رمضان شهر التدبير .. لا شهر التبذير

 

الإعلانات الترويجية للسلع ساهمت بشكل كبير في زيادة الإقبال عليها
المراقبة الذاتية المستمرة تجعل الصائم حازمًا مع نفسه يكبح هواها ويفطمها عن شهواتها

قبل قدوم شهر رمضان المبارك ومنذ قرابة أربعة عشر قرناً ونصف القرن يتهيأ المجتمع المسلم لاستقبال الشهر الذي يحمل معه ألواناً من الخير والرحمة والبركة، ولايزال المجتمع رغم ما أصاب الكثيرين منهم من القلة والشح كانعكاس لحالة الحرب والعدوان والحصار أجود ما يكونون في رمضان.
فتجربة الصوم روحية بالغة العمق ومتعددة المستويات فهي لا تتحدد فقط في مجرد الإمساك عن المفطرات وإنما تتجاوز ذلك إلى ضبط النفس عند الغضب والامتناع من إيذاء الناس، إلى جانب مشاركتهم في السراء والضراء وبذل المعروف لمن يطلبه، والصدقة لمن يحتاج إليها، وإخراج الزكاة، ,ومن جهة أخرى فإن الإمساك عن شهوة البطن وهو من معاني الصوم، يعني بالمفهوم الاقتصادي تخفيض الإنفاق أي ترشيده بمعنى أدق.

عادات دخيلة على الشهر الفضيل
تتجلى الاتجاهات الاقتصادية في هذا الشهر الفضيل بدرجة كبيرة ومتعددة منها كما يقول الخبير الاقتصادي الأخ / أحمد ماجد الجمال يأتي في المقام الأول التدبير حيث يتسم بمضاعفة الخيرات وحلول البركات فهو بحق شهر التدبير الاقتصادي.
ويشير الجمال إلى أن اعتياد غالبية الناس على بعض العادات السيئة الدخيلة على هذا شهر والتي تتمثل في طريقة الإنفاق الاستهلاكي الزائد، وهي الصورة الثانية المقابلة لحقيقة الصوم، ويبدو فيه الاقتصاد واحدا من ضحايا الأداء البشري المعكوس للفريضة، وذلك لأن الفرق بين الاستهلاك والإنتاج بكل أنواعه يصل كما هو حاصل في هذا العصر إلى حدود كبيرة لا يعوضها الفرق العكسي طوال أشهر السنة الأخرى بسهولة، السؤال هل بات الدور الكبير الذي يقوم به المجتمع الإسلامي المعاصر في رمضان هو زيادة الاستهلاك.؟
تصبح الإجابة نعم لأن الإعلان لعب دورا محوريا باعتباره أداة قوية في إسقاط السمات الشخصية للإنسان، وتنميطه حتى يسهل التأثير في سلوكه الاستهلاكي، وهذا ما أدت إليه وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وابتكار وسائل متنوعة لإرغام الناس عبر الإقناع الموهوم، نحو زيادة الاستهلاك الذي ينتج عنه آثار سلبية على القدرات المالية للفرد، فهي في الأصل سلعة ليست رخيصة وابتياعها يعطي دافعا ومحرضاً قويا للإعلام الاستهلاكي بمنصات الوسائط التقنية والإعلان التلفزيوني عبر صحف وإذاعة وتلفزيون وقنوات فضائية، ووسائل التواصل الاجتماعي تتبادلها أجهزة الكمبيوتر والمحمول والهواتف الذكية والتي تمتلكها شريحة عريضة من المجتمع بكل فئاته وجميعها تدفع إلى النزعة الاستهلاكية وبالتالي ارتفاع حمى الاستهلاك المبالغ فيه وجعل الناس يستمرون في الشراء الدائم والحصول على المال اللازم للشراء بأي طريقة حيث شكلت عبئا على الإمكانات المالية للشخص نفسه خصوصا أصحاب الدخول المحدودة ،لذا ظهر النمط اللاعقلاني في الاستهلاك يقابله في نفس الوقت كل عام في مثل هذه المناسبة ارتفاع مؤشر الأسعار يصل إلى عدة ارتفاعات.

تغير النمط الاستهلاكي
وأضاف الخبير الاقتصادي أحمد ماجد : إذا عدنا إلى الوراء لخمس عقود أو أكثر، لم تكن حياة الناس بالمقومات القائمة في الوقت الحاضر، كان الصيام شاقا في المدن والأرياف والمناطق النائية والناس منذ الصباح المبكر يباشرون أعمالهم كالمعتاد في نفس أوقات بقية الشهور ويؤدون كل العبادات سواء كانوا مزارعين ورعاة وبائعين أو أصحاب محلات حتى ربات البيوت…. ينخرطون جميعهم في العمل مبكرا فالكل يخرج من المنازل ولا يعودون إلا قبيل صلاة العصر بعد أن يتموا أعمالهم ليتفرغوا بعدها لاستكمال أداء العبادات، وكانت قابلية الاستِمرار والأداء، والقيم المادية تحدد السلع التي كان الناس يشترونها لذا كان طعامهم ومشروباتهم بسيطة تتناسب مع ما هو متاح في ذلك الزمن خلافا لما هو مشاهد في هذا الزمن من حشد للأطعمة عند الإفطار عدا وجبتي العشاء والسحور.
فمع وفرة الأطعمة وتنوعها وزيادة الدخول في المدن الرئيسية وحتى الثانوية والأرياف إلى حد ما وان كانت في مجتمعنا محدودة وكان سبب في تحول النظرة لشهر رمضان وكأنه موسم للإنفاق الاستهلاكي كأساس وركن أصيل له من خلال التفنن في تقديم الأطعمة، وتحشد فيه أنواع متعددة تؤدي إلى انتشار الأمراض وتختفي وتزول الآثار الصحية الإيجابية من تنظيف جسم الصائم, باعتبار هذا الاندفاع نحوه كنوع من التعويض عن ساعات الصوم، ولعل مشاهدة الناس قبيل دخول الشهر وهم يبتاعون من الأسواق وما يحملونه من كميات اكبر من المعتاد خير دليل على الاندفاع الشديد، نتيجة تلقائية لزيادة تنوع المأكولات وهذه الأنماط إلى جانب تغيرات في العادات والطقوس التي برزت وظهرت في العقود الأخيرة كنمط استهلاكي غير منطقي لا تبرره قيم وفضائل هذا الشهر ولا الموارد المالية فيضطر الناس إلى محاكاة بعضهم البعض في ابتداع ورفع مستوى الاستهلاك تتجاوز الإمكانات والقدرات لأكبر الشرائح الاجتماعية عبر اللجوء إلى أساليب غير مناسبة لتغطية العجز في قدراتهم المالية عن الفرق بين الدخل والإنفاق إضافة إلى تصاعد الأسعار التي غالبا ما تكون متجاوزة المعقول .

الاكتفاء بالسلع الأساسية
وللتخلص من عادات الإقبال الشديد على السلع الاستهلاكية والتي في الغالب تكون غير ضرورية في رمضان بحسب الخبير الجمال عدم التصديق لتلك الإعلانات والاكتفاء بشراء السلع الاستهلاكية الأساسية والابتعاد عن التخزين الزائد عن الحاجة حتى يخفف المستهلك على نفسه من الأعباء المالية وأيضا يمنع التجار من رفع الأسعار ، لأنه في الأصل كما يؤكد الخبير الاقتصادي الجمال هو أن شهر رمضان مناسبة طيبة لتثبيت الأسعار على الأقل إن لم يكن خفضها من خلال التحكم في العوامل التي تدفع بغلاء السلع والبضائع والخدمات مثل قيام الجهات الرسمية بضبطها وتخفيف الإقبال الزائد من قبل الأفراد على الاستهلاك وعدم خزن السلع في المنازل بكميات أكثر من حاجة اليوم أو اليومين لأن الاستهلاك الشره التي تنتاب الناس في هذا الشهر له كثير من الأبعاد السلبية وهكذا، بدلا من تحرير الإنسان من أحكام العادة القاسية خلال شهر في السنة.
ونوه الجمال بأن رمضان أصبح موسما لمزيد من الأعباء المادية والمعنوية والصحية التي تهدد الحياة وعناصر سلامتها الأساسية، لأنها فتحت شرها جديدا في أعماق الإنسان نفسه، وخلقت منه نفسا لا تشبع، وجعلت من الناس يشعرون بأنهم عاجزون، وأن الدور الوحيد الذي يمكنهم القيام به هو التصديق على القرارات الاستهلاكية التي أصبحت معه الأنماط الاستهلاكية مشوهة.

شهر الاقتصاد والتدبير
وأوضح الجمال بأن شهر رمضان هو في الأصل شهر الاقتصاد والترتيب، بمعنى التدبير بامتياز كونه موسم الحصاد من خلال حجم الاستهلاك، واقتصاره على الاحتياجات الضرورية، والشرط لذلك هو العودة إلى الصورة الحقيقية لأدائها ووضعها في الموضع الصحيح كنهج تهذيب وتربية النفس على الاكتفاء بالحاجة الأساسية للإنسان، لان صفة استهلاك الصائم هي الكفاية والتدبير لا التبذير، وأن منفعته وإشباعه يتحقق ليس فقط بالإشباع المادي والصحي بل من خلال الإشباع الروحي في المقام الأول وتحقيق التوازن بينهما، وهي فرصة لتحقيق تدبير أفضل وتوسيع وعاء الفائض الممكن ولاشك بأنها مبدأ مهم على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع ككل.

إسراف وتبذير
ويضيف من جانبه الخبير الاقتصادي خالد الهادي قائلا: رغم أن شهر رمضان الفضيل شهر التقوى والبِر والإحسان والرحمة والمغفرة والرضوان، إلا أن الكثير من المسلمين يزداد إسرافهم وتبذيرهم في هذا الشهر بخلاف باقي شهور السنة، إذ يبالغون في شراء ما لذَّ وطاب من الأطعمة والأشربة والحلوى وكأن رمضان موسم للأكل والتباهي، فيأكلون القليل منها ويتعرض ما يتبقى للإتلاف والرِمي في حاويات القمامة.. في الوقت الذي تعاني العديد من الأسر من الجوع وضيق ذات اليد ولا تجد من يعطف عليها ويسد رمقها.
وأكد خالد الهادي انه لا يقتصر الإسراف في رمضان على الأسر الميسورة الحال فقط، بل يشمل – وللأسف الشديد – غالبية الأسر من مختلف الطبقات والفئات غنيها وفقيرها – خصوصًا في العزومات والولائم الرمضانية التي يكون التفاخر فيها هو سيد الموقف – كما امتد الإسراف أيضًا إلى الإفطار في بعض المساجد وذلك عندما لا يتم التنسيق مع إمام المسجد أو القائم على برنامج الإفطار، حيث يحضر كل شخص أفضل ما لديه من الأطعمة والتمر والعصائر، مما يفيض عن حاجة الذين يفطرون في المسجد، وقد يكون بعضها مما لا يسهل حمله أو نقله فيرمى ويُتلَف!

علاج ظاهرة الإسراف في رمضان
وتطرق الخبير الاقتصادي خالد الهادي إلى بعض المعالجات التي يمكن من خلالها التغلب على ظاهرة الإسراف في رمضان حيث قال : علينا جميعًا أن نعي ونفهم جيدًا المراد من صيام رمضان، وهو تطهير للنفس والمال والمجتمع، كما أنه عبادة صحيحة وتدريب على الصبر والجهاد والتضحية والمشقة، وليس شهرًا لإقامة الولائم والحفلات والتنافس في الملذات والترفيهات.
إلى جانب المحاسبة والمراقبة الذاتية قبل وأثناء الإنفاق والاستهلاك والتفكر والتدبر في النتائج المترتبة على الإسراف والتبذير والترف.. فمن شق عليه الحساب في الدنيا سهل عليه في الآخرة ، كما يجب على المسلم أن يتذكر الفقراء والمساكين والمجاهدين والوقوف أمام الله للمحاسبة الأخروية ليس في رمضان فحسب، بل في كل الأوقات؛ فالمحاسبة والمراقبة الذاتية الدائمة والمستمرة تجعل الفرد المسلم الصائم حازمًا مع نفسه يكبح هواها ويفطمها عن شهواتها ومطالبها، ويجعلها تسير في طريق الإسلام.
أيضا يجب الاقتداء في هذا بسنة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم والصحابة من بعده في سلوكهم ونفقاتهم في شهر رمضان لاسيما من حيث الاقتصاد، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن بها صلبه، فإن كان فاعلًا لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفَسه”
وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضًا: “كلوا واشربوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا ترف”.

قد يعجبك ايضا