تقليص دور المؤسسات بصناعة التوافق قد يعمِّق الانقسام:هل تفلح المبادرة الأممية في دفع الليبيين نحو انتخابات تنهي الأزمة؟
لم تكد التحركات الأممية تجاه الأزمة الليبية تعلن عن نفسها بمبادرة أعلنها المبعوث الأممي للخروج من معادلة التوافقات المستحيلة بخطة لتنظيم الانتخابات الليبية خلال العام الجاري، حتى خرج الفرقاء الليبيون في مجلسي النواب والدولة بتوافق نادر أبقى أوراق اللعبة السياسية بأيديهم غداة المصادقة على تعديل دستوري وضع الكثير من العقبات أمام عربة التسوية الأممية.
الثورة / تحليل / أبو بكر عبدالله
وفقا للصورة العامة التي أعلنها المبعوث الأممي إلى ليبيا في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن الدولي فإن مبادرته الجديدة التي تستند إلى المادة 64 من الاتفاق السياسي الليبي لعام 2015م، والاتفاقات التي توصل إليها الليبيون في السابق سعيا إلى تمكين إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية خلال العام الجاري 2023م.
أما التفاصيل فتشير إلى توجه أممي لإنشاء لجنة تسيير رفيعة المستوى للانتخابات، تتكون من 90 شخصية تمثل أصحاب المصلحة من ممثلي المؤسسات السياسية، وأهم الشخصيات السياسية، وزعماء القبائل ومنظمات المجتمع المدني، والأطراف الأمنية الفاعلة، وممثلين عن النساء والشباب ستتولى مهمة اعتماد إطار قانوني وجدول زمني ملزم لإجراء الانتخابات في 2023م والدفع قدما “بالتوافق حول الأمور ذات الصلة بتأمين الانتخابات، واعتماد ميثاق شرف لجميع المرشحين”.
هذه المبادرة على أنها لم تختلف عن المبادرات الأممية السابقة التي استهدفت احداث اختراق يتيح الخروج من نفق الأزمة بتنظيم انتخابات طالما سعى الليبيون إلى تنظيمها لوضع نهاية للأزمة المستفحلة منذ سنوات، إلا أن العنصر الجديد فيها هو اتجاهها إلى كسر جليد الانسداد الحاصل اليوم في المعادلة السياسية الليبية بعامل خارجي يتجاوز عقبات الداخل من خلال توسيع المشاركة السياسية بما يجعل مجلسي النواب والدولة المسؤولين عن هذا الانسداد، شريكين ضمن آخرين سيتولون صياغة القاعدة الدستورية.
وحتى الآن على الأقل يبدو المبعوث الأممي يحاول بهذه المبادرة الانتقال بالفرقاء الليبيين إلى الخيار القابل للتطبيق كبديل لحالة الانسداد الذي وصلت اليه مشاورات وحوارات المجلسين، خصوصا وهو سيتيح لجنة تسيير يشارك فيها أطراف آخرون سماهم “أصحاب المصلحة” لإعداد قاعدة دستورية توافقية للانتخابات الرئاسية والبرلمانية، بعد أن ثبت استحالة توصلهما إلى توافق بهذا الشأن.
وهذه النتيجة لم تكن الوحيدة التي قدمها المبعوث الأممي في إحاطته الأخيرة لمجلس الأمن فقد تحدث بوضوح عن انتهاء شرعية المؤسسات الليبية القائمة، مؤكدا استمرار الخلافات بداخل النخب السياسية بشأن نقاط حاسمة في القاعدة الدستورية وصعوبة التوافق بينها.
ورغم ترحيب المجلس الرئاسي الليبي بالمبادرة الأممية، ومعه العديد من السياسيين والناشطين الذين بدوا يائسين من إمكانية توصل الفرقاء الليبيين لتوافق يتيح إجراء الانتخابات، إلا أن المبادرة الأممية كانت موضع انتقاد أطراف سياسية كبيرة، يتصدرها رئاسة البرلمان التي تحدثت عن “الملكية الليبية للعملية السياسية” في إشارة إلى رفض أي مبادرات تزيح المكونات الليبية الشرعية جانبا.
الحال كذلك مع المجلس الأعلى للدولة الغريم السياسي لمجلس النواب، والذي لم يعلن موقفاً صريحاً بشأن المبادرة الأممية إلا أن مصادقته على التعديل الدستوري الـ 13 كانت بمثابة رسالة برفض المبادرة وإعلان بتمسك المجلس ببقاء المعادلة السياسية بيد الأطراف الليبية.
توافقات شكلية
كان واضحا أن الخطوة التوافقية الجزئية التي حققها مجلسي النواب والدولة في المصادقة على تعديل الإعلان الدستوري الذي وضعه الليبيون بعد الإطاحة بنظام معمر القذافي عام 2011م، بجعله السلطة التشريعية مكونة من مجلسين هما النواب ومقره بنغازي والشيوخ ومقره العاصمة طرابلس، وسلطة تنفيذية يرأسها رئيس منتخب مباشرة من الشعب، أخفقت في إنجاز القاعدة الدستورية للانتخابات بعد أن قرر التعديل المقر ترحيل المواد المتعلقة بشروط الترشيح إلى القانون الانتخابي.
وهذا التوافق بدا بالنسبة للمجتمع الدولي والمبعوث الأممي شكليا، خصوصا أنه لم يحل المعضلة الأبرز في ملف الأزمة الليبية المتمثلة بغياب القاعدة الدستورية للانتخابات والتي طالما تسببت في عرقلة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية خلال السنوات الماضية، قدر ما حاول قطع الطريق أمام مبادرة المبعوث الأممي عبدالله باتيلي الذي أفصح أنه اضطر لإعلان “آلية بديلة” تتيح تنظيم الانتخابات خلال العام الجاري بسبب استمرار الخلافات بين المجلسين بشأن القاعدة الدستورية.
ومن جهة ثانية فإن خطوة مجلسي النواب والدولة المصادقة على التعديل الدستوري لم تُقدم حلا لأزمة الانقسام الحكومي بين الحكومة المشكلة من مجلس النواب مطلع عام 2022م برئاسة فتحي باشاغا، وحكومة الوحدة الوطنية المقالة برئاسة عبدالحميد الدبيبة المتمركزة في العاصمة وترفض تسليم السلطة إلا لحكومة تكلف من قبل برلمان منتخب.
توجس ورسائل
ثمة اتفاق بأن خطوة مجلسي النواب والدولة في إقرار التعديل الدستوري الـ 13 لم تكن أكثر من مجرد مناورة لنقل الخلاف إلى جولة صراع قادمة حول القوانين الانتخابية، بعدما ظهرت في الأفق توافقات دولية وأممية بحتمية سحب البساط من المجلسين، أو على أقل تقدير تقليص دورهما في صياغة القاعدة الدستورية من خلال توسيع مشاركة أطياف سياسية وشعبية أخرى لإنجاز هذا الاستحقاق الذي يعول عليه بانتخابات تنقل ليبيا من حال الفوضى وغياب الدولة إلى حال الاستقرار.
لكن الموقف الدولي الذي تحوّل تاليا إلى مبادرة أممية، أثار توجس بعض المكونات السياسية الليبية لما انطوى عليه من توجه بتجاوز مجلسي النواب والدولة، خصوصا وأن إعلان المبادرة الأممية جاء بعد عقد المبعوث الأممي اجتماعا في واشنطن جمعه بممثلين من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وتركيا ومصر وقطر والإمارات، خُصص لحسم ملف الانتخابات في ليبيا بصورة نهائية.
وتوجس الأطراف الليبية بدا واضحا في اتجاه المجلس الأعلى للدولة الذي كان تحفظ على التعديل لدستوري الـ13 المصادق عليه من البرلمان في وقت سابق، حيث صادق عليه بصورة مفاجئة في جلسة غير مكتملة النصاب وقبل نشر مجلس النواب التعديل في الجريدة الرسمية، في خطوة أراد من خلالها قطع الطريق أمام التوافق الدولي الداعم للمبادرة الأممية والإبقاء على الكرة في ملعب الأطراف الليبية.
وهذا الأمر دعا المبعوث الأممي إلى التأكيد على أن الخلافات بشأن القاعدة الدستورية لا تزال مستمرة وأن التعديل الدستوري المصادق عليه مؤخرا، لم يعالج النقاط الخلافية الأساسية ولا سيما شروط الترشح للانتخابات الرئاسية، وهي القضية الجوهرية التي تعني أن لا انتخابات ستنظم في ليبيا طالما لم يحدث توافق بشأن شروط الترشح للانتخابات.
وكان المبعوث الأممي يشير إلى أن الحوارات التي دارات خلال الفترة الماضية بين المجلسين، لم تفض إلى توافق حقيقي، وما حدث هو مسارعة البرلمان للمصادقة على تعديل دستوري تضمن بعض النقاط الثانوية التي تم التوافق عليها، في حين أنه رحل النقاط الخلافية الأساسية بشأن القاعدة الدستورية إلى جولة تالية.
ورغم أن هذه الانتقادات كانت حاضرة في المشهد الليبي بعد المصادقة على التعديل الدستوري إلا أنها انتقلت إلى الدائرة الأممية بالمواقف التي تبناها المبعوث الأممي الذي أكد أن التعديل الدستوري لم يضع خارطة طريق ملزمة تحدد فترات معينية لإعداد قوانين الانتخابات والموعد الملزم لجميع الأطراف بتنظيم الانتخابات الرئاسية وكذلك انتخابات مجلس النواب وانتخابات مجلس الشيوخ، وأكثر من ذلك اعتباره أن التعديل “يضيف تعقيدات جديدة يتصدرها تمثيل الجهات في مجلس الشيوخ.
بين النجاح والفشل
يمكن القول إن المبادرة الأممية حظيت بتأييد من الشارع الليبي انطلاقا من يأسه من قدرة نخبه السياسية إنتاج حل توافقي، وهو موقف تناغم مع مواقف بعض دول الإقليم المشاركة في الملف الليبي وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي دعت عبر سفارتها في طرابلس الأطراف الليبيين إلى التعاطي بإيجابية مع الخطة الأممية.
لكن هذا التأييد لا يكفي لتوقع إمكانية نجاح المبادرة الأممية في الذهاب بليبيا إلى انتخابات خلال العام الجاري،
وطالما بقي الخلاف على القاعدة الدستورية قائما، ناهيك عن أن المبادرة الأممية لم تقدم تصورات لإنهاء الانقسام بين حكومتي شرق ليبيا وغربها في حين أنها تدعو إلى حكومة موحدة تتولى تنظيم الانتخابات وتأمينها.
ومن جانب آخر فإن خطة المبعوث الأممي رغم أنها تحاول إحداث اختراق على طريقة المستشارة الأممية السابقة ستيفاني ويليامز، إلا أن مسارها العام لا يبدو كذلك، فالعنصر الرئيسي فيها هو كسر الانسداد من خلال تقليل دور مجلسي النواب والدولة في صياغة التوافقات السياسية وهي خطوة قد تواجه بالرفض، في حين أن فرضها قد يؤدي إلى تعميق الانقسام المؤسسي بل وتدمير شرعية البرلمان المنتخب ما سيقود إلى تبعات قد تجر الليبيين إلى نفق مظلم.
وهذا الأمر لن يكون بعيدا في ظل الانقسام الحاصل بين حكومتين تتنازعان الشرعية، ومجلسين هما (النواب والدولة) يتبادلان الرفض والتعنت، وهو الانقسام الذي أبقى قضايا كبيرة ومهمة مثل الدستور موضع تجاذبات، رغم مرور عشر سنوات على انتخاب اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور.
وشروط الترشح للانتخابات الرئاسية ليست القضية الخلافية الوحيدة فالأطراف السياسة محشورة بخلافات عميقة بشأن نظام الحكم بين من يريده برلماني ومن يريده رئاسي ومن يريده مختلط ناهيك عن الخلاف بشأن هوية الدولة عربية أم أفريقية أم إسلامية فقط، وأكثر منه الخلاف حول شرعية القوات العسكرية والمليشيا والقوات الأجنبية المتمترسة على طول وعرض البلاد.
وفي المحصلة فإن التأييد الأمريكي الغربي للمبادرة الأممية، لا يعني أن الطريق سيكون معبداً أمامها تماما فالذاكرة الليبية لا تزال تحتفظ بمقررات مؤتمر باريس حول ليبيا العام الماضي، والذي حشد اجماعا دوليا على تنظيم الانتخابات في ظل التلويح بسلاح العقوبات، دون الاكتراث للأرضية الدستورية القانونية التي تشجع الليبيين للالتفاف حولها، ما جعلها تتعثر من اليوم الأول، وهي اليوم تبدو كذلك في ظل إصرار المكونات الليبية الرئيسية على رفض أي املاءات خارجية.
عقبات إضافية
ما سبق ليس كل العقبات التي يمكن أن تواجهها المبادرة الأممية للانتخابات في ليبيا، فثمة مشكلات أخرى على صلة بالتعديل الدستوري الـ 12 الذي أقره البرلمان الليبي سابقا، ونص على تشكيل لجنة مكونة من 24 خبيراً تتولى مراجعة مواد الخلاف في مسودة الدستور.
وهذا التعديل نص كذلك على إحالة مشروع الدستور إلى مفوضية الانتخابات للاستفتاء الشعبي بعد انتهاء اللجنة من عملها خلال 45 يوماً من تاريخ إصدار التعديل، كما منح لجنة أخرى من مجلسي النواب والدولة القيام بمهمة اعداد قاعدة دستورية وقوانين انتخابية ملزمة للطرفين لدورة رئاسية وبرلمانية واحدة في حال فشلت لجنة الخبراء في إجراء التعديلات خلال الموعد المحدد.
وأكثر من ذلك فهو ينص على أن اصدار قانون الاستفتاء وقوانين الانتخابات العامة يتم بالتشاور بين مجلسي النواب والدولة، وهي أمور تعني أن مضي المبادرة الأممية سيحتاج إلى تعديل دستوري يصعب أنجازه دون توافقات مع مجلسي النواب والدولة، اللذين يعلنان صراحة اليوم أن المبادرة الأممية تسعى لإقصائهما من المعادلة السياسية.
ومع ذلك يمكن الحديث عن فرص نجاح محدودة للمبادرة الأممية في اعتمادها مبدأ توسيع المشاركة بصياغة القاعدة الدستورية وقوانين الانتخابات سبيلا للخروج من الأفق المسدود، وهو معطى قد يمنحها فرصا للنجاح تبقى مرهونة بمدى قدرة الضغوط الدولية على تغيير المعادلات القائمة.