من الحقائق الثابتة والمتجذرة في ذهن كل يمني أن الزراعة ظلت على مر الدهور صمام أمان ومحور ارتكاز البقاء المتميز في بلاد العربية السعيدة وكانت مصدر غياث الأرض والإنسان، لذلك اهتم بها اليمنيون مُنذ القدم وجعلوها أساس بناء أول حضارة إنسانية في العالم، كما تقول كتب التاريخ والشواهد الحية الماثلة على وجه الأرض لتلك الحضارات المتعاقبة ومنها بقايا المدن التاريخية وآثار السدود وحواجز المياه، وهذه الأخيرة اهتدى إليها اليمنيون بعد فترة من الزمن عندما تمكنت دولة معين – على وجه التحديد – من تجاوز مشاكل التمويل وتوطين مقومات البناء من خلال امتهان التجارة بأسلوب راق تخطى كل مألوف في ذلك الزمن وتمثل في إيجاد ممرات وتحميل البضائع ونقلها من وإلى اليمن والقيام بعمل الوسيط التجاري المتمرس بين قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا، حيث تركزت أعمال اليمنيين في تقطيع البضائع وتغليفها بشكل جيد وإعادة التصدير للقيام بأعمال المسوق الماهر، بعد ذلك عرف الناس ذلك الطريق الذي أطلق عليه اليمنيون طريق الحرير، من خلال هذه الوسيلة تغلب اليمنيون على أكبر معضلة متمثلة في شحة المياه وانعدام الأنهار للاستفادة من مياه الأمطار والسيول التي كانت تتدفق من الجبال إلى الوديان واحتوتها السدود والحواجز الجديدة لتصبح مصدرا لري المزروعات في الشتاء عند توقف الأمطار إلى جانب الدور البارز في زيادة كثافة الأمطار، عند ذلك ازدادت برامج الإصلاح الزراعي واتسعت المساحات المزروعة التي وصفها الخالق سبحانه وتعالى بقوله (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال) صدق الله العظيم .
لن أتطرق لبقية النص وما اشتمل عليه من عقاب إلهي لأن الغاية تقتصر على بيان أسلوب الأجداد في مواجهة أي مشكلة تطرأ وتكون سببا في ضعف الإنتاج لذلك فاض هذا الإنتاج عن حاجة الاستهلاك المحلي، وتحولت البلاد من مجرد وسيط للتسويق إلى مصدر مباشر للتصدير، في هذه الأثناء برزت مشكلة جديدة تمثلت في صعوبة السفر عبر المسافات الكبيرة نظراً لفساد الفواكه قبل وصولها إلى مواقع التسويق ما تطلب إيجاد البدائل وأهمها التوسع في زراعة الأنواع النقدية مثل البن والحبوب وتجفيف منتجات الأعناب وتحويلها إلى زبيب والقطن والحرير، وهكذا ازدادت الصادرات وتعددت الأسواق الكفيلة باستيعابها، وحينها تشكلت نواة أول دولة حضارية في العالم .
أوردت ما أسلفت للتدليل على النوايا ووجود العزم وقوة الإيمان الذي يمكن أن تتحول معه البلاد إلى جنات خضراء، وكان هذا أهم عامل مساعد على تطوير الإنتاج الزراعي وزيادة معدلاته واستناداً إلى هذه الرؤية يجب أن نعمل اليوم وتتكامل الجهود لوضع برامج عملية للإنجاز تتجاوز ما حدث في الماضي عندما تحولت وزارة الزراعة إلى مصدر للارتزاق والثراء نتيجة صرف آلاف الحراثات والمضخات والحصادات وحتى الأسمدة و البذور بأوامر فوقية لمئات المشايخ والضباط والواجهات الاجتماعية، وكانت الأوامر تباع من التجار بلا وجود أي مزارع تستفيد منها، وكان صندوق دعم الإنتاج الزراعي والسمكي يمول هذه النفقات .
بعيداً عن المبالغة في الأرقام والوعود الكاذبة يجب أن نعمل اليوم لكي نعيد لليمن ذلك الزهو الحضاري ولدينا مقومات الإنتاج الحقيقية بحيث نستطيع أن نحقق الكثير من النتائج لو أننا فقط بذلنا جهودا للاستفادة من تهامة الغرب وتهامة الشرق، فكلاهما مؤهلتان لتحقيق هذه الغاية إذا ما خلصت النوايا ووجدت القدرات الحقيقية التي تعمل من أجل اليمن فقط لا من أجل الدعاية الإعلامية أو البروبجان أو تحويل المشاريع الكبيرة إلى مجرد بؤر للفساد والارتزاق، وهذا ما أصاب اليمنيين في مقتل على مدى السنوات الماضية، حيث كانت الأراضي تصرف باسم الزراعة وتحول إلى أراض خاصة للمتنفذين، والخشية أن تعود نفس الصورة إلى الواجهة، فنحن اليوم في أمس الحاجة إلى توفير أهم الاحتياجات الضرورية، لا أقول أننا يمكن أن نحقق الاكتفاء الذاتي من القمح بالذات، فهذا مستحيل نظراً لمحدودة الأراضي الزراعية الكبيرة، فالقمح يحتاج إلى مزارع كبيرة جداً لإدخال وسائل الإنتاج الحديثة لكي تقل الكلفة ويستطيع منافسة الخارجي، وهنا تكمن أهمية الاستفادة من التكنولوجيا واستخدام آليات الإنتاج الحديثة للارتقاء بالزراعة، فهل سيعي الجميع هذه المسؤولية ونسير على نهج الآباء بأن نتدرج في كل ما نسعى إلى تحقيقه ونواجه المشاكل أولاً بأول؟! سيظل السؤال محلقاً في سماء اليمن حتى نرى النتائج ملموسة في الواقع، والله من وراء القصد..