خليل المعلمي
قال عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين عن اللغة العربية: إن اللغة لن تتطور ما لم يتطور أصحابها أنفسهم، ولن تكون لغة حية إلاّ إذا ارتفع أصحابها إلى مستوى العصر ثقافة وسلوكاً وفهماً، أخذاً وعطاءً.
اللغة العربية هي هوية العرب الناطقة على مر الأزمان، فمنذ القدم في العصور السابقة التي لم تكن فيه الكتابة إلا محدودة كان جل العرب من الحافظين الناقلين والاخباريين ينقلون القصص والأخبار والطرائف والأشعار، فيما القليل والنادر ما كان يتم كتابته مثل المعلقات الشعرية والمعاهدات التي جرت بين القبائل بعضها ببعض أو بين القبائل العربية ودول الجوار.
فاللغة إذن ليست مجرد أداة تواصل ولكنها أم الرموز الثقافية المشكلة لهوية الإنسان، فالأمة بدون لغة هي أمة بدون قلب، وهي جزء رئيس من هوية أي مجتمع وبقدر ما يفرط المجتمع بلغته يفرط في هويته ويعرضها للمسخ والتشويه وهي أيضاً شرط ضروري للنهضة.
لغة القرآن
بعد البعثة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم ونزول القرآن الكريم بلغة العرب وانتشار الإسلام بين الأمصار، كان للقرآن الكريم دور كبير في الحفاظ عليها وتدوينها خاصة بعد أن اهتم ولاة أمر المسلمين بالتدوين والكتابة والترجمة لمختلف العلوم التي خلفتها الحضارات السابقة كاليونانية والهندية والصينية.
وقد استفاد العرب من اختراع الورق واستطاعوا نقل صناعته من سمرقند إلى خراسان، ومن ثم إلى بغداد وكان ذلك في أوائل عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد (170-193هـ)، وكان يطلق عليه اسم “كاغد” وهي كلمة فارسية تعني الورق الحريري يقول ابن خلدون في مقدمته (ثم طما بحر التأليف والتدوين وكثر ترسيل السلطان وصكوكه وضاق الرق عن ذلك فأشار الفضل بن يحيى والي خراسان وابن يحيى البرمكي وزير هارون الرشيد بصناعة الكاغد، وصَنَعَه وكتب فيه رسائل السلطان وصكوكه واتخذ الناس من بعده صحفاً لمكتوباتهم السلطانية والعلمية وبلغت الإجادة في صناعته ما شاءت).
ثراء وتنوع
إن لغتنا لغة القرآن الكريم هي لغة ثرية بمفرداتها وهي واسعة تتسع لكل معاني الحياة وتزيد، فباستطاعتها التعبير عن كل مناحي الحياة ومتطلباتها بألفاظ عربية دون الحاجة للألفاظ الأجنبية.
وما يدل على غزارة اللغة العربية في مادتها اللغوية أن معجم العربي لابن منظور (630 – 711هـ) يحتوي على أكثر من 70 ألف مادة لغوية على الرغم من أن عمره يزيد على سبعة قرون، وهذا المعجم متوسط قياساً لبعض المعاجم المطولة المؤلفة حديثاً مثل تاج العروس للزبيدي (1145 – 1205هـ) الذي أُلّف منذ أكثر من قرنين من الزمان، وبالمقارنة مع اللغة الانجليزية ستجد أن معجم جونسون (1709 – 1784م) يحتوي على 42 ألف كلمة فقط.
جهود اللغويين
ولأن اللغة هي عبارة عن موجات متدافقة في نهر جار متدفق من الاستعمالات للألفاظ والتراكيب المحّدثة والمعرّبة، فقد بذل اللغويون القدماء والمحدثون مجهودات كبيرة في تتبع التغييرات التي تحدث بين فترة وأخرى وبيان مدى مخالفتها للقواعد المستقرة، وتمثل هذه الجهود بطبيعة الحال ثروة وافرة نحاول أن نستعين بها في تحقيق الغاية بل أنها تمثل أحد أوجه الخلاف الأساسية بين الدراسات اللغوية القديمة والحديثة.
ومع هذه الجهود تحولت اللغة العربية مع ازدهار الحضارة العربية والإسلامية من لغة لقوم يعيشون في الجزيرة العربية إلى أن أضحت لسان حضارة وثقافة وأداة لكثير من شعوب الأرض التي دخلت في الإسلام وعشقت لغة القرآن، كما كان أيضاً لعلماء اللغة وأعلامها من الذين تركوا لغاتهم واتخذوا اللسان العربي باعاً طويلاً في خدمة هذه اللغة من الجهود التي لا تقل عن جهود أبنائها.
العولمة اللغوية
تتعرض لغتنا العربية لهجمات عنيفة وإقصاء مخيف من المشهد الثقافي والاجتماعي، فضلاً عن المشهد العلمي، ولم نعد نجد اهتماماً كافياً لتعلم العربية وقواعدها وآدابها وفنونها بين أبنائها وشاعت الأخطاء اللغوية، وأباح أهلها لأنفسهم إقحام مئات الكلمات الأجنبية -وبالذات الإنجليزية- في العربية دون أي مراعاة لاشتراطات ذلك في ظاهرة (تعجيم العربية) وهي كارثة فكرية كبرى.
ومع طغيان نظرية العولمة على مجالات مختلفة ظهرت لنا العولمة اللغوية التي كان لها أثر على الكثير من اللغات العالمية فأصبحت تفقد وظائفها التواصلية والعلمية والثقافية تدريجياً، فالعولمة اللغوية لها مضمون سلبي على المستوى اللغوي حيث بسطت اللغة الانجليزية نفوذها في جميع المجالات المعرفية والحيوية، كما فرضت قوتها على جميع دول العالم دون استثناء.
وكثير من الدول العربية تأثرت بالعولمة اللغوية وأصبح الأمر يهدد نمو العربية الفصحى وبالتالي فأزمة اللغة العربية هي أزمة عولمة واستعمار لغوي، إضافة إلى أزمة العنصر الداخلي أي الإنسان الذي لا يتحمل المسؤولية وإنما يحملها للآخرين.
والمؤكد أن هناك خللاً كامناً في السياسة اللغوية التي تنهجها الدول العربية تجاه اللغة العربية الفصحى وتركها تتخبط في مشكلاتها دون سن سياسة لغوية استراتيجية لمعالجة مشكلاتها والنهوض بها وتبيان الرؤى المستقبلية لوجودها، ثم ضرورة توفير عدالة لغوية للعربية الفصحى في ترابها.
حماية اللغة العربية
وبعكس ما يقوم به أبناء اللغات العالمية الأخرى من اهتمام بلغاتهم وزيادة إنتاجها المعرفي والثقافي والفكري، فإن اللغة العربية الفصيحة مهددة في بقائها بل ومستهدفة ومن أسباب ذلك إهمالها وهشاشة وضعها، لأن متحدثيها ونخبها وشعوبها لم تعد تحميها بما يكفي، وأمام هذا يلاحظ زحف اللغات الأجنبية واللهجات العامية على وظائفها.
وما على الأنظمة العربية إلا التدخل عن طريق سن قوانين لغوية لحماية اللغة العربية الفصحى باعتبارها اللغة الرسمية والوطنية للأمة العربية وضمان استعمالها على أراضيها وتوفير الخدمات الحكومية عبر التدبير لها والنهوض بوضعها المجتمعي والسياسي والقانوني قومياً وإقليمياً ودولياً.