سجل أسود بجرائم القتل الجماعي للعراقيين واغتيال وتصفية العقول والعلماء
الحروب الأمريكية على الأمة.. العراق نموذجا (الحلقة الثالثة)
مراقبون:
كلفة الحرب على العراق لا تقاس بالأرقام المنشورة بل بما خسرته من كوادرها وأبنائها ومواردها وحضورها السيادي كدولة وشعب
جرائم الإبادة والنهب عَكَسَ حقيقة أمريكا التي حَذّر منها الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي منذ وقت مبكر
الفرح:
اشتعال العنف الطائفي والعرقي والمذهبي في العراق في فترات متلاحقة خلال وجود الاحتلال الأمريكي نتيجة للسياسات الأمريكية الإجرامية
المحتل الأمريكي أصدر قوانين اقتصاديّة خفضت معدّل الضّرائب المفروضة على الشّركات الأجنبية من 45% إلى 15% وسمح لها بتملّك 100% من أيّ أصول عراقيّة
في الحلقة السابقة عرضنا جملة من الأسباب المصطنعة بحبال المكايد الأمريكية القذرة ومحاولة استدراج العراق مناهج الرأسمالية القاتلة بدءا من دعمها المعلن لنظام صدام حسين في حرب الثمان السنوات مع إيران، مروجة تلك الحرب العبثية على أنها في سياق الصراع العربي الفارسي، العابر لذاكرة التاريخ، ورأينا كيف جرت الاستعدادات الأمريكية سياسيا وعسكريا لغزو العراق عبر الشعارات التي أطلقتها لتبرير هجومها العدواني على الشعب العراقي، ومعطيات تقبل الشعب العراقي وانخداعه بتلك الشعارات الزائفة.
أما في هذه الحلقة فسنقدم ملفا مثقلا بالجرائم الأمريكية الجسيمة بحق الشعب العربي العراقي المسلم، وبحق سجله التاريخي ومآثره الحضارية وموارده النفطية والاقتصادية، وقوته البشرية والعسكرية والأكاديمية وبنيته الحضرية التي كانت أكثر رصانة ورزانة في الشرق الأوسط، مع التطرق إلى حيل المحتل التي صنعت التيارات الإرهابية الامريكي الذي صنع لخلق ذريعة بقائه في العراق، لكن قبل ذلك يجب الذهاب إلى مفارقات تتصل باختلاف الرؤية لنتائج الاحتلال الكارثية من جهة نظرنا كأمة ومن وجهة نظر أمريكا كعدو تاريخي.. إلى التفاصيل:
الثورة / إعداد وقراءة/محمد محمد إبراهيم
من أجل احتلال العراق والإجهاز على منظومته الدفاعية والعسكرية الميدانية استمرت المعارك الأمريكية التي شاركت فيها فيالق كبيرة من قوات المارينز الأمريكية وفق تحالف دولي واسع 19 يوماً، واجهت فيها القوات الغازية مقاومة من الجيش العراقي الذي كان يقاتل دون غطاء جوي، لكن تلك القوات ألحقت بالغزاة خسائر فادحة في الأرواح حيث خسرت أمريكا 4500 جندي لقوا مصرعهم على أرض العراق وأصيب نحو 30 ألفاً آخرين، و179 جندياً بريطانياً والممتلكات.
وقدر عدد الشهداء العراقيين الذين سقطوا على مدى خمس سنوات من بدء الحرب نحو مليون شهيد وجريح جلهم من المدنيين، منهم 655 شخصا استشهدوا في المواجهات أو تحت القصف الأمريكي، من أصل 26 مليوناً هم سكان العراق بحسب إحصاءات ما قبل الاحتلال. في حين اعترف الجيش الأمريكي بمقتل نحو 77 ألف عراقي خلال يناير 2004م وأغسطس 2008م بينهم نحو 63 ألف مدني، والباقين من العسكريين.
وبالإشارة إلى هذه النتائج يؤكد المراقبون أن كلفة الحرب على العراق أكبر بكثير مما يتصوره المراقبون أو يحصرونه في ما أنفقته الإدارة الأمريكية الحقيرة في تمويل هذه الحرب، بل يقاس فيما خسرته العراق كوادرها ومواردها وحضورها النفطي والاقتصادي والعسكري، ما يعني أن الكلفة تتجاوز عشرات التريليونات إن لم نقل المئات من التريليونات من الدولارات، بينما الأمة الإسلامية تنظر إلى ذلك بصمت كبير وكأن الأمر لا يعنيها.
وأكد المراقبون أن ما شهدته العراق من جرائم الإبادة والقتل المتعمد يعكس بلا منازع ثقافة القتل والهمجية والبربرية التي هي حقيقة أمريكا التي حذر منها الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي – رضوان الله عليه – منذ وقت مبكر في سياق استطراداته عن المفارقات المحورية الموصولة برؤية شيطان الاستكبار الأكبر (أمريكا) في توصيفها وتعريفها لما يحدث في العالم من أحداث وحروب قد تحدث في أمريكا أو تحدث للشعوب الإسلامية أو أي شعب من شعوب العالم بفعل مكائدها السياسية القذرة، فتعريفها لمجريات حربها على شعب من الشعوب، بحروب تحرير، مهما كانت المجازر والدماء والدمار غير تعريفها لقمعها العلني والعنصري لجماعة السود وقتلهم وسحلهم وإقصائهم بأنه إجراء قانوني من أجل هيبة الدولة والنظام والقانون.
الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي تطرق لمفارقات وكيفيات خطيرة بين الأمة العربية والعقلية الأمريكية تتصل هذه المفارقات بشرعنة السياسة الأمريكية لحروبها، وكيف يستغلون أي حدث ليتحركوا ويعطوا لأنفسهم شرعية التحرك من خلاله بينما نحن كمسلمين نسكت ونتخاذل ونحن من أعطانا الله شرعية التصدي لعدوانهم المتكرر على مدار الساعة ومواجهة عدوانهم وإرهابهم.. ففي محاضرته “وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن” التي ألقاها بتاريخ: 11/2/2002م- اليمن – صعدة، أكد السيد حسين بدر الدين الحوثي أن حادثا واحدا حصل في نيويورك تحرك له المواطنون من اليهود والنصارى في مختلف بلدان أوروبا وضربوا المسلمين في الشوارع وهاجموهم إلى مساجدهم وإلى مراكزهم وقُتل كثير منهم وسجن كثير وأوذي كثير من المسلمين هناك، انطلقوا على أساس حادث واحد على مبنى واحد (إشارة إلى حادث 11 سبتمبر واستهداف برج التجارة العالمي).. مضيفا: “أما نحن فمئات الحوادث على أمم بأكملها على عشرات المباني على عشرات المساجد على عشرات المستشفيات على عشرات المدارس في مختلف المناطق الإسلامية ولا نتحرك، أليس هذا يعني بأن أولئك أكثر اهتماماً بأمر أمتهم أكثر منا ؟ هم من انطلقوا حتى في أستراليا- وأين أستراليا من أمريكا ؟ – وفي بريطانيا وفي فرنسا وفي ألمانيا وفي مختلف المناطق، انطلقوا لإيذاء المسلمين وضربهم بعد ذلك الحادث.”
وقال رضوان الله عليه: “حادث على مبنى واحد وليس من المحتمل أن يكون ذلك بتخطيط أي جهة لا دولة إسلامية ولا دولة عربية ولا منظمة من المنظمات داخل هذه البلدان، وإنما هو من عمل الصهيونية نفسها، فأنت عندما تشاهد أنهم يميتون أمتك ويميتون دينك فعلاً – بالفعل وليس بالقول فقط – ثم تجبن أن تقول قولا: الموت لأمريكا – الموت لإسرائيل، أليس هذا يعني أنك لم تصبح شيئاً ولم تعد شيئاً؟ وأنك في الواقع أصبحت صفراً في هذه الحياة”..
سجل رصدوي
في القسم الرصدوي من الجزء الثاني من كتابه “طبيعةُ الصِّرَاعِ مع أهلِ الكِتابِ- مجال الصراع الثقافي والأخلاقي والسياسي”.. يقول الأستاذ محمد محسن الفرح : منذ قيام كل من القوات الأمريكية والتحالف بشن الحرب على العراق، وإطاحة نظام الرئيس العراقي صدام حسين عام 2003م، ونتيجة للاحتلال فقدحدثت دوامة من أعمال العنف والقتل والخطف والصراع الطائفي قتل فيها مئات الآلاف من العراقيين.
وارتكبت القوات الأمريكية والبريطانية في العراق، برا وجوا بواسطة الأسلحة الفتاكة والمحرمة، تقتيلا جماعيا وفرديا واعتقالات جماعية وتعذيبا في المعتقلات والسجون وإهانات للشعب العراقي، ومن تدمير للمدن (الفلوجة – الرمادي – الكوت على وجه المثال …) وتدمير للبنى التحتية بما فيها تلك التي لها علاقة بالإنتاج الغذائي بما نتج عن ذلك من اتساع البطالة، وبالتالي تدهور فظيع في المعيشة والصحة والسكن وفي كافة الخدمات الاجتماعية.
التعذيب المادي والمعنوي، والاعتقالات التعسفية، والمعاملات اللاإنسانية التي تمس بالكرامة، كانت رصيدا آخر من الجرائم الجسيمة لقوات الاحتلال الأمريكي في العراق، حسب المؤلف محمد محسن الفرح الذي أكد طرحه بما نشره موقع ويكيليكس لما يقارب 400 ألف وثيقة تتعلق بالحرب في العراق وجاء في بيان للموقع أن الوثائق توضح “عددا كبيرا من جرائم الحرب التي تبدو واضحة من قبل القوات الأمريكية مثل القتل العشوائي لأشخاص كانوا يحاولون الاستسلام”. وتطرق موقع ويكيليكس إلى تصرف الجنود الأمريكيين الذين “فجروا أبنية بكاملها لأن قناصا يوجد على سطحها”.. واستعرض أبرز المجازر التي ارتكبها الاحتلال الأمريكي في العراق، على النحو التالي:
مجزرة مكر الذيب
وهي قرية عراقية تقع على الحدود السورية شهدت عرسين وكان المحتفلون يطلقون النار في الهواء وبعد انقضاء العرس هاجمتهم طائرات الأباتشي الأمريكية وهم يغطون في النوم، فخرجوا مسرعين إلى الشوارع ففاجأهم الجنود الأمريكيون بإطلاق النار عليهم فقتلوا ما يقارب 42 قتيلا بينهم 11 امرأة و14 طفلا. وفي دراسة نشرتها المجلة الطبية البريطانية (ذو لانست) عام 2004م جاء فيها أن 100 ألف مدني عراقي قد قضوا نحبهم منذ الاحتلال الأمريكي لبلادهم، وأغلبية العدد كانوا من النساء والأطفال، وعندما سئل الجنرال جيمس ماتيس قائد قوات مشاة البحرية (المارينز) عن المجزرة التي ارتكبتها قواته، ومشاهد الجثث والدمار التي بثتها الفضائيات، قال باستهتار وبرود (أنا لم أشاهدها لكن أمورا مؤسفة تحصل أثناء الحرب).
مجزرة الفلوجة
مجزرة الفلوجة هي جريمة حرب وإبادة جماعية ارتكبتها القوات الأمريكية في مدينة الفلوجة. وقعت المجزرة في يوم 28 أبريل 2003م عندما أطلقت القوات الأمريكية النار على مدنيين كانوا يتظاهرون ضد وجود القوات الأمريكية في الفلوجة. أدعى الجنود الأمريكيون بأنهم كانوا يتعرضون لإطلاق نار من قبل المتظاهرين، ولكن منظمة هيومن رايتس ووتش التي عاينت مكان المجزرة قالت أنها لم تجد أي دليل مادي يثبت إطلاق النار على مكان تواجد القوات الأمريكية” لم تجد هيومن رايتس ووتش أدلة قاطعة على أضرار ناجمة عن الرصاص في المدرسة التي كان يتمركز فيها الجنود الأمريكيون أثناء الحادثة الأولى، مما يثير تساؤلات جدية حول التأكيد على تعرضهم لإطلاق النار من قبل أفراد من الحشد. في المقابل، كان للمباني الواقعة على الجانب الآخر من الشارع المواجهة للمدرسة أدلة كثيرة على آثار الرصاص من عيارات متعددة والتي كانت أوسع وأكثر استدامة مما كان يمكن أن تكون ناجمة عن “النيران الدقيقة” التي أكد الجنود أنهم ردوا بها، ما أدى إلى وقوع إصابات بين المدنيين، ذلك اليوم”.
حسب شهادات السكان المحليين بدأ الجنود الأمريكيون بإطلاق النار على المتظاهرين العزل ما أدى إلى مقتل حوالي 20 شخصا وإصابة أكثر من 70.
جريمة ساحة النسور
قام حراس (شركة بلاك ووتر) بإطلاق نار عشوائي في ساحة النسور ببغداد في 17 سبتمبر عام 2007م، ما أدى إلى مقتل 17 عراقياً وجرح آخرين وتقول الشركة إن إطلاق النار كان رداً على هجوم تعرض له موكبها في حين تنفي مصادر أخرى هذا الادعاء وتقول إن الحراس أطلقوا النار بشكل عشوائي وبدون سبب. على إثر هذا الحادث طالبت الحكومة العراقية شركة بلاك ووتر بوقف فوري لأعمالها في العراق والخروج منه باستثناء المتورطين في الحادث الذين يراد محاسبتهم. ثم تم تغيير الطلب إلى تعويض قيمته 8 ملايين دولار أمريكي على كل قتيل، ولتخفيف السخط وامتصاص الغضب فتحت الحكومة الأمريكية تحقيقاً في الحادث وأرسلت لجنة خاصة للعراق للتحقيق.
مجزرة الموصل
في يوم الجمعة 17 مارس 2017م، شنت طائرات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة غارات على أحياء الموصل الجديدة في الجانب الغربي من مدينة الموصل، أدت الغارات إلى مقتل ما يقارب 700 شخص من المدنيين. هذه الغارات تعتبر الأشد فتكاً بالمدنيين من بين جميع العمليات الجوية التي نفذها الجيش الأمريكي منذ غزو العراق عام 2003م.
وقد ادعت الولايات المتحدة وجود مقاتلين تابعين لداعش فوق ملجأ يتحصن به جمع كبير من المدنيين في الموصل الجديدة وتم قصف المبنى ليقع ضحية القصف أكثر من 700 قتيل. قالت الولايات المتحدة أنها ستبث صورا تظهر المقاتلين فوق المبنى لكنها لم تفعل.
الجرائم في شتى المجالات
لم تتوقف الجرائم عند ذلك الحد بل طالت كل شيء، فقد أدت الحرب الأمريكية على العراق في عام 2003م -حسب الفرح- إلى تدمير العراق وخسارته للكثير من مقدراته الاقتصادية وموارده البشرية بسبب الحرب وأعمال النهب التي رعتها الإدارة الأمريكية المحتلة للعراق، بالإضافة إلى عمليات القتل المنظم والتفجيرات والاغتيالات. موردا في هذا السياق – على سبيل المثال لا الحصر – قيام الجيش الأمريكي، خلال الاجتياح، برمي أكثر من 380 صاروخا “توماهوك” في يوم واحد، وكذلك قيامه، خلال أسابيع “المعارك الكُبرى”، بإطلاق أكثر من 30 ألف قنبلة، و20 ألف صاروخ كروز دقيقة الهدف، أي 67% من عدد الصّواريخ المصنوعة، وتعمد تشجيع عملية نهب وسرقة آثار المتحف العراقي الوطني، حيث اختفى 80% من أغراض المتحف الإسلامي الـ 170000، والّتي لا تقدّر بثمن”، كما جرى إحراق المكتبة الوطنيّة الّتي كانت تحتوي على نسخ من كلّ كتاب وأطروحة نُشرت في العراق، وكذلك اختفت سور القرآن المزخرفة التي يعود عمرها لمئات السنين، ليفقد الشعب العراقي تراثه الوطنيّ، “وأزيلت الذّاكرة العميقة لثقافةٍ استمرّت لآلاف السّنين”.
وأضاف الفرح ساردا أشكال الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال الأمريكي: تخريب الجنود الأمريكيين لمطار بغداد الدّولي وتدمير الطائرات العراقية عمدًا، وقد وصلت قيمة الأضرار الّتي تكبّدتها الخطوط الجوّيّة الوطنيّة العراقيّة إلى مئة مليون دولار أمريكي، ما جعلها المؤسسة الأولى الّتي عُرضت في المزاد العلنيّ في أوائل مراحل الخصخصة الأمريكية.. وانتشار ظواهر خطف المواطنين وتهجيرهم وقتل النخب العلمية من الأكاديميين والمهنيين والأطباء والمعلمين والمتعهدين والعلماء والصيادلة والقضاة والمحامين وغيرهم.. ويقدّر عدد الأكاديميين العراقيين الّذين قُتلوا على أيدي فرق الموت منذ الاجتياح الأمريكي بالآلاف، بمن فيهم عمداء الجامعات، وعلماء الطاقة النووية بينما فرّ الآلاف غيرهم. وكان الأطباء هم أكثر المتأثرين بهذه الموجة: فبحلول شباط من العام 2007، قُتل حوالي ألفي طبيب، وهرب اثنا عشر ألفًا غيرهم، وقدّرت الهيئة العليا للاجئين التّابعة للأمم المتّحدة، عدد العراقيين الّذين يغادرون بلادهم يوميًّا بثلاثة آلاف مهاجر، كما أُجبر أربعة ملايين عراقي على مغادرة منازلهم بحلول نيسان 2007، بحسب تقرير المنظّمة، أي عراقيّ واحد من أصل سبعة، ولم تستقبل الولايات المتّحدة سوى بضع مئات فقط من هؤلاء اللّاجئين، كما ازدهرت ظاهرة الخطف وطلب الفدية، فقد تمّ خطف عشرين ألف شخصٍ تقريبًا في الشّهور الثّلاثة والنّصف الأول من العام 2006م.
جرائم النهب الاقتصادية
ولأن الحرب الأمريكية على العراق واحتلالها للعراق ترتكز في أهدافها المضمرة إلى نهب الثروات وبما يعزز قدراتها المالية والاحتياطيات النقدية خدمة لغايتها المعروفة باستمرار الهيمنة الاقتصادية على العالم، فقد شملت جرائم القوات الأمريكية المحتلة للعراق كافة مناحي الحياة، فحسب المؤلف محمد محسن الفرح بدء من عملية إعادة إعمار العراق التي شكلت امتدادًا طبيعيًا لعملية الاجتياح الأمريكي، فلم تكن إعادة إعمار بقدر ما كانت عملية إعادة تدمير بزي مختلف.. مؤكدا أن القوات الأمريكية سرقت 60 مليار دولار من أموال العراق، في أكبر عملية نقل للعملة المحمولة جواً في تاريخ العالم وأكبر سرقة أموال في التاريخ.. إضافة إلى تحجيم الدّولة بشكل جذريّ وخصخصة أصولها، وتقليص القطاع العام، فقد كان الاقتصاد العراقيّ قبل الاجتياح مرتكزًا على شركة البترول الوطنيّة، ومائتي شركة تابعة للدّولة، كانت تُنتج السّلع الغذائيّة الأساسيّة والموادّ الخام المطلوبة للصّناعة: أي كلّ شيء، من الإسمنت إلى الأوراق وزيوت الطّبخ، ولكن في الشّهر التّالي لوصول، بريمر إلى العراق أعلن أنّه ستتم فورًا خصخصة الشّركات الحكوميّة المائتين، وبالفعل توقّف عمل الشّركات العراقيّة المائتين التّابعة للدّولة، بمجرّد وصول المؤسّسات الأجنبيّة إلى أرض الوطن، بسبب عجزها عن منافسة الواردات المتدفّقة عبر الحدود المفتوحة.
وأثناء الاحتلال عمل المحتل الأمريكي على إصدار قوانين اقتصاديّة جديدة لجذب المستثمرين الأجانب، كي يشاركوا في مزاد الخصخصة وينشئوا مصانع جديدة وأسواق البيع بالتّجزئة الّتي كان يحتاجها العراق، وسمح واحدٌ من القوانين بتخفيض معدّل الضّرائب المفروضة على الشّركات من حوالي 45% إلى 15%. كما أنّ قانونًا آخر سمح للشّركات الأجنبيّة بتملّك ما نسبته 100% من أيّ أصول عراقيّة، بل كان هناك ما هو أسوأ، فقد كان باستطاعة المستثمرين إخراج كلّ ما ربحوه في العراق إلى خارج البلاد، بدون أن يتكبّدوا أيّ أعباء ضريبيّة، كما نصّ المرسوم على إعطاء الحقّ للمستثمرين بتوقيع عقود الإيجار والاتفاقات الّتي يُمكن أن تدوم لمدّة أربعين سنة قابلة للتّجديد، ما يعني أنّ أيّ حكومة مستقبليّة كانت ستتحمّل مسؤوليّة الصّفقات الّتي أبرمها المحتلّون.. واستئثار سلطات الاحتلال بما قيمته عشرون مليار دولار من المداخيل العائدة إلى شركة النّفط الوطنيّة العراقيّة، لتقوم بإنفاقها على هواها.
كما تعمد الأمريكان إبادة الصناعة الوطنية العراقية التي كانت تشكل مصدر اعتزاز عراقي، ففيما يختصّ بعملية إعادة الإعمار وحدها، فقد بدأ ضخّ الأموال ومنها 20 مليار دولار من أموال النّفط العراقيّ، لم يذهب أيّ من هذه الأموال إلى المصانع العراقيّة لتمكينها من إعادة إرساء أساسات اقتصاد دائم وقابل للحياة، وخلق فرص عمل محلّيّة، وإنشاء شبكة أمان اجتماعيّ، ولم يكن للعراقيين عمليًّا أيّ دور في هذه الخطّة على الإطلاق، فقد قبضت “بيرينغ بوينت”، فرع شركة المحاسبة والاستشارات العالميّة البارزة “كاي. أم. جي.”، مبلغ 240 مليار دولار لبناء “نظام مسيّر من قبل السّوق”، في العراق.
وركز المحتل على إشراف شركات أمريكية متخصّصة في الشّؤون الأمنيّة- ومتعاقدون متخصّصون في الشّؤون الدّفاعيّة- على تدريب الجيش العراقيّ الجديد وقوى الشّرطة (“دينكورب، فينيل”، ومجموعة “كارلايل”، و”يو أس أس”، وغيرها). بالإضافة إلى قيام شركات أمريكية تُعنى بالشّأن التّربويّ، بوضع مسودّة للنّهج الواجب اتّباعه في مرحلة ما بعد صدّام، وقامت بطبع الكتب الجديدة (مُنحت شركة “كريايتف أسوسييتس”، وهي شركة تُعنى بالإدارة والاستشارة التّربويتين متّخذةً مقرًّا لها العاصمة واشنطن، عقودًا تجاوزت قيمتها 100 مليون دولار للقيام بتلك المهامّ).
ناهيك عن تسريح ما يزيد على 500 ألف عراقيّ، أغلبهم من الجنود، ومن بينهم أطبّاء وممرّضات ومعلّمين ومهندسين، ولم يُقدّم تفسيرًا واضحًا لهذا الكمّ الكبير من التّسريح، أو لهذا التّدمير الهائل لمجمل القطاع العام، والاعتماد على المتعهدين والعمال الأجانب في عملية إعادة الإعمار، بحيث لم يستخدم في هذه العملية سوى 15000 عراقي، وانخراط كبار المتعهّدين المعروفين اليوم في العراق بـ “النّخب”، في إدارة مخطّط موسّع للتّلزيم الجزئيّ بحيث انتقل الالتزام من متعهد إلى متعهّد من الدّرجة الثانية ثم الدّرجة الثّالثة، ثمّ إلى آخر من الدّرجة الرّابعة، وهكذا تحوّل المبلغ المرصود لتنفيذ المشروع، إلى مبلغ مدفوع إلى أربعة متعهّدين، ما اضّطرّ المتعهد الأخير في النهاية إلى ممارسة الاحتيال عند التنفيذ وبما يخالف المواصفات المطلوبة، وقد استمرّ هذا الاحتيال لثلاث سنوات ونصف السّنة، ريثما خرج كلّ متعهّد كبير من العراق وقد دُفعت لهم ملايينهم بدون أن يُنجزوا أعمالهم، ولقد تلقّت شركة “بارسونز” 168 مليون دولار لبناء 142 عيادة صحيّة، لم يُنجزوا منها إلاّ ست عيادات.
الفساد الذي انتشر أثناء الاحتلال، لم يكن من وجهة نظر المؤلف الفرح نتيجة سوء إدارة، بل قرار خلفيّته حكمة عمليّة: إذا كان قد أريد للعراق أن يكون حقل الاستكشاف الجديد للرّأسماليّة الغربيّة المتوحّشة، فقد كان لا بدّ من تحريره من أيّ نظم وقوانين، وقد قامت إدارة بوش بحماية كلّ الشّركات الأمريكية العاملة في العراق من أيّ مسؤوليّة قانونيّة تجاه القانون العراقيّ، كانت تلك اللّعبة الّتي خصّصتها واشنطن للعراق: صدم البلد وترهيبه برمته، وتدمير بناه التّحتيّة بشكل متعمّد، وعدم التّصرّف إزاء سرقة ثقافته وتاريخه، ثمّ بعد ذلك، محاولة ترقيع الأمور، بواسطة تموين غير محدّد من التّجهيزات المنزليّة الرّخيصة والأطعمة المبتذلة.
إنشاء التنظيمات الإرهابية
جرائم أمريكا الجسيمة في العراق لم تتوقف عند ما سبق ذكره، بل تزامن مع تلك الجرائم مساعي أمريكية حثيثة أفضت إلى إنشاء داعش، وفي هذا السياق أكده المفكر الأمريكي “نعوم تشومسكي” في إحدى مقابلاته التلفزيونية نقلًا عن “غراهام فولر” الخبير في قضايا “المنطقة العربية والعالم الإسلامي” والعميل في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA، بأن أمريكا هي من صنعت داعش والحركات التكفيرية، إن لم يكن بطريقة مباشرة فبطريقة غير مباشرة، من خلال خلق البيئة المناسبة لنمو هذه الحركات بعد احتلال العراق عام 2003م، حسب المؤلف محمد حسن الفرح الذي أضاف: من أهم السمات والمظاهر التي تزامنت مع جرائم أمريكا في العراق، اشتعال العنف الطائفي والعرقي والمذهبي في العراق في فترات متلاحقة خلال وجود الاحتلال الأمريكي وبعد خروجه، وتحول العراق إلى حالة من الفوضى المتفشية، ونشير في هذا المجال إلى أنه قبيل الانسحاب الأمريكي، فإن معظم الضحايا من العراقيين لم يسقطوا في مواجهات مع قوات الاحتلال، إنما نتيجة العنف الطائفي الداخلي، الذي حرض عليه الاحتلال الأمريكي والمجموعات التكفيرية وخصوصًا جماعة أبو مصعب الزرقاوي، هذا التشرذم والتفكك الطائفي هو ما سعت أمريكا وإسرائيل إلى تعميمه بعد تجربة العراق في مختلف بلدان المنطقة كسوريا ولبنان واليمن والسعودية وباكستان”..
تتابعون في الحلقة الرابعة استهداف أمريكا لعلماء العراق وجرائم الاحتلال وانتهاكاته في سجون العراق، وكيف كان العراق من الناحية الزراعية بحكم موقعه الخصيب، وكيف حاول الاحتلال الأمريكي تدمير مقدرات ومقومات العراق الزراعية.. ثم تداعيات احتلال العراق على أمريكا نفسها، وكيف حاولت الإدارة الأمريكية التخلص والهروب من المسؤولية الجنائية والقانونية إزاء جرائمها في العراق.
الحلقة الاولى :
الحروب الأمريكية الشاملة على الأمة.. العراق نموذجاً (الحلقة الأولى)
الحلقة الثانية :
الحروب الأمريكية الشاملة على الأمة..العراق نموذجا (الحلقة الثانية)