عنصرية أمريكا.. النفط أغلى من حياة السود.. تكساس نموذجًا

د. علي دربج

 

 

مخطئ من يظن أن ظاهرة العنصرية وغيرها من الممارسات البغيضة المنتشرة بكثرة في المجتمع الأمريكي، كاضطهاد واحتقار الأعراق والأقليات الملونة الأخرى، لا سيما أصحاب البشرة السمراء، والاستخفاف بحياتهم والتعامل معهم بدونية، وحرمانهم من حقوقهم الإنسانية الأساسية، تقتصر فقط على الجماعات اليمينية المتطرفة (والجمهوريين الترامبيين المترتبطين بهم) الذين يمجدون الإنسان الأبيض.
فالشواهد التاريخية والآنية، تشير إلى أن هذه السلوكيات متغلغلة في أذهان ونفوس غالبية الساسة الأمريكيين، منذ المؤسسين (بمن فيهم الحزب الديمقراطي وإن كان قادته قد عينوا شخصيات من أصحاب البشرة السوداء في مناصب مهمة كنائبة الرئيس كاملا هاريس مثلا) حتى يومنا هذا، والدليل الأبرز على ذلك، هو الحرص على تركيز صناعة النفط في منطقة “بورت آرثر” في ولاية تكساس، بالقرب من خليج المكسيك، والتي تعد نقطة ساخنة لتكرير وتصنيع المنتجات البترولية لأكثر من قرن.
ما علاقة صناعة النفط في تكساس بالعنصرية؟
في الحقيقة، تعدّ مدينة “بورت آرثر” في ولاية تكساس “منطقة تضحية”، وهي واحدة من العديد من المجتمعات الملونة ذات الدخل المنخفض والتي تحمّلت تكلفة النمو الاقتصادي للبلاد.
كما أنها موطن لثلاث مصافي نفط، محطتان للغاز الطبيعي السائل، وما لا يقل عن 40 منشأة أخرى تطلق السموم في الهواء، بسبب حرق الوقود الأحفوري الذي يعتبر خطرًا صحيًا محليًا، بالإضافة إلى تهديده لكوكب الأرض أجمع.
ينحدر العديد من مواطني “بورت آرثر”، من سكان “لويزيانا” السود الذين فروا من قوانين “جيم كرو” الوحشية للولاية المجاورة – وهم أشخاص جرى الضغط عليهم وأسندت اليهم الوظائف ذات الأجور الأقل، والأكثر خطورة في الصناعة. المحزن في الأمر، أنه بالرغم من أن رواتبهم مكنتهم من شراء منازل وبناء مجتمع نابض بالحياة، إلا أن ممارسات الإسكان التمييزية حصرت السكان السود في الجانب الغربي من المدينة، فباتوا محشورين بين خطوط السكك الحديدية، وخطوط سياج المصفاة، أي أنهم أصبحوا موجودين في قلب الخطر البيئي والصحي.
كيف حولت السياسات العنصرية حياة “السود” إلى جحيم على المستوى الصحي؟
في الحقيقة، ومنذ أن استقرّ خيار القيادات الأمريكية، على إنشاء صناعة النفط في المنطقة التي يقطن فيها مواطنين سود ـ بالتالي إبعادها عن المجتمعات ذات الأكثرية البيضاء ـ لم تفارق الكوارث الصحية والبيئة سكان “بورت آرثر”، وأصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتهم اليومية.
فسكان المنطقة السود، فضلا عن استنشاقهم (على الدوام وما زالوا) هواءً لا يفي دائمًا بالمعايير الفيدرالية للأوزون المضر بالرئة، كونه ممزوجا بالبنزين المسبب للسرطان والمواد الضارة الأخرى، فهم يتحملون أيضًا الاضطرابات الروتينية الناجمة عن اشتعال النفط، فضلا عن الحرائق والأبخرة الضارة.
وتبعا لذلك، تشير الدراسات إلى أن خطر الإصابة بالسرطان بين سكان تكساس يرتفع كلما اقتربوا من المنشآت النفطية، فيما وجدت أبحاث أخرى أن تلوث الهواء من مرافق النفط والغاز يرتبط بأمراض الكلى المزمنة.
ما يثير الصدمة، هو أن معدل الوفيات الناجمة عن سرطان الرئة في “بورت آرثر”، أعلى بنسبة 29 في المائة من متوسط الولاية، وفقا لسجل تكساس للسرطان.
علاوة على ذلك تظهر بيانات عام 2019، الصادرة عن مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، أن نسبة سكان منطقة “مترو بورت آرثر” الذين أبلغوا عن أمراض الكلى المزمنة كانت أعلى بنسبة 21 % من متوسط تكساس.
ليس هذا فحسب، فالأعاصير التي ضربت المنطقة، أطلقت العنان لمواد كيميائية سامة مرارًا وتكرارًا، حيث أجبر انفجار مصنع كيماوي في عام 2019 آلاف الأشخاص على إخلاء منازلهم. ووفقا لملفات لجنة تكساس لجودة البيئة، أبلغت مرافق مقاطعة جيفرسون عن 80 إطلاقًا كيميائيًا غير مسموح به، يُعرف باسم “أحداث الانبعاثات” في العام الماضي.
زد على ذلك، أن سكان “بورت آرثر”، لم يسلموا من العواقب الوخيمة لغضب الطبيعة، بسبب حرق الوقود الأحفوري، إذا بلغ متوسط درجات الحرارة حوالي 1.1 درجة مئوية (2 درجة فهرنهايت)، أي أعلى مما كانت عليه في عصر ما قبل الصناعة، وهذا سيؤدي بالمنطقة إلى مواجهة ارتفاع مستويات سطح البحر وموجات حر قاسية وعواصف كارثية على نحو متزايد، مثل إعصار هارفي الذي ضرب تكساس قبل خمس سنوات، قبل ان ينتقل إلى مدينة “هولينز” التي دمرتها الفيضانات الناجمة عن هذا الإعصار.
وليس بعيدا عن ذلك، أظهرت بيانات الحوادث في العام الماضي أن الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي استجابت لـ 34 تسربًا صغيرًا للنفط والمواد الكيميائية في خليج المكسيك، بما في ذلك عطلان في الآبار بالقرب من “بورت آرثر” مما أدى إلى تسرب النفط الخام إلى المستنقع.
هل ينتفع السكان “السود” حقا من مصافي النفط؟
مع ان ممثلي الصناعة والمسؤولين العموميين، يشيرون إلى الوظائف وعائدات الضرائب التي تخلقها المصافي، إضافة إلى توفيرها التمويل للمدارس والمستشفيات والبنية التحتية كما يزعمون، لكن المشغل السابق لمصفاة نفط في المنطقة ـ كان أطلق شبكة العمل المجتمعي في “بورت آرثر” في أعقاب الدمار الناجم عن إعصار “هارفي” – ويدعى “جون بيرد”، دحض هذه المزاعم قائلا: “إن السكان لم يروا فائدة كبيرة”، كاشفا أن معظم المصانع توظف عمالاً من خارج المدينة، وهذا بدوره أدى إلى رفع معدل البطالة في المنطقة الذي يبلغ نحو ضعف متوسط تكساس.
ما هو دور الديمقراطيين في استمرار معاناة سكان “بورت آرثر”؟
خلال أغسطس 2022م اقر مجلس النواب الأمريكي “قانونًا كاسحًا” لخفض التضخم، وخصص مبلغًا غير مسبوق قدره 369 مليار دولار للطاقة النظيفة والأولويات المناخية الأخرى.
المفاجأة ان الديمقراطيين ربطوا تطوير الطاقة المتجددة بالوقود الأحفوري، إذ يخشى السكان المحليون من أن التشريع قد يترك مجتمعهم عرضة للمخاطر الكبيرة، خصوصا انه ولضمان حصول إجماع على القانون من أعضاء الحزب الدمقراطي، التزم قادة الحزب ببيع المزيد من عقود إيجار الحفر (للوقود الأحفوري) بالمزاد العلني، وتخفيف متطلبات السماح للمشاريع النفطية الجديدة.
وفي هذا السياق، يقول الخبراء إن هذه الإجراءات قد تطيل أمد الضرر البيئي الذي يواجهه العديد من الأمريكيين الآن، خاصة في المناطق التي يتم فيها إنتاج المنتجات النفطية. فالناس في “بورت آرثر” يكافحون من أجل بيئة نظيفة والهواء الذي يتنفسونه والمياه التي يشربونها.
لم يكتف الديمقراطيون بذلك، إذ وعد قادتهم بدعم اقتراح السيناتور “جو مانشين” الرامي لتبسيط عملية التصريح الفيدرالية (للمشاريع النفطية) بموجب قانون السياسة البيئية الوطنية، “الماغنا كارتا” للقانون البيئي حيث من المتوقع أن يتبنى الكونغرس هذا التشريع قريبا.
تشير نسخة من مسودة اقتراح “مانشين”، إلى أن هذه “الصفقة الجانبية” تسمح بتقليص الفترة الزمنية للتعليق العام على المشاريع من ثلاثة أشهر إلى شهرين، وتقوم بتشديد المواعيد النهائية للمراجعات البيئية للوكالة المختصة، وتحديد قانون التقادم لمدة خمسة أشهر في الدعاوى القضائية ضد تصاريح يحتمل أن تكون إشكالية.
من هنا، وفي حال جرى تنفيذ تغييرات التصاريح المقترحة، فسيكون من الصعب على السكان المشاركة في جلسات الاستماع العامة حول المشاريع النفطية المقامة، أو رفع دعوى إذا كانوا يعتقدون أن المراجعة البيئية للوكالة غير مكتملة.
أما حاليا، ورغم اقرار الرزمة البيئية (الملغومة ديموقراطيا) ترصد منظمة مراقبة النفط والغاز، وهي “مبادرة من مشروع السلامة البيئية” الذي يتتبع تطوير الوقود الأحفوري، مشروعين مقترحين على الأقل يتطلبان تصاريح فيدرالية في “بورت آرثر”: الأول وهو محطة جديدة للغاز الطبيعي المسال ومحطات ضغط مرتبطة بها، والثاني توسيع محطة الغاز الطبيعي المسال الحالية التي من شأنها أن تسمح لها بتصدير المزيد من الوقود.
الطامة الكبرى بالنسبة لسكان “بورت آرثر”، ان الأضرار البيئية لهذين المشروعين غير مسبوقة، اذ من المرجح ان ينتجا بحسب المنظمة، أكثر من 13000 طن من الملوثات للهواء، وأكثر من 20 مليون طن من غازات الاحتباس الحراري كل عام – مما يساهم في النهاية في رفع نسبة الاحتباس الحراري إلى مستويات قياسية.
في المحصلة، أمام المصالح النفطية لكل من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، تسقط جميع الاعتبارات الإنسانية والحقوقية التي يتشدق بها قادة أمريكا الذين لا يتورعون عن التضحية بالسكان السود لأجل حفنة من المال، فتاريخهم شاهد عليهم، وما حلّ بالهنود الحمر خير دليل على ذلك.
باحث ومحاضر جامعي لبناني

قد يعجبك ايضا