خليل المعلمي
تمثل الحضارة الإسلامية حلقة مهمة جداً في سلسلة الحضارة الإنسانية التي لا يمكن أن يكتمل بناؤها بعيدا عن أسس ومبادئ تلك الحضـارة المجيدة، وذلك لسبب بسيط وهو أن الحضارة الإسلامية تعد أطول حضارة سـادت الدنيا، فعلى مدار ما يقرب من ألـف سـنة، كان العلم على مستوى العالم ينطق بالعربيـة، فقامت معظـم العلـوم الحديثة على ما أسسه علمـاء الحضارة الإسلامية، وطوروه من علوم.
ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب (أسس العلوم الحديثة في الحضارة الإسلامية) مركزة على بعض العلوم التي سادتها، وتطورها الممتد إلى العصر الحديث والمعاصر. وفي هذا السبيل يحـاول الكتاب أن يجيـب عـن تساؤل يمثـل فرضياتهـا الرئيسة، هو: هل قدم علمـاء الحضارة الإسلاميـة ابتكارات وإضافات أصيلة في العلـوم التي بحثوا فيها، وهل عملت على تأسيسها وتطورها حتى أفادوا بها العلم الحديث والمعاصر؟
يتضمن الكتاب الذي ألفه الدكتور خالد حربي أستاذ ورئيس قسم المخطوطات وعلوم الحضارة الإسلامية في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، خمسة فصول تحتوي على اسهامات المسلمين في علوم الرياضيات وعلوم التقنية والتكنولوجيا وعلوم الكيمياء وعلوم الطب وعلوم الطفيليات والأحياء المجهرية.
مجال الرياضيات
في مجال الرياضات، يستعرض المؤلف في الباب الأول جهود واسهامات عدد من العلماء والمفكرين العرب والمسلمين الذين وضعوا أساسيات علم الرياضيات مثل عالم الرياضيات (أبو عبدالله محمد بن موسى الخوارزمي) الذي يعد أول من طور فن الحساب، وجعل منه فناً صالحاً للاستعمال اليومي، ومفيداً لبقية العلوم بعد أن وسع فيه ونظمه تنظيماً دقيقاً، كما يعد مثالاً رائداً في الرياضيات وفي الجبر بصفة خاصة.
ويؤكد المؤلف أن الفضل يرجع لنصير الدين الطوسي في ابتكار وتعريف الأعداد الصم، وهي الأعداد التي ليس لها جذر، والتي لاتزال تشغل أهميتها في الرياضيات الحديثة، اتضح ذلك من بحوثه لمعادلات صماء، وهو أول من فصل علم حساب المثلثات عن علم الفلك ووضع أول كتاب في حساب المثلثات عام 848هـ، 1250م، وهو كتاب أشكال القطاعات الذي دون فيه أول تطوير لنظريات جيب الزاوية إلى ما هي عليه الآن، وذلك باستعماله المثلث المستوي.
ويتابع المؤلف إنجازات الطوسي العلمية فيقول: لقد اظهر الطوسي براعة فائقة وخارقة للعادة -على حد قول سارتون- في معالجة قضية المتوازيات في الهندسة ومن المسائل التي برهنها فيها: دائرة تمس أخرى من الداخل قطرها ضعف الأولى تتحركان بانتظام في اتجاهين متضادين بحيث تكونان دائماً متماستين وسرعة الدائرة الصغيرة ضعف سرعة الدائرة الكبرى كما برهن على أن نقطة تماس الدائرة الصغرى تتحرك على قطر الدائرة الكبرى، وتعد هذه النظرية التي وضعها نصير الدين الطوسي أساس عمل الاسطرلاب.
ويرى المؤلف أن أهم ما قدمه الطوسي للإنسانية جمعاء اهتمامه بالهندسة اللاإقليدسية التي تلعب دوراً مهماً في تفسير نظرية النسبية ودراسة الفضاء.
أما العالم غياث الدين بن مسعود بن محمد الكاشي، فقد ابتكر الكسور العشرية، كما وضع عدد من المؤلفات الرياضية والفلكية استفادت منها الأجيال العلمية اللاحقة وامتدت تأثيرها إلى العصر الحديث.
علوم التقنية والتكنولوجيا
تصدر المسلمون والعرب غيرهم في علم الميكانيكا والذي اسموه “علم الحيل” والذي يعني الحصول على الفعل الكبير من الجهد اليسير عن طريق إحلال العقل محل العضلات والآلة محل البدن، ويتفرع من هذا العلم فروع علمية أخرى كعلم هندسة الأشكال، وعلم هندسة المخروطات، وعلم هندسة المساحة، وعلم هندسة البصريات، تلك التي تشكل منظومة مميزة للتقنية والتكنولوجيا في التراث والحضارة الإسلامية.
ويذكر المؤلف في الباب الثاني أن أول من اشتغل في هذا العلم هم بنو موسى “محمد، أحمد، الحسن” أبناء موسى بن شاكر وقد أجمعت المصادر التاريخية على أنهم نشأوا في بيت الحكمة المأموني في جو مشبع بالعلم، ويعتبر كتاب “الحيل” أهم وأشهر كتاب جماعي لجماعة بني موسى، وهو أول كتاب علمي عربي يبحث في علم الميكانيكا وذلك لاحتوائه على مائة تركيب ميكانيكي.
واستعرض المؤلف اسهامات عدد من العلماء العرب منهم أبوبكر الرازي الذي ابتكر الميزان الطبيعي والبيروني الذي اشتهر في علم الطبيعة وهو أول من قام بقياس الوزن النوعي للمعادن وله اسهامات أخرى، وكذلك ابن خلف المرادي الذي شرح في كتابه “الأسرار في نتائج الأفكار” كيفية تركيب ما يقرب من خمسة وثلاثين نوعاً من الآلات الميكانيكية ومنها تجهيزه بتقنية عالة لقاعة بمحركات بجوار مقصورة الخليفة بقصر جبل طارق تسمح بتحريك جدران المقصورة كلياً.
كما وضع المرادي تقنيات عالية لطواحين الهواء والمكابس المائية وابتكر ساعة شمسية متطورة وغاية في الدقة.
أما أبو الفتح عبدالرحمن الخازني فقد نبغ في العلم الطبيعي وفروعه المختلفة ووضع فيها مؤلفات كثيرة أهمها وأشهرها (ميزان الحكمة) الذي يعد من أهم كتب العلم الطبيعي بصفة عامة والميكانيكا بصفة خاصة.
وأما بديع الزمان الجذري فقد جمع بين العلم والعمل وصمم أكثر من خمسين آلة ميكانيكية ويرجع الفضل إليه أنه وضع الأساس الذي تقوم عليه المحركات العصرية.
علم الكيمياء
ما أن يتم ذكر اسهامات العرب والمسلمين في علم الكيمياء إلا ويتم ذكر العالم الكيميائي جابر بن حيان الذي كان له اسهامات عديدة في مجال الكيمياء، فلم يكن ناقلاً عن الذين ترجموا من اليونانية إلى العربية بل درس العلم اليوناني واستوعبه واستطاع أن يضيف إليه من إبداعات عقله العربي الإسلامي.
ويقول المؤلف الباب الثالث: إن هناك فرقاً كبيراً بين كيمياء جابر بن حيان والكيمياء القديمة، فعلى الرغم مما بين النوعين من تشابه في التعبير الاصطلاحي وفي كثير من التفاصيل الجزئية فإن كيمياء جابر تختلف عن الكيمياء التي سبقتها سواء في الروح والاتجاه، أو في التفاصيل والجزئيات إذ تتسم كيمياء جابر بالاعتماد كثيراً على التجربة واستبعاد الخوارق فهي كيمياء ذات اتجاه عملي عقلي واضح يباعد بينها وبين الكيمياء القديمة التي كثيراً ما تلجأ إلى الرؤيا الوجدانية وتمعن في استخدام الخوارق في التفسير.
واستعرض المؤلف اسهامات بن حيان في تحضير العديد من المركبات مثل حمض الكبريتيك وحمض النيترك وغيرها من المركبات الأخرى.
كما تطرق إلى اسهامات عدد آخر من العلماء العرب أمثال الرازي الطبيب وابن سيناء وغيرهم.
علم الطب
في الباب الرابع يؤكد المؤلف أن أبوبكر الرازي خير ممثل لبداية وازدهار مرحلة الإبداع والابتكار من تاريخ الطب العربي الإسلامي، وذلك إنما يرجع إلى الإنجازات الطبية والعلاجية والبحثية والتعليمية التي أبدعها واستفادت منها الإنسانية جمعاء.
ويقول: لقد توصلت الدراسات والتحقيقيات والترجمات إلى أن الرازي أبرز أطباء الحضارة الإسلامية وطبيب المسلمين بدون منازع، وأبو الطب العربي، فقد كانت مؤلفات الرازي الطبية والعلاجية تشكل أساساً مهماً من أسس تعليم طلاب الطب في جميع أنحاء العالم، وذلك انما يرجع إلى الإسهامات الطبية والصيدلانية والبحثية والتعليمية والأكاديمية الرائدة التي قدمها الرازي ومن أهمها كتابه “الحاوي في الطب”.
وتطرق المؤلف إلى إسهامات العلماء العرب الآخرين في مجال الطب في رفد الإنسانية بالمؤلفات والاكتشافات أمثال أبو جعفر الجزار وعلي بن العباس، والزهراوي الذي كان له اسهامات في علم الجراحة وابن سيناء صاحب كتاب “القانون في الطب” وابن النفيس وغيرهم.
علم الطفيليات
يؤكد الدكتور خالد حربي أنه ومن خلال البحث والدراسة أن العلماء العرب قد شخصوا العديد من الأمراض المعدية والتي تسببها الطفيليات والأحياء المجهرية ووصفوا تلك الأمراض وصفاً دقيقاً بل ووضعوا لها الوصفات العلاجية المناسبة.
ويقول: يتبين أن مقدمات علم الطفيليات والأحياء المجهرية موجود في مؤلفات وكتابات بعض علماء الحضارة الإسلامية وأطبائها، وتستحق هذه المخطوطات والمؤلفات التحقيق والفهم ومعرفة ما تحمله من معلومات عن هذا العلم.
ويؤكد المؤلف في ختام الكتاب أن العمل العلمي الذي قـدم في هذا الكتاب يدل بصورة قوية على أن الحضارة الإسلامية تشغل مكاناً مرموقاً بين حضارات العـالم المختلفة، وذلك بفضل ما قدمتـه للإنسانية جمعاء، وخاصة علومها التي أفادت بها وكانت بمثابة الأساس القوي المتين الذي قامت عليه العلوم الحديثة والمعاصرة.