الشهيد الصماد لم يحصد المغانم والمكاسب أو يلوث نفسه بالفساد على حساب الشعب
قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي في محاضرته الرمضانية الثامنة عشرة
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
في سياق الحديث عن غزوة بدرٍ الكبرى، وعن يوم الفرقان، تحدثنا بالأمس كيف تزعَّمت قريشٌ الحرب ضد رسول الله “صلى الله عليه وعلى آله وسلم”، وضد الإسلام والمسلمين، امتداداً لنشاطها العدائي الذي استمر في كل المدة الزمنية التي أمضاها النبي “صلوات الله عليه وعلى آله وسلم” في مكة، منذ البعثة وحتى الهجرة.
ما بعد ذلك اتجهت قريشٌ لأن تتزعم الحرب أيضاً على المستوى العسكري ضد رسول الله والإسلام والمسلمين، مستغلةً نفوذها، وتحالفاتها، وتأثيرها الكبير في مختلف القبائل العربية، من خلال موقعها في مكة، وفي إدارة شؤون الحج، وفي السيطرة على الكعبة، والرمزية التي حظيت بها في الوسط العربي آنذاك نتيجةً لذلك، فهم كانوا يقدِّمون أنفسهم أنهم في موقع الرمزية الدينية، فَيُظهِرون الاهتمام بالحجاج، وبالكعبة، وبإدارة شؤون الحج، ويتباهون بذلك، ويفتخرون بذلك، وقال الله عنهم في القرآن الكريم: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}[التوبة: الآية17]، قال عنهم عندما كانوا يستغلون سيطرتهم على مكة، وعلى الكعبة الحرام، ويقدِّمون أنفسهم بأنهم من لهم الولاية على مكة، ولهم الولاية على الكعبة، ولهم الولاية على إدارة شؤون الحج، قال عنهم: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ}[الأنفال: من الآية34]، فهم كانوا يستغلون سيطرتهم تلك، ويقدِّمونها وكأنها وَلَاية، وكأنها وسيلة لتعزيز نفوذهم واستغلالهم، فكل سياساتهم وأساليبهم وطريقتهم في إدارة شؤون الحج، في أمور الكعبة، في أمور مكة، كلها محكومةٌ بالاستغلال، وتحت سقف الاستغلال، الاستغلال السياسي، الاستغلال للنفوذ في الوسط العربي آنذاك، فاتجهوا من خلال ذلك كله في حربهم ضد رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وضد الإسلام والمسلمين.
كان تحرُّك النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، وتحريكه معه للمستجيبين له من المسلمين، تحركاً نشطاً وفاعلاً، بقدر ما للمسألة من أهميتها الدينية، وبقدر أهميتها في الواقع، والله “سبحانه وتعالى” وجَّه الكثير في القرآن الكريم من التوجيهات التي تحث النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” للتحرك الفاعل، وبنشاطٍ كبير، فأتى في القرآن الكريم قوله “سبحانه وتعالى”: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ}[الأنفال: من الآية5]، خرج النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” بأمرٍ من الله “سبحانه وتعالى”، بتوجيهاتٍ من الله “جلَّ شأنه”، ولم يكن ذلك مجرد موقف شخصي، أو رأي شخصي، أو تقديرات للأمور بحسب النظرة الشخصية، المسألة هذه مسألةٌ إيمانية، فيها أوامر الله، فيها توجيهات الله “سبحانه وتعالى”، ولذلك انطلق- وهو بإيمانه العظيم- بكل جدية، بالرغم مما واجهه من التحديات المتنوعة:
فمن جهة كان الأعداء بإمكاناتهم العسكرية، والمادية، وعددهم، وعدتهم، وتأثيرهم في الساحة على المستوى العام.
ومن جهةٍ أخرى كانت حالة التخذيل والتثبيط، التي يقوم بها المنافقون والذين في قلوبهم مرض، في داخل المجتمع المسلم، في داخل الساحة الإسلامية، وهم يثبِّطون الناس عن أن يستجيبوا للرسول، وعن أن يتحرَّكوا معه في الجهاد، وهم يزرعون في قلوبهم اليأس، وهم يرجفون عليهم، ويعملون على إخافتهم، ويعملون على تشكيكهم في صحة الموقف، وحكى الله عنهم حتى فيما يتعلق بغزوة بدر، قال “جلَّ شأنه”: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال: الآية49].
وفي المقابل أيضاً إضافةً إلى ذلك، إضافةً إلى ما لدى الأعداء من إمكانيات، وإلى حالة التثبيط والتخذيل، موقف البعض من المؤمنين، من الذين حتى استجابوا، ولكن استجابوا مع حالةٍ من القلق، والاضطراب، والتردد، والجدال، {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}[الأنفال: من الآية5]، فالذين انطلقوا، لكن وهم كارهون، وهم غير مقتنعين بالتحرك، ليس لأنه ليس حقاً، هو حقٌ واضح، {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ}[الأنفال: من الآية6]، لكنها المخاوف التي طغت على تفكيرهم، وعلى قراراتهم، وعلى رؤيتهم للموضوع؛ فأثَّرت فيهم تأثيراً سلبياً كبيراً.
تحرَّك رسول الله، واستمر، كانت غزوة بدر هي فاتحة الاشتباك الشامل، ما قبلها كان هناك عدة سرايا، ومنذ الشهر السابع في السنة الأولى للهجرة النبوية بدأت حركة السرايا المجاهدة، السرايا العسكرية التي كان يبعثها النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، أول سريةٍ تحركت في الشهر السابع من السنة الأولى للهجرة النبوية: سرية حمزة بن عبد المطلب، واستمرت السرايا، واستمرت الغزوات، واستمر العمل الجاد في التصدي للأعداء، ومواجهة كل تلك الأخطار، بتحركٍ نشطٍ جداً من جانب النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، فلم يَخْلُ عامٌ من أعوام الهجرة النبوية من التحرك في السرايا العسكرية، والأنشطة العسكرية، والاهتمامات التي يتصدى بها لكل المخاطر التي كانت تحيط به في المجتمع العربي، ومن خارج المجتمع العربي أيضاً، فيما يتعلق بالروم وغيرهم.
ذلك التحرك النشط كان ترجمةً لتوجيهات الله “سبحانه وتعالى”، واستجابةً عمليةً لها، الله الذي يقول لنبيه “صلوات الله عليه وعلى آله”: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا}[النساء: الآية84]، كانت تأتي له تلك التوجيهات: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}[الأنفال: من الآية65]، فيستمر في نشاطه، استعداداته، تجهيزاته، ثم في بعث السرايا المجاهدة، ثم في الغزوات الكبرى الرئيسية، كنشاطٍ بارزٍ كان هو من أبرز اهتمامات النبي، ومن أبرز أنشطته العملية، وفي جدول أعماله، في أعماله، في اهتماماته، كان هو من أهم أعماله التي أعطاها الجهد، أعطاها الوقت، أعطاها الاهتمام، تابعها ليلاً ونهاراً، نشط في متابعتها بشكلٍ مكثف.
ولذلك خلال الفترة الوجيزة من السنة الأولى للهجرة، إلى السنة الثامنة، كانت النقلات والمتغيرات كبيرة، وكانت المواقف في التصدي لمختلف الأعداء:
الحروب التي كانت مباشرةً مع العرب.
الحروب التي كانت في التصدي للمشركين من العرب، ومن تحالفوا معه من اليهود.
المواجهات والمعارك والحروب التي كانت في إطار التصدي لليهود وشرهم ومكرهم.
ثم الحرب الكبرى مع الروم، في غزوة مؤتة، وكذلك التحرك الكبير للتصدي لهم في غزوة تبوك.
هكذا كان نشاطه الجهادي، أعماله وهو يجاهد في سبيل الله، وهو يَعُدُّ العدة، وهو يُحَرِّض، كانت عملاً بارزاً جداً في اهتماماته وفي أعماله، جزءاً أساسياً بارزاً واضحاً كبيراً في أعماله واهتماماته “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، فهو سيِّد المجاهدين، وما من أحدٍ كان بمستوى اهتمامه، وتحركه، ونشاطه، وجديته، وإسهامه، وتأثيره في ذلك أبداً، كما هو هو “صلوات الله عليه وعلى آله”، فهو الأبرز اهتماماً، متابعةً، حثاً، ترغيباً، سعياً، تحضيراً… إلى غير ذلك.
{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، كان يقول الله له ذلك، والمساحة الواسعة في القرآن الكريم التي تتحدث عن الجهاد، كأبرز فريضةٍ تحدث القرآن عنها بذلك المستوى، فلم يتحدث عن أي فريضةٍ من فرائض الدين في القرآن كما تحدث عن الجهاد، بقدر ما نرى تلك المساحة الواسعة للجهاد في آيات القرآن، في موقعه بين فرائض الله، بقدر ما كانت هذه المساحة موجودةً، حاضرةً في نشاط النبي، في أعماله، في اهتماماته، فبقدر ما حضرت في القرآن، حضرت في واقعه العملي؛ لأنه كان يتحرك على أساس القرآن الكريم، كان يهتدي بالقرآن الكريم، ويهدي بالقرآن الكريم، كان يتَّبع ما في القرآن الكريم، كان يتحرك وفق ما أمره الله به “سبحانه وتعالى”.
وهذا يبين لنا كمسلمين، من خلال حركة النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، وجهوده العظيمة، والتي أثمرت، وتحققت بها المتغيرات الكبيرة، وصولاً إلى فتح مكة، وما تلاه من متغيرات كبيرة جداً، ومن خلال القرآن الكريم، والمساحة الكبيرة من التوجيهات، والحديث الواسع المتنوع الشامل عن الجهاد في سبيل الله، وعن أعداء الأمة، وعن كيفية التصدي لهم، وعن ميادين المواجهة معهم، وعن عدائيتهم وأنشطتهم السلبية لاستهداف الأمة، ذلك الحديث الواسع بكله، مع ما كان عليه رسول الله، هو كافٍ للأمة لإدراك أهمية فريضة الجهاد في سبيل الله، أولاً: من خلال الاقتداء برسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، هو القدوة، هو الأسوة، الله قال لنا في آيات الجهاد نفسها في سورة الأحزاب: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب: الآية21]، فكيف إذا افترض الإنسان حالةً من التدين، يلغي فيها هذا الموضوع من أساسه من كل اهتماماته، فلا حديث عنه، ولا استعداد له، ولا تحريض بشأنه، ولا حديث عنه كفريضة من فرائض الله، ولا حديث عن أهميته، ولا بأي شيءٍ يتصل به، كم هي الفجوة بين الإنسان وبين رسول الله في مقام الإتباع والاقتداء والاهتداء؟ وكم هي الفجوة الكبيرة بين الإنسان وبين القرآن عندما يتجه ذلك الاتجاه المنحرف، المتخاذل؟
القرآن الكريم في حديثه الواسع عن الجهاد في سبيل الله تحدث من جوانب كثيرة، وحديثاً شاملاً، وفي مقدِّمة ما تحدث به القرآن الكريم عن الجهاد: أنه ضرورةٌ واقعيةٌ، يلبي حاجةً، ويسد حاجةً يحتاجها الناس، ويحتاجها المؤمنون، لابدَّ منه لهم في واقعهم، الله “جلَّ شأنه” قال في القرآن الكريم: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}[البقرة: من الآية251].
واقعنا كبشر لا نتوقع فيه أنه سيكون مستقراً، وهادئاً، وسليماً من الظلم، والفساد، والباطل، وواقعاً يسوده الاستقرار، فأتى الجهاد ليخرِّبه، من لديه هذه النظرة فهو إنسانٌ غبيٌ بكل ما تعنيه الكلمة، من يتصور أنَّ واقع الحياة سيكون في الأساس مستقراً، هادئاً، سليماً من الظلم، من الاضطهاد، من القهر، من الإذلال، ويسوده الهدوء، فإنما عندما يأتي الجهاد هو الذي يخرِّب هذا الوضع على الإنسان، ويضيف له مشاكل، ويدخله في مشاكل كان في غناً عنها، ليست المسألة كذلك أبداً.
ظروف حياة البشر، ظروف حياتهم، وجزءٌ أساسيٌ من واقع حياتهم، هو: حالة الصراع، فيها صراعٌ كبير في حياتهم، هناك من البشر من هم أشرار، من هم طغاة، من هم مجرمون، من هم متسلطون، إذا لم توجد حالة الردع، للحد من طغيانهم، من شرهم، من فسادهم، من منكرهم، من باطلهم؛ فكل شرهم، إجرامهم، طغيانهم، فسادهم، ظلمهم، منكرهم، يتجه إلى واقع الحياة، إلى البشر، إلى المجتمعات نفسها، وبدون رادعٍ يردعهم؛ سيتمكنون أكثر من أن يمارسوا الظلم، والإجرام، والشر، بحق الناس أنفسهم، فتفسد حياة الناس في كل شيء، ولا تستقيم الحياة على الأرض، تصبح حياة الناس مهدرة، لا قيمة لها، وكرامتهم مسحوقة، لا اعتبار لها، وحرماتهم مستباحة، فلا حرمة لها، ويصبح كل شيءٍ في الحياة فاسد، لا يستقيم شيءٌ، لا يبقى عدلٌ، لا يبقى خيرٌ، لا يبقى حقٌ، لا يبقى شيءٌ من الصلاح، لابدَّ من الجهاد هو؛ ليكون هو وسيلةً للحد من إجرامهم، من طغيانهم، من فسادهم، لابدَّ أن يكون هناك مسؤولية، يتحرك بها البعض من البشر، من لديهم التوجه المستقيم، الخيِّر، من يتجهون بضمائرهم الإنسانية، بإيمانهم بالله “سبحانه وتعالى”، بقيمهم، بقضاياهم العادلة، للتصدي للظلم والشر والفساد.
وهذه أول مسألة يجب أن نعيها جيداً: أنَّ واقع الحياة فيه صراع، وفيه أشرار، وفيه طغاة، وفيه مجرمون، وأنَّ الجهاد ليس هو الذي أضاف مشكلةً وصراعاً في واقع المجتمع البشري، بل على العكس، هو يأتي لأن دين الله “سبحانه وتعالى” هو نَظْمٌ لشؤون الحياة، وليس إضافةً لأعباء إلى واقع الحياة تمثل مشكلةً فيها؛ إنما هو نَظْمٌ لنفس شؤون الحياة، ففي شؤون حياتنا، في واقع حياتنا تحديات، وأخطار، وشر هناك، وفساد هناك، ومنكر هناك، يُنظِّم لنا القرآن الكريم كيف سنتعامل مع هذا الواقع، وكيف سنتحرك بشكلٍ صحيحٍ وإيجابي للتصدي لتلك المخاطر القائمة في واقع حياتنا، وهذه مسألة مهمة جداً؛ لأن المسلمين في كثيرٍ من مراحلهم التاريخية، ونتيجةً للسياسات السيئة لحكام الجور، وسلاطين الجور، ولعلماء السوء، كانوا قد أُزِيحُوا نهائياً عن مسألة الجهاد في سبيل الله، وعطِّلت هذه الفريضة، وغابت عن وعي الناس، وعن اهتماماتهم، وأصبحت النظرة إليها سلبية.
وفي هذا درسٌ كبيرٌ جداً لأمتنا اليوم: أنَّ المراحل التاريخية التي عَطَّلت فيها فريضة الجهاد في سبيل الله، ونسيتها، وتركتها، وأعرضت عنها، ونظرت إليها نظرةً سيئة، كانت هي أخطر المراحل، وأكبرها نكبات على هذه الأمة، ضعفت الأمة عندما عَطَّلت فريضة الجهاد، ضعفت، وتراجعت قوتها، وفقدت هيبتها، وفقدت حضورها الفاعل في الساحة العالمية، وتجرأ عليها أعداؤها، وطمع فيها أعداؤها، عندما أصبحوا يشاهدونها أمةً ضعيفةً، غابت عنها روح الجهاد، واهتمامات الجهاد، وما يتبع ذلك من إعداد القوة، من الجهوزية لمواجهة التحديات، ومواجهة الأعداء، ومواجهة الأخطار.
فأيُّ قارئٍ يقرأ تاريخ هذه الأمة، ويرى مثلاً عن المراحل التي عانت فيها الأمة من نكبات كبرى، هُوجِمَت فيها من أعدائها من الأمم الأخرى، سواءً من المغول، ومن الصليبيين، وكذلك من الأوروبيين في مراحل لاحقة، سواءً تحت العنوان الاستعماري، أو تحت العنوان الصليبي، وما عانته الأمة من خسائر فادحة، كم قُتِلَ من أبناء الأمة؟ الملايين قُتِلوا من أبناء الأمة بشكلٍ عبثيٍ، في حالة انهيارٍ واستسلامٍ تام، وليس في إطار مواقف صامدة وثابتة، وفي إطار مواقف تثمر نصراً وعزةً للأمة.
في تلك الحالات من حالات التنصل عن الجهاد في سبيل الله، من المراحل التي كانت هذه الفريضة قد ضاعت تماماً من واقع الأمة، ومن اهتمام الأمة، ومن وعي الأمة، ومن ثقافة الأمة، ومن اهتمامات الأمة، أتت تلك النكبات الكبرى، التي قُتِلَ فيها الملايين من أبناء الأمة، واحتُلَّت فيها الأوطان، وانتُهِكَت فيها الأعراض، كان الصليبيون يحملون آلاف النساء المسلمات بعد سبيهن، ويرحلون بهن إلى أوروبا، يأخذوهن سبايا، وكانوا يقتلون المسلمين قتلاً ذريعاً، وغيرهم كذلك، انتهكت الأعراض، واحتلت الأوطان، نهبت الممتلكات، والثروات، والمقدرات، امتلأت حياة المسلمين ظلماً وجوراً، ودخلوا في معاناة كبيرة جداً، في الأخير كانوا يقتنعون أنه: [لابدَّ من التحرك، لابدَّ من القتال، لابدَّ من الثورة، لابدَّ…]، لكن متى؟ بعد خسائر فادحة جداً، بعد أن يتمكَّن العدو، بعد أن يشملهم الذلة، والهوان، والقهر، والضيم، بعد أن يتكبَّدوا خسائر فادحة جداً جداً وهم في حالة الاستسلام.
الكوارث الكبيرة التي مرَّت بها أمتنا الإسلامية على مرِّ التاريخ؛ نتيجةً لتعطيل فريضة الجهاد، وإخراجها من حيِّز اهتمامات الأمة، ومن وعيها بالكامل، وصولاً إلى هذا العصر، الذي دخلت فيه الأمة في مواجهة تحديات كبيرة وواضحة، وأصبحت الأمة أمام التزامات، التزامات بكل الاعتبار: التزامات إنسانية، وأخلاقية، وإيمانية، وقومية، ودينية، تجاهها، مثلما هو الحال فيما يتعلق بفلسطين.
على كلٍّ فالأمة قد جرَّبت تعطيل هذه الفريضة، وجرَّبت النتائج، وجرَّبت أيام كانت تهتم بهذه الفريضة، وكيف كانت الثمرة أيضاً والنتائج، فهذه المسألة مسألة واقعية.
ولذلك نلحظ مثلاً في واقع الغرب، في واقع الغرب هناك اهتمامٌ كبيرٌ جداً فيما يتعلق بهذه المسألة، وفي بقية أمم الأرض، ما يتعلق بأن يكونوا أمةً قويةً، لديها اهتمامات عسكرية، تمتلك كل عناصر القوة، تتمكن من حماية نفسها، وليس فقط عند هذا المستوى، اتجهوا في طموحات بعيدة: كيف يمتلكون القوة للسيطرة على الآخرين، للحد من أي تهديدٍ محتملٍ، ولو بنسبةٍ ضئيلةٍ يهددهم، فتقدَّموا كثيراً، بعيداً عن مسألة الجهاد، لم يحتاجوا حتى إلى عنوان الجهاد، وفريضة الجهاد، وأن تكون مسألةً من التزاماتهم الإيمانية والدينية، عندهم اهتمام تلقائي، بدافع الفطرة البشرية، وأكثر من ذلك: دخلت بالنسبة لهم الأطماع، والأهواء، والرغبات، والنزوة الاستعمارية؛ فاندفعوا بكل اهتمام، وعلى نحوٍ واسعٍ وكبير لكي يمتلكوا القوة العسكرية، والقوة الاقتصادية، والقوة الإعلامية، والنفوذ السياسي، والتأثير الواسع، وأن يتجهوا بكل ذلك لتحقيق مصالحهم، وأطماعهم، وأهدافهم، وعلى حساب أمتنا، لسحق أمتنا التي يطمعون فيها، التي أصبحت أمةً يطمع فيها أعداؤها.
نجد المثال لذلك فيما يتعلق مثلاً بالأحداث الأخيرة في أوكرانيا، عندما تكون المعركة معركةً لصالح أمريكا، وأمريكا طرفٌ فيها، يكون مستوى الاستنفار لتلك المعركة على أكبر مستوى، الحرب النفسية الشرسة، الحملات الدعائية الهائلة، التحريض الكبير، النفير العام، التوظيف لكل القدرات، والطاقات، والإمكانات، في المواجهة، وكل تلك الأشياء التي يعظون بها المسلمين ليتركوا فلسطين، وليتنازلوا عن أوطانهم، وعن مقدساتهم، وعن حقوقهم، وعن استقلالهم، تحت عنوان السلام، والوَدَاعَة… وتلك العناوين، وأن يكون الإنسان حضارياً، لا يمتلك سلاحاً، ولا يمتلك قوةً، وكل الوسائل والسياسات التدجينية التي يتجهون بها إلى داخل أمتنا، تغيب تماماً عندما تكون المعركة من أجل أمريكا، ومصلحة أمريكا.
ففي أوروبا، وفي أوكرانيا، لم يأت كل هذا الطرح، الذي يعبِّر عن حالات التدجين، ويعظ بالسلام، والهدوء، والاستقرار، وضبط النفس، وترك السلاح… وكل تلك العناوين، التي لا يعظون بها إلَّا المسلمين، كل هذه العناوين ضاعت تماماً، الحرب العسكرية على أشدها، والتحشيد العسكري، والتحريض للكل أن يقاتلوا، حتى العجائز! حتى العجائز! يحرِّضون العجائز في أوكرانيا أن تقاتل ضد روسيا لمصلحة أمريكا؛ لأن المعركة معركة لمصلحة أمريكا، وغابت المسائل الأخرى التي يكلموننا بها كمسلمين، فلا مشكلة تجنيد الأطفال، ولا مشكلة تجنيد النساء، ولا مشكلة في أي شيء، بل أصبح هناك كل شيء مطلوباً في تفعيله في الصراع.
المقاطعة فُعِّلَت في كل شيء، حتى في الرياضة، فعَّلوا المقاطعة مثلاً ضد روسيا حتى في الرياضة، مقاطعة في كل الأمور، الأمور الاقتصادية، مقاطعة سياسية، مقاطعة حتى في الأمور الرياضية، حتى في الحركة الاقتصادية في كل تفاصيلها.
فعَّلوا الهجمة الإعلامية الدعائية والتحريضية، تحريضية بشكل واسع، وبشكل مستمر، وليلاً ونهاراً، وبشكل مكثف جداً، دعوا الناس للتطوع للقتال، وحرَّضوهم على ذلك من كل أوروبا، ومن أي بلدٍ آخر، لا مشكلة عندهم في ذلك، وتوجههم للمعركة وللحرب الشرسة في كل وسائلها وأساليبها إلى أشد مستوى.
كل تلك الأشياء التي يعظون بها المسلمين ليستسلموا، وليسلِّموا الأوطان والمقدَّسات، ويتنازلوا عن حقوقهم المشروعة… وما إلى ذلك، غابت تماماً هناك، لماذا؟ هذه مسألة عادية في الواقع، لكن علينا أن نأخذ العبرة نحن كمسلمين، كمسلمين.
حتى في واقعنا كمسلمين، لاحظوا الذين انضموا إلى صف أمريكا، من الموالين لها ولإسرائيل، كما هو حال النظام الإماراتي، ونظام آل خليفة في البحرين، والنظام السعودي، وتحت عنوان السلام طبَّعوا مع إسرائيل، أظهروا ما كانوا يخفونه من علاقتهم وروابطهم، وتعاونهم مع العدو الصهيوني الإسرائيلي، كل هذا تحت عنوان السلام، أنهم يريدون السلام، لا يريدون الحروب، لا يريدون المشاكل، يريدون الاستقرار والسلام في المنطقة، وفي واقع الحال كيف هم تجاه الآخرين، خارج ما هو محسوب لصالح أمريكا وإسرائيل، هل هم هكذا: قومٌ يريدون السلام، يحرصون على السلام؟! إلى درجة أنه لا مشكلة في أن يضحى بكل شيءٍ من أجل السلام: بالكرامة، والدين، والالتزامات الأخلاقية، والمقدسات، والأوطان… وكل شيء، هذا فقط إذا كان لإسرائيل ومن أجل أمريكا فقط.
أمَّا تجاه الآخرين، فيظهرون متوحشين، ليس عندهم أي اهتمامٍ بأمر السلام، يظهرون عدوانيين إلى أشد مستوى من العدوانية، يظهرون مجرمين، متسلطين، لا يريدون سلاماً، لا يريدون استقراراً، ولا يهمهم ذلك أبداً، يدعمون الحروب، وينشئون الحرب، ويشاركون في الحروب، ويتزعمون حروباً، يدفعون في كل ما من شأنه أن يثير الفتن، يموِّلون الفتن في أوساط الأمة، يحاولون أن يحرِّكوا الشر إلى أقصى حد، ويقدِّمون المال من أجل ذلك، والإعلام لدعم ذلك، والنفوذ السياسي لإسناد ذلك، يتحركون في كل الاتجاهات من أجل ذلك كله.
هكذا هم في اليمن، هكذا هم ظهروا عدوانيين تجاه كل من يعادي إسرائيل ويتصدى لخطر إسرائيل، من أبناء الإسلام والمسلمين، من المنطقة العربية، من شعوب أمتنا، ظهروا سيئين، وظهر إعلامهم سيئاً وعدائياً حتى تجاه المجاهدين في فلسطين، ووصَّفوهم بالإرهاب، وقاطعوهم، وحاصروهم، يحاربونهم بأشكال من المحاربة الإعلامية، والاقتصادية… وغيرها.
فظهروا عدوانيين جداً، وتوجههم العدائي نحو الحرب، نحو تمويل الفتن، نحو القتل، نحو ارتكاب أبشع الجرائم، كما عملوا في بلدنا، في مقابل أنهم يُظهِرون السلام السلام السلام السلام، لكن هذا كله فقط لإسرائيل، لأمريكا؛ أمَّا تجاه شعوب أمتهم، فالحاضر في سلوكهم، في إعلامهم، في مؤامراتهم، في مواقفهم، فيما يدفعونه من أموال: هو الشر، هو الجريمة، هو العدوان، هو الطغيان، وليسوا بأي شكلٍ من الأشكال في وارد السلام، ولا قيمة عندهم ولا أهمية لمسألة السلام؛ إنما جعلوا منه عنواناً للعمالة، ولأن يقفوا في صف أعداء الأمة، ولأن يتآمروا على هذه الأمة، وعلى أبناء هذه الأمة.
في ظل هذه التحديات المعاصرة، والتي نرى فيها الاستهداف لنا كشعوب، الاستهداف لنا كأمة، الاستهداف لمقدساتنا، في كل يوم هناك اقتحام للمسجد الأقصى، واعتداء على المصلين، ألَّا يبين هذا عدوانية العدو الإسرائيلي، وعداءه حتى للدين الإسلام، ولمقدسات الدين الإسلامي، ولشعائر الدين الإسلامي؟! اعتداء على المصلين في مقدسٍ من مقدسات المسلمين، وهو المسجد الأقصى، بشكلٍ يومي، ماذا يعنيه ذلك؟
أننا أمة في واقع الحال في حال صراع، في حالة مواجهة، وهناك أعداء يستهدفوننا في كل شيء: يستهدفوننا في ديننا، في مقدساتنا، في استقلالنا، في كرامتنا… في كل أمورنا، يخوضون الحرب ضدنا بشكل مؤامرات متنوعة، لها أشكالها في كل مجال، هذا يعني: أنَّ علينا أن نتحرك بروحيةٍ إيمانيةٍ، وأن نعي أنَّ الله جعل الجهاد في سبيله وسيلةً لحماية الناس، ولرعايتهم، هو جزءٌ من دينهم، الذي هو رعايةٌ لهم، نظمٌ لشؤون حياتهم، وسيلةٌ لدفع الشر عنهم، هكذا هو.
وهذه الثقافة الواعية، هي ثقافة الشهيد الصمَّاد “رحمة الله تغشاه”، ونحن اليوم في ذكراه، في ذكرى شهادته، هو حمل هذا الوعي، هذه الروح الإيمانية والجهادية: يعي أنَّ الدين هو لمصلحة الناس، لرعاية الناس، لدفع الشر عن الناس، يعي أنَّ خدمة شعبه، والدفاع عن شعبه، ودفع الشر عن شعبه، والتصدي للمعتدين الذين يعتدون على شعبه، والاهتمام بأمور شعبه، هو جزءٌ من التزاماته الإيمانية والدينية، يتقرَّب بذلك إلى الله “سبحانه وتعالى”؛ فحمل روح التضحية، وحمل الشعور بالمسؤولية، واتجه من موقعه في المسؤولية ليضحي، لا ليجهز لنفسه أرصدةً مالية، أو مكاسب شخصية، أو مغانم- كذلك- يستفيدها من موقعه في المسؤولية، جعل من كل جهده، ومن موقعه، نفسه منطلقاً للتضحية، والعطاء، والفداء، وبذل جهده بكل إخلاص لخدمة هذا الشعب، للدفاع عن كرامة هذا الشعب، لمواجهة أعداء هذا الشعب المعتدين عليه بغير حق، وكان ثابتاً، صامداً على ذلك، ووفياً لهذه المبادئ، لهذه القيم، فلقي الله شهيداً، سعيداً، نقياً، نزيهاً، لم يلوث نفسه في موقعه في المسؤولية، لا بمظالم، ولا بأطماع، ولا بفسادٍ مالي، ولا بمغانم ومكاسب على حساب هذا الشعب، ومن حق هذا الشعب، فكان نموذجاً متميزاً في ذلك كله.
عندما يحمل الإنسان هذه الثقافة الواعية، وهذه الروح الإيمانية؛ سينطلق بكل جد، وهو يرى في خدمة شعبه، في الدفاع عن أمته، عن مقدساته، عن كرامة شعبه، في مواجهة الأشرار، في التصدي للطغاة، لأعداء الأمة، يرى في ذلك قربةً إلى الله «سبحانه وتعالى»، وجزءً من التزامه الإيماني والديني، وينطلق وهو يعي أهمية هذه المسألة في واقع الحياة، أنها هي الطريقة الصحيحة، هي الطريقة السليمة، هي الطريقة التي توصلنا إلى نتيجة.
في فلسطين، كم بقي العرب يفاوضون، يحاورون، يقدِّمون التنازلات، لم يصلوا إلى نتيجة، في غزة ما الذي حقق نتيجةً هناك؟ هو: الجهاد، في لبنان ما الذي حقق نتيجةً عظيمة ومميزة؟ هو الجهاد في سبيل الله «سبحانه وتعالى» على نحوٍ واعٍ، والأعداء هم يعون هذه الحقيقة؛ ولذلك هم يبذلون كل جهد لاحتواء مسألة الجهاد، إمَّا بتشويهها، وإزاحتها من اهتمامات الكثير من أبناء الأمة، وإمَّا بتفعيلها واستغلالها لمصلحتهم؛ فيحرِّكون التكفيريين، هم دائماً (التكفيريين) من يتحركون تحت عنوان الجهاد لخدمة أمريكا وإسرائيل، وفي أي اتجاهٍ تريده أمريكا، في المعركة التي تريدها، يحرِّكون هذا العنوان، لتوظيفه لخدمة أمريكا وإسرائيل، فيأتون مثلاً بالعناوين الفتنوية بين أوساط الأمة، ليبنوا عليها مسألة التكفير، ثم عنوان الجهاد، والقصة في نهاية المطاف قتالٌ من أجل أمريكا وإسرائيل، تحت صف السعودي، أو الإماراتي، هو الغطاء والممول؛ أمَّا من وراءه، فهو الأمريكي، والبريطاني، والإسرائيلي، هذه حقائق واضحة.
نكتفي بهذا المقدار…
ونسأل الله «سبحانه وتعالى» أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛