية المتبعة في إقرار القوانين الانتخابية، فقد حظيت الخطوة بترحيب من الشارع الليبي خصوصا وأنها تجاوزت عقدة الخلاف الرئيسية المتعلقة بترشح العسكريين ومزدوجي الجنسية، والتي كانت من أهم العقبات التي حالت دون انجاز القوانين خلال الفترة الماضية.
ومن جهة ثانية فقد قللت هذه الخطوة من حدة التوتر بين الأطراف المتصارعة بعد أن أرسلت تطمينات للجميع بحقهم في خوض المعترك الانتخابي بصورة ديموقراطية تنافسية دون الحاجة إلى فرض سلطة الأمر الواقع بالقوة المسلحة ودون الحاجة إلى الحصول على دعم مدفوع لمصلحة أطراف خارجية تتنافس للسيطرة على الموارد الليبية.
الحكومة الموحدة
في ظل المرارات التي عاناها الشعب الليبي من وجود حكومتين تتنازعان الشرعية في شرق البلاد وغربها صارت قضية تشكيل حكومة موحدة تحل محلها موضع تأييد أكثر النخب السياسية والبرلمانية التي ترى ضرورة تشكيل الحكومة قبل إحالة القوانين الانتخابية إلى المفوضية العليا للانتخابات بما يمكن هذه الحكومة من قيادة البلد نحو الانتخابات.
هذا التوجه تضمنته المادتان (86) و(90) من القانون اللتان نصتا بشكل واضح على تشكيل حكومة واحدة لإدارة الدولة نحو انتخابات بحيث لا يشارك رئيسها ولا وزراؤها في الانتخابات، في صيغة عكست التوافق الجديد بين رؤية الأطراف السياسية الليبية مع المقترحات التي حملها المبعوث الأممي الجديد إلى ليبيا عبد الله باتيلي بتنظيم الانتخابات تحت إدارة حكومة موحدة تهيئ المناخ اللازم لنجاح العملية الانتخابية والقبول بنتائجها.
وعلى أن رئيس مجلس النواب اعتبر هذا الأمر «أحد أهم استحقاقات المرحلة التمهيدية لإجراء الانتخابات» فإن احتمالا أن يواجه هذا الاستحقاق عراقيل ولا سيما من الرئيس الجديد للمجلس الأعلى للدولة محمد تكاله المقرب من رئيس حكومة الوحدة الوطنية المقالة عبد الحميد الدبيبة الذي يرفض الاعتراف بأي حكومة سوى التي يشكلها البرلمان المنتخب.
والبعض لا يزال ينظر لقضية تشكيل حكومة موحدة تنهي الانقسام الحكومي الحاصل بين شرق البلاد وغربها كواحدة من أكثر العقبات التي تهدد طموحات الليبيين بتنظيم الانتخابات وذلك بسبب عدم توافق بقية أطراف الصراع على هذه الخطوة رغم التوافق المحرز حولها من البرلمان والمجلس الأعلى للدولة والبعثة الأممية.
وهذا القلق يبدو مشروعا فوجود حكومتين تتنازعان الشرعية وأطراف أخرى تمتلك قوات عسكرية ومليشيات مسلحة ووكلاء لقوى إقليمية ودولية، سيقود بلا شك إلى تنازع حول أحقية تنظيم الانتخابات وقد يؤدي تشكيك أي طرف بالعملية الانتخابية إلى فقدانها الشرعية والاعتراف في بلد يعاني من حالة عداء وانقسام طويل الأمد يهدد ليس فقط الانتخابات بل ويهدد بفقدان الدولة الليبية أمنها وسيادتها ووحدة أراضيها.
احتمالات الفشل
تحدي تشكيل الحكومة الموحدة لا يقلل من شأن ما تم إنجازه اليوم بشأن «القاعدة الدستورية» فأكثر الفرقاء الليبيين يرون التقدم في إقرار القوانين الانتخابية طوق نجاة من شأنه إخراج ليبيا من حالة الانسداد السياسي التي فاقمت إلى حد كبير من الازمة ومعاناة الليبيين الذين يتطلعون لانتخابات تخرجهم من نفق الأزمات والفوضى والانقسام والتناحر على السلطة إلى حالة الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي.
لكن تجارب النزاعات الليبية في هذا الجانب تثير القلق من احتمال عدم الوفاء بالمواعيد المحددة لتنظيم الانتخابات خصوصا وأن التشريعات الجديدة نصت على تنظيمها خلال 8 أشهر من تاريخ اصدار القوانين من البرلمان وليس من تاريخ إقرارها من اللجنة المشتركة.
ذلك أن هذا التوقيت يعني أنه في حال استغرق البرلمان ثلاثة أشهر لمناقشة التشريعات بما في ذلك احتمالات إعادتها إلى اللجنة المشتركة ثم اقرارها فذلك يعني أن مفوضية الانتخابات لن يكون أمامها سوى في 5 أشهر وهو موعد لن يكون كافيا بل سيفتح الطريق لتأجيلات وسجالات قد تتغير معها المواقف وقد تطيح بكل الترتيبات في أي لحظة.
والراجح أن تأخذ عملية المصادقة النهائية للقوانين في البرلمان وقتا أطول في ظل الحاجة إلى توافقات بشأن تشكيل الحكومة الموحدة وإجراءات تمكينها من فرض السيطرة على كامل التراب الليبي وهو أمر قد يأخذ الكثير من الوقت في ظل الخلافات بين المكونات السياسية الليبية على هذه الجزئية.
ولا أحد حتى اليوم يمتلك ضمانات بمنع اندلاع نزاع مسلح واعمال عنف بعد تشكيل الحكومة الجديدة، وهو سيناريو يتوقعه كثيرون بما في ذلك البعثة الأممية، فهناك قضايا سياسية معقدة خارجة عن السيطرة انتجتها حالة الانقسام في المؤسسات الأمنية والعسكرية والتواجد الكثيف للقوات الأجنبية والكيانات المليشاوية التي تنتظر حصتها من الكعكة والمستعدة لتفجير الحرب في أية لحظة.
الانقسام الدولي
التأمل البسيط للخارطة السياسية في ليبيا يفصح عن انقسامات في المواقف الدولية حيال الانتخابات قضية تشكيل الحكومة الموحدة، وهو أمر لاحظه المبعوث الأممي الجديد إلى لبيبا وعبرت عنه دعوته جميع اللاعبين الدوليين إلى التحدث بصوت واحد والتصرف وفقا لذلك.
وباتيلي كان يشير بلغة دبلوماسية إلى حجم الخلافات الدولية بشأن الانتخابات والتي أفضت في تجارب سابقة إلى الغائها في مشهد يمكن تكرره هذه المرة حتى بعد التوافق المحرز على القاعدة الدستورية.
وما لم يقله باتيلي هو أن جميع الأطراف الليبية كانت استعدت لتنظيم الانتخابات في 2021م وتعرقل تنظيمها بسبب الخلافات بين بريطانيا والولايات المتحدة وروسيا حول ترشح سيف الإسلام القذافي والمشير خليفة حفتر، في دوامة خلافات أفضت في النهاية إلى عرقلة التوافق على القاعدة الدستورية وبالتالي تدمير العملية الانتخابية كليا.
والعديد من المؤشرات تؤكد أن الانقسام في الموقف الدولي تعزز أكثر من قبل، في ظل الصراع الدولي الحاصل في أوكرانيا، وملامحه في الساحة الليبية بدت بوضوح بعد الزيارة التي قام بها المشير خليفة حفتر إلى موسكو والتي حظي خلالها بحفاوة استقبال كبيرة تكللت بلقائه الرئيس فلاديمير بوتين، وهو الحدث الذي أثار غضب الولايات المتحدة مما اعتبر تقارباً روسياً ليبياً.
والموقف الأميركي الغاضب ظهر إلى السطح خلال التحضيرات لمؤتمر دعم درنة بعد أن أبدى السفير الأميركي في ليبيا دعمه لدور فاعل لحكومة الوحدة الوطنية المقالة بقيادة عبد الحميد الدبيبة دون الأطراف الأخرى ما اضطر الحكومة المكلفة من البرلمان في شرق البلاد إلى تأجيل المؤتمر كونه لن يحقق أهدافه طالما وهو لم يحض بدعم أميركي يمكن ان يقنع المانحين بتقديم المساعدات المطلوبة.
هذا الموقف كان بحد ذاته رسالة كافية للداخل الليبي بأن واشنطن لن تتردد باتخاذ أي مواقف لمواجهة التقارب بين المشير حفتر وموسكو ومنها على سبيل المثال تقديم الدعم لسيف الإسلام القذافي بما يعني نقل الصراع إلى مربع جديد أكثر تعقيدا.
ويدرك الليبيون أن المواقف الدولية المتباينة على خلفية الصراع الدولي في أوكرانيا، يمكن أن تنسحب على الشأن الليبي ولا سيما في قضية تشكيل الحكومة الموحدة التي تراهن جميع الأطراف الدولية عليها لفرض الإملاءات والشروط مقابل دعم هذه المشروع.
والموقف الأميركي الأخير من زيارة المشير حفتر لموسكو، ذكرهم بالموقف الأميركي الغربي من آخر زيارة قام بها الرئيس الليبي معمر القذافي إلى موسكو والتي أفضت إلى تحالف دولي أطاح بنظامه في انتفاضة الربيع العربي.
ومن جانب آخر فإن الخلافات الفرنسية الإيطالية كان لها تأثير واضح على مسار الانتخابات الليبية خلال الفترة الماضية، وهذه الخلافات لا تزال قائمة ومن غير المستبعد أن تلقي بتأثيراتها على العملية الانتخابية في حال المضي بتنظيمها في المواعيد المقررة لها.
ولن يكون بعيدا عن ذلك الحسابات الأميركية الصينية حيال التواجد الصيني وكذلك الحسابات التركية مع الشركاء الدوليين سواء في الاتحاد الأوروبي أم مع موسكو على خلفية ملفات الانضمام التركي للاتحاد الأوروبي والحضور الروسي في القوقاز.
ومع ذلك فهناك آمال بإمكانية ان تنعكس التجاذبات والصراعات الدولية لمصلحة الملف الليبي بإعادته إلى أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وهي خطوة ربما تفسح المجال لظهور مواقف دولية داعمة لخارطة طريق يصنعها الليبيون للخروج من أزمتهم المعقدة دون أي تدخلات خارجية.