مقولة : (الثورة يصنعها الشرفاء ويقودها الشجعان ثم يسرقها الجبناء) وفي رواية أخرى (الثورة يصنعها الشرفاء ويرثها ويستغلها الأوغاد) أو (الثورة يخطط لها العظماء ويصنعها الأبطال ويستفيد منها الجبناء) ، هذه المقولة برواياتها المتعددة المنسوبة إلى الثائر الكوبي الأرجنتيني المولد الأممي الشهير (تشي جيفارا) تشير إلى معنى موحد خلاصته : أن الانتهازيين دائماً يتربصون بالأحداث والتغييرات للاستفادة منها إلى أقصى ما يستطيعون ، أما أصحاب النوايا الحسنة من الثوار فتدهسهم ألاعيب من ينتسبون إلى السياسة ومؤامراتهم الذين سرعان ما يتلقفون راية الثورات فيحولون شعلتها إلى غبار وأصوات تردد في مواسم الاحتفالات ، لأن الثورة عادة تعبير انفعالي عن الغضب والغاضب يَذهب عقله فيصغي إلى الأصوات العالية والمزايدات الكاذبة التي يُجيدها المنافقون وليس الشرفاء ، ولعل هذا هو المقصود من مقولة الشاعر عبدالله البردوني:(الأباة الذين بالأمس ثاروا * أيقضوا حولنا الذئابَ وناموا)، هذا الوصف للثوار بالأباة يقصد الجانب المشرق فيهم ، لأن مجتمع الثوار منهم الأباة الشرفاء الهادفين للتغيير للأفضل ، ومنهم الأنذال والأوغاد والمنافقين متسلقي مصعد جماجم شرفاء الثوار ، وأقول شرفاء الثوار تأكيداً على تحاشي وضعهم في سلة واحدة سواء من كانوا ضحايا وقودها في ساعاتها الأولى أم من رماد نار الصراعات على السلطة ، الانتقامات المتبادلة الناتجة عنها.
نعم إن التجارب الثورية في كثير من البلدان ومنها اليمن لم تحقق الأمن والاستقرار والسلام الذي يتوق إليه الشعب ولم يشعر باحترام الحياة والحرص الحقيقي وليس الشعاراتي على العدالة التي يستحيل أن تتحقق بدون المواطنة المتساوية ، وأي ثورة لا تهدف إلى تحقيق هذا الهدف لا تعدو كونها حلقة من حلقات الانتقام والانتقام المقابل ، وقادة أي انتقام يحمل اسم الثورة يشبهون بعضهم سواءً برفع الشعارات أو بالممارسات غير العادلة أو غير الحريصة على تحقيق العدالة قدر حرصهم على تحقيق ذواتهم والاستئثار بالسلطة والحكم تحت عناوين وحجج مُتعددة دينية كانت أو زمنية ، ولعل من أسباب هذا الحال حساسيتهم المفرطة تجاه النقد ولو كان بنّاءً غير مدركين أن سلوكهم هذا داءٌ يؤدي إلى تناسل الثورات بالمعنى الغوغائي ، والبعض يرى أن كل ثورة غير سلمية غوغاء أو تؤدي إلى الغوغائية حتماً.
إن أي ثورة لا يعي أصحابها أهمية التفريق بين الأمن والاستقرار وضرورة البحث عن تكاملهما لن تكون سوى حلقة من حلقات الصراع المستمر على السلطة ، ومن خلال الإطلالة السريعة على المعنيين فإن مدلول الأمن يعني جعل الإنسان والمكان الذي يعيش فيه وأي حي يشعر بأنه في مأمن من أي اعتداء على ذاته أو حقوقه سواء بصورة دائمة أو مؤقتة أي أن يأمن الإنسان على دمه وماله وعرضه ، أما الاستقرار فمعناه جعل الأوضاع مستقرة ولن يتحقق الاستقرار الدائم إلا إذا بُني على الأمن بمعناه الشامل وليس بالمعنى الذي يهم سلطة الحكم فقط أي أن يُبنى على تأمين كل عناصر حياة الإنسان كما أشرنا ، وحين نخص الإنسان هنا لا نستثني بقية الكائنات الحية لأن حياة الإنسان مرتبطة بحياة كل الكون ، وأي ثورة لا تخدم الحياة بهذا المعنى لا تستحق النظر إليها نظرة إيجابية.
فمن يحفظ للثورات نقاءها والثوار كما قُلنا مجتمع متعدد ومتناقض ممن دفع بهم بركان الثورة إلى واجهة المشهد ليقرروا مصير الحياة لمجرد حملهم شارة الثورة وما شرعية البركان سوى التفجير في وجه الكون والحياة وهل للثورة أي شرعية بدون أهداف تسعى لتحقيقها وتحاسب على تقصيرها في ما ألزمت به نفسها؟!
إن الثورة الحقيقية -إن وُجدت- هي الثورة على النفس أو كما قال الرسول الكريم (جهاد النفس) فمن جاهد نفسه ونزواتها وغلوائها ورغبتها في الانتقام والتجبر وعدم المبالاة بظلم الآخرين وادعاء حق استعبادهم بتصريح من الله ، أو وفق أي نظرية أو فلسفة، فهو ثائر وما قام به ثورة، فالثورة لا تحتاج لأي بهرجة إعلامية للاحتفاء بها لأن إثبات وجودها بتحقيق العدالة والحرية والمساواة في الحقوق والواجبات يُدخل البهجة والسرور إلى أرواح ونفوس الجميع لا إلى الجدران والساحات، وبذلك تصبح الثورة شمساُ تُنير دروب الحياة؛
وهل وُجدت أو ستوجد ثورة قادرة على نزع بذور الحقد والكراهية وتبادل الانتقام بدلاً من سقيها بالدماء؟
هذه هي الثورة التي يجب البحث عنها والاحتفاء بها والحفاظ عليها ، وتساؤلي هدفه البحث عن المعنى العام للثورة أضعه أمام كل الضمائر في مناسبات عديدة لكل منها أتباع وعشاق ولهذا فان الحديث موجه للجميع ليس بالمعنى السلبي لكلمة (الجميع) أو الخوف من قول الحقيقة إنما بالمعنى المجرد كي لا ينصرف إلى وقائع بذاتها، فكل التجارب مليئة بالوقائع التي تؤكد أن الحكمة كانت وما زالت وستبقى ضالة المؤمن علَّه يجدها.
كل طاغٍ له من الحق دعوى * ودعاوى الطغاةِ ظلمٌ أكيدُ