موقف الشريعة الإسلامية من التأمينات الاجتماعية ( الحلقة الثانية )

 

أ. د. عبدالمؤمن شجاع الدين*

المبحث الثالث موقف الفقه الإسلامي من التأمينات الاجتماعية:
أولا :أدلة جواز نظام التأمينات الاجتماعية :
سبق القول إن نظام التأمينات الاجتماعية المعاصر هو عبارة عن نظام حماية اجتماعية من العوز والفاقة ومن مخاطر وأضرار المرض والعجز والشيخوخة، وعلى هذا الأساس فإن نظام التأمينات الاجتماعية الذي يتم تطبيقه في بلادنا وسائر البلدان الإسلامية هو نظام جائز في الشريعة الإسلامية للأدلة الآتية :
1 – قوله تعالى(وتعاونوا على البر والتقوى ) حيث تصرِّح هذه الآية على وجوب التعاون والتكافل بين المسلمين أفرادا وجماعات في مساعدة الشيوخ والعاجزين والأطفال والمرضى، وعند النظر في أهداف نظام التأمينات الاجتماعية المقررة في المادة( 4) من قانون التأمينات الاجتماعية السابق ذكرها، نجد أن نظام التأمينات الاجتماعية يستهدف كفالة هذه الفئات المستضعفة وتحقيق العدالة الاجتماعية حسبما سبق بيانه، فنظام التأمينات الاجتماعية من قبيل التعاون على البر والتقوى، كما أن نظام التأمينات الاجتماعية من خلال مفهومه وخصائصه ومزاياه السابق عرضها، نجد انه مبني على التكافل والتعاون وتفريج الكربات والتيسير على الناس، وبناء على ذلك فإن نظام التأمينات الاجتماعية نظام تعاوني تكافلي يستهدف ويحقق الأوامر الربانية بالتعاون والتكافل بين أفراد المجتمع في مواجهة الأمراض والاصابات والفقر والتشرد وكفالة الأيتام والأرامل، فنظام التأمينات الاجتماعية يندرج ضمن نظام الحماية الاجتماعية الإسلامي ويعمل على تحقيق أهدافه، بل إن أساس وجوهر نظام التأمينات الاجتماعية مقرر في الشريعة الإسلامية.
2 -حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم(عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) _متفق عليه_، فالراعي هو الحافظ المؤتمن، أو هو من أوُكِلَ إليه تدبير الشيء وسياسته وحفظه ورعايته، فالراعي مأخوذ من الرّعْي وهو الحفظ،، فصاحب العمل راع ومسؤول عن رعيته وهم العمال الذين يعملون لديه وتحت إمرته، كما أن الدولة مسؤولة عن رعاية وحفظ حقوق ومصالح العمال باعتبارهم من المواطنين فمن مسؤولية الدولة أن تقرر النظم اللازمة لرعاية مصالح وحقوق العمال في القطاع الخاص ومن ذلك فرض الدولة لنظام التأمينات الاجتماعية.
3 – حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي بين فيه مسؤولية الدولة عن رعاية عيال من يتوفى ولم يترك لهم مالا كما جاء في الحديث الشريف “من ترك مالا فلأهله وفي رواية أخرى فلورثته، ومن ترك ضياعا فإلي” وضياعا: بمعنى ليس له شيء فأنا أعوله وأنفق عليه وفي معنى آخر: ترك عيالا ولم يترك لهم مالاً، فهذا الحديث يقرر مسؤولية الدولة في حمل أصحاب العمل على تطبيق نظام التأمينات الاجتماعية وإلتزام الدولة بتقديم العون إلى مؤسسة التأمينات الاجتماعية للوفاء بالمستحقات التأمينية.
4 – قصة عمر بن الخطاب مع اليهودي الذى رآه يتسوَّل في طرقات المدينة فقال عمر: ما أنصفناك إن أكلنا شبابك ثم تركناك تسأل الناس في شيبتك، ثم أخذه وتوجه به إلى بيت المال، وقال لخازنه: انظر هذا وضرباءه أي من هم في مثل حالته- فأسقط عنه الجزية واقرض له من بيت المال ما يقيم حياته”، لذا الأثر يدل على وجوب قيام صاحب العمل بالمبادرة إلى تنفيذ قانون التأمينات الاجتماعية وسداد الاشتراكات، لأن صاحب العمل قد ربح واستفاد من عمل العامل أثناء شبابه وصحته ولذلك ينبغي على صاحب العمل الاشتراك في نظام التأمينات الاجتماعية الذي يحقق هذه الغاية .
لذلك فقد ذهب جمهور الفقهاء المعاصرون إلى جواز نظام التأمينات الاجتماعية، أما الذين ذهبوا إلى أن نظام التأمينات الاجتماعية فيه غرر لأن الإنسان لا يعلم متى يموت أو يعجز أو يصاب أو يمرض لا يعلم كم مقدار الاشتراكات التي يسددها حين يموت أو يمرض أو يصاب أو يعجز عن العمل فيرد على هؤلاء بأن الغرر لا يقع بالنسبة لنظام التأمينات الاجتماعية لأنه لا يهدف إلى الربح، فهو نظام يقوم على التبرع، فليس من قبيل المعاوضة والقاعدة في الفقه الإسلامي انه يرخص في الغرر بالنسبة للتبرعات ما لا يرخص في المعاوضات.
ثانيا :شرعية إجراءات التأمينات:
تتولى تنفيذ نظام التأمينات الاجتماعية في الواقع المعاصر المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية وهي جهة حكومية، وسوف نبيِّن شرعية الإجراءات التي تباشرها هذه المؤسسة على النحو الآتي :
1 – المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية جهة حكومية، ولذلك فإنها تباشر مهامها على أساس أن وظيفة الدولة رعاية مصالح وحقوق مواطنيها بما في ذلك العمال وتحقيق العدالة الاجتماعية باعتبار أن العدل أساس الحكم.
2 – الإجبار على الاشتراك في التأمينات الاجتماعية ممثلا في إجبار العمال وأصحاب الأعمال على دفع اشتراك تأمينات اجتماعية شهريا ، وهذه سياسة تجيزها الشريعة الإسلامية ولا تمثل اعتداء على حق الملكية، لأن المال المتجمع من هذه الاشتراكات يظل مملوكا لدافعيه من المؤمن عليهم، فإجبار أي من أصحاب الأعمال على تحمل ودفع قسط كاشتراك إنما ذلك يكون على أساس أن الاشتراك الذي يدفعه صاحب العمل هو في الأصل أجر للعامل عن عمله ولكن يجنب ولا يدفعه له حالا، ومن جانب آخر فإن صاحب العمل يدفع أموالا لصيانة الآلات والمعدات ويجنب جزءا من الدخل في صورة قسط إهلاك لإحلال آلة جديدة محل القديمة، والإنسان ليس أقلا من الآلة، فيلزم على صاحب العمل أن يدفع ما يوفر للعامل الاطمئنان على مستقبله.
3 – تحديد الاشتراكات يختلف بحسب الفئة المشمولة بالتأمينات الاجتماعية، فهي للعاملين غير أصحاب الأعمال، حيث يتحمل أصحاب العمل نسبة اكثر من العامل بحسب المصلحة والدخل وهذا التفاوت جائز في الشريعة، لأن صاحب العمل يحقق ربحا أكبر وأكثر من راتب العامل .
4 – التعويضات والمزايا التأمينية: تتمثل أساسا في المعاشات التي تصرف للمؤمن عليهم عند بلوغهم سن التقاعد أو في حالة العجز عن العمل أو لذويهم عند وفاتهم، إلى جانب توفير نفقات العلاج، وتقدر هذه التعويضات بمبالغ ونسب محددة في القانون تعمل على التوازن بين المتحصلات والمدفوعات وبما يوفر الاحتياطي اللازم لاستثماره، فمن المعروف أن الاشتراكات المحصلة وعائد الاستثمارات لا تكفي أحيانا التعويضات السنوية المنصرفة، فتدفع الدولة إعانة لاستكمال ذلك وخاصة لمواجهة القرارات الحكومية بزيادة المعاشات لمواجهة التضخم وزيادة أعباء المعيشة، وفي هذا تظهر قيمة التكافل الاجتماعي حيث لا يتم الربط بصورة شاملة بين ما يدفعه المؤمن عليه وبين ما يحصل عليه من معاشات، ولا بين ما يدفعه بعضهم وبين ما يأخذونه.( الإسلام والتأمينات الاجتماعية، د. محمد عبدالحكيم عمر، ص3)، ويرى علماء الفقه المعاصرون أنّ نظام التأمينات الاجتماعية لا حرج فيه، فهو مشروع وجائز على العامل وصاحب العمل، لكن قد يكون الحرج في عمل الدولة من خلال استثمار الأموال المدفوعة من المشتركين، فيجب أن تكون هذه الاستثمارات في أوجه مشروعة وضمن المبادئ والضوابط الإسلامية، كما يجب على الدولة التمييز بين الفقراء والأغنياء عند حساب المعاشات.
إن التأمينات الاجتماعية التي تتولاها الدولة أو مؤسسة التأمينات للعمال والعاملين جائزة ؛ لأن الدولة ملزمة برعاية مواطنيها في حال العجز والشيخوخة والمرض ونحو ذلك من إعاقة العمل أو الكسب، فقيام الدولة باستقطاع نسبة من أجور العمال وأرباب العمل لمؤسسة التأمينات الاجتماعية عمل جائز للمصالح الكثيرة التي يحققها ذلك للعمال وأصحاب العمل والمجتمع بأسره، لأن نظام التأمينات الاجتماعية الذي تقوم به الدولة وتشرف عليه لا يستهدف تحقيق الربح، حيث يموله العامل والدولة وصاحب العمل، ويحصل فيه العامل على التعويض عند تحقق شروطه.
وقد جاء في ” قرار مجمع البحوث الإسلامية ” في مؤتمره الثاني بالقاهرة في شهر 1385هـ/ مايو 1965م: ” نظام المعاشات الحكومي ، وما يشبهه من نظام الضمان الاجتماعي المتبع في بعض الدول ، وكذا نظام التأمينات الاجتماعية المتبع في الدول المختلفة : كل هذا من الأعمال الجائزة“.. ”( فقه النوازل” للجيزاني (3/ 266).
فليس نظام التأمينات الاجتماعية من باب المعاوضات المالية بين مؤسسة التأمينات والعمال ، وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين التجاري ، الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية التي يقصد بها استغلال شركات التأمين للمؤمن عليهم وتحقيق الربح من ورائهم .
وقد قال الدكتور وهبة الزحيلي :” ولا ينظر إلى الاشتراكات التي تقتطعها الدولة شهرياً من أصحاب العمل لمصلحة التأمينات الاجتماعية، أو المبلغ الذي يدفعه العامل أو الموظف باختياره في حدود نسبة مئوية كل سنة، ليحصل على تعويض إجمالي عند الإحالة على التقاعد أو المعاش أو عند الإصابة أو العجز أو المرض ،فهذه المدفوعات لا ينظر إليها نظرة ربوية، وإن أخذ الموظف أو العامل أكثر مما دفع؛ لأن المدفوع في الحقيقة يعد تبرعاً أو هبة مبتدأة وتعاوناً من قبل المشتركين في الصندوق التقاعدي أو التأمينات الاجتماعية ، والتي هي إحدى مؤسسات الدولة” “الفقه الإسلامي وأدلته، د .وهبة الزحيلي ” (5/ 116)، بالإضافة إلى ذلك فقد قال الدكتور يوسف الشبيلي : ” التأمينات الاجتماعية في الحقيقة : هي تأمين تعاوني ؛لأنه ليس الغرض منها الربح ؛ لأن الدولة أو المؤسسات العامة ترعاه بغرض مساعدة العمال الذين يبلغون سنًّا معينًا لا يستطيعون معه العمل، فهو في الحقيقة تأمين تكافلي تعاوني، وليس تأمينًا تجاريًا ” ”( الأسهم والمعاملات المالية المعاصرة، د. يوسف الشبيلي، ص 45)”.
الحمد لله في البدء والختام والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الكرام.
*الأستاذ بكلية الشريعة والقانون -جامعة صنعاء- نائب العميد للشؤون الأكاديمية .

قد يعجبك ايضا