كل أزمات الدول جذرها اقتصادي في المقام الأول وحين تغيب المعرفة عن البناءات العامة للدولة تصبح قضية الناس وقضية الدولة أكثر تعقيدا أو أكثر تشظيا وفي اليمن ما يزال الاقتصاد يراوح دائرة الاستهلاك ولم ينتقل منها إلى دائرة الإنتاج، وفي مظاهره العامة هو اقتصاد سياسي يولي ظاهرة التناقض الاجتماعي أهمية بالغة ولا يكاد ينتقل منها إلى سواها أكثر ديناميكية وأكثر تفاعلا في بنية الاستقرار السياسي إذ أنه يساهم في تعميق الانشقاقات والانقسامات في البنية الاجتماعية وذلك من خلال الصراع بين الرغبة في الثروة والرغبة في حماية الأقوى والأكثر عدداً وتمكيناً في إدارة الثروة وامتلاكها، وقد يفضي ذلك إلى القول أن الصراع بين الجماعات والطوائف والكيانات – والذي تشهده اليمن منذ مطلع الألفية الجديدة حتى الآن – دال على التدهور المتنامي للواقع الاجتماعي وفي جوهره دال على تردي الوضع الاقتصادي وبنيته المتخلفة.
ومن هنا يصبح القول بمعالجة المنظومة الاقتصادية على أسس واضحة من الشراكة الوطنية والعدالة الاجتماعية ضرورة وطنية ملحة فهي العامل الأكثر أهمية في عملية الاستقرار ومن ثم عملية الانتقال إلى الدولة المدنية الحديثة القائمة على مبادئ الحق والعدل وتكافؤ الفرص والشراكة.
ثمة حقائق موضوعية علينا إدراكها وهي أن الذي يهيمن على واقعنا الاجتماعي في اليمن هو الاقتصاد المعاشي أي الإنتاج من أجل الحياة والقليل من أجل السوق والوقوف عند هذه الظاهرة وإخراجها من دائرة الاستهلاك إلى دائرة الإنتاج التي تحمل خاصية القيمة الزائدة تتطلب وعيا ومصفوفة من المعالجات في البناءات التنظيمية والهيكلية والتشريعية فالزراعة في اليمن تسيطر على مجمل البناءات في الهيكل الاقتصادي وبرغم ذلك فنحن نستورد الحبوب بأنواعها وقد كنا نحقق منها فائضا .
مثل هذا التدهور لم تقف أمامه السياسات العامة للحكومات المتعاقبة فهي سياسات تعمل على تجديد إنتاج بنية التخلف في الهيكل الاقتصادي الوطني ومن هنا فنحن نرى أن الدعم الذي كانت الدولة تنفقه على المشتقات النفطية إسهاما منها في التقليل من تكاليف الإنتاج ثبت عبر التجارب والسنين أنه غير مجد فهو لم يعمل على الخروج من دائرة الاقتصاد المعاشي ولم يساهم في بنية الاقتصاد الوطني بأي قيمة زائدة .. بل نكاد نقول أن دعم المشتقات النفطية كان مناخاً ملائماً للفساد عمق حالة الانقسامات في البنى المختلفة، فنحن مثلا نقول إننا ندعم الزراعة باعتبارها تهيمن على مجمل الهيكل الاقتصادي وندرك أن الدعم لا يصل بل أصبح بيئة ملائمة للفساد.. إذن البديل يكون في الدعم المباشر للإنتاج وبحيث يرفد من خلال قيمته الزائدة ميزان المدفوعات بالعملة الأجنبية، وذلك من خلال شراء المنتج بسعر تشجيعي ووفق شروط ومقاييس الجودة العالمية وبمثل ذلك نكون قد وظفنا الدعم في مساره الإنتاجي السليم وعملنا على التقليل من مخاطر الإنتاج الزراعي الذي يتجاوز مقاييس الجودة ويترك أثرا صحيا على المواطنين وفي السياق ذاته نضمن سوقا إقليميا وعربيا وعالميا لمنتجنا الزراعي والسمكي وقد نعمل على تحريك عجلة الاقتصاد المادي والخدمي وهي عملية ديناميكية ذات تواشيح ومثل ذلك قابل للتحقق من خلال تضافر المؤسسات القائمة كالمؤسسة الاقتصادية وبنك التسليف الزراعي وصندوق الدعم الزراعي ووزارة الزراعة والري ولا يمكن ذلك إلا بعد إعادة تجديد الأهداف والمنظومة التشريعية والأدوات الإجرائية وبشكل مبسط يوفر الوقت والجهد , فالتقنية الحديثة قد ساعدت الإنسان كثيرا في هذا الباب.
ووفقا لمبدأ الشراكة الوطنية في الثروة والسلطة يتوجب إعادة النظر في الهيكل الاقتصادي وترتيبه وبحيث يحقق البعد الفلسفي الاجتماعي لجوهر الشراكة , فاقتصاد الدولة يجب أن لا تحتكره جماعات بعينها أو أفراد بعينهم ولا بد أن يكون التفاعل عبر شركات مساهمة وطنية وقد يصبح الإسراع في فتح سوق الأوراق المالية ضرورة اقتصادية مع التدرج في تحقيق متطلبات ضرورتها التشريعية والبنيوية مع إعادة النظر في التشريعات النافذة والقيام بالتعديل وفق ضرورات التجديد والتحديث .
ولا بد من معرفة أننا نعيش مستوى حضارياً واقتصادياً يختلف كل الاختلاف عن المستوى الذي عاش فيه فقهاء القرن الثاني والثالث والرابع الهجري , ولذلك فكل رأي يستند إلى تلك الفترات دون وعي بحركة الاقتصاد أو معرفة بنظم الاقتصاد المعاصر وموازين النمو ومؤشرات الانهيار يصبح قاتلاً ومدمراً لحركة الحياة في عالمنا المعاصر ويخلق بيئة غير ملائمة ومناخا للصراع وشرائع الغاب .
فحالة الاستقرار في اليمن ضابطها الأساس هو البناءات الاقتصادية القادرة على تحقيق العدالة الاجتماعية والشراكة في أبعادها الفلسفية المختلفة , والقادرة على تخفيف حدة الصراعات والخروج من دائرة الاقتصاد السياسي الهادف إلى إدارة التناقضات الاجتماعية إلى دائرة الاقتصاد الوطني وفق أسس وقواعد الشراكة الوطنية من أجل التنمية والاستقرار .