من صراع المفاهيم إلى اغتيال العقول
الحروب الأمريكية الشاملة على الأمة..العراق نموذجا (الحلقة الثانية)
في 1989م أدركت النخبة الأمريكية التي ساندت صدام حسين في حربه ضد إيران استحالة سيره في السيناريو الاقتصادي المرسوم له
سيناريو إغراق بغداد بالقروض بحجة تطوير بنيتها التحتية أدخل بفشله الإدارة الأمريكية في أزمة لم ينقذها منها سوى غزو صدام للكويت
الإدارة الأمريكية اتخذت سياسة بناء وإنشاء التنظيمات الإسلامية المتطرفة لتبرير حروبها على الأمة
أن يكون النظام فاسداً أو مجرم حرب وإبادة لا يهم الإدارة الأمريكية ما يهمها هو مصالحها وإلا لما تغاضت عن جرائم حلفائها
احتلال أفغانستان فتح شهية الأمريكيين والإسرائيليين للحرب المدمرة على بلدان أخرى وسرَّع في العد التنازلي لاحتلال العراق
الحرب النفسية لعبت على جرائم النظام منذ 1968م مع واشنطن كانت مؤيدة لكل إجراءات النظام العراقي
في الحلقة الأولى تتبعنا التأسيس الأمريكي لأرضيات الخلاف أولا مع شعوب الأمة الإسلامية عبر مسار طويل ومعقد شهدتها انعطافات التاريخ المعاصر، وكيف أكبر الحروب الإجرامية التي تقودها أمريكا تبدأ بفكرة مغلفة بالبعد الإنساني، يطلقها الساسة الأمريكان الذين يدارون من لوبي صهيوني ضارب في عمق الدولة الأمريكية، فتتلقفها آلات الإعلام الضخمة، وتنتهي الفكرة بكارثة مأساوية تنتجها حرب عدوانية مدمرة لدول وأنظمة وشعوب، إسلامية وصولاً إلى استهداف عقولها المستنيرة، وفق نظرية «الغاية تبرر الوسيلة» التي خولت الإدارات الأمريكية المتلاحقة استخدام كل بروتوكولات السياسة الصهيونية الخبيثة وصولاً إلى الانقضاض على ثروات الشعوب.
أما في الحلقة الثانية فسنواصل عرض الأسباب والاستعدادات الأمريكية سياسياً وعسكرياً لغزو العراق وقراءة الشعارات التي أطلقتها لتبرير هجومها العدواني على الشعب العراقي، ومعطيات تقبل الشعب العراقي وانخداعها بتلك الشعارات الزائفة، لكن قبل الذهاب إلى ما توقفنا عنده في الحلقة الماضية من الاستعدادات للغزو والاحتلال، نود الإشارة إلى أهم الاستراتيجيات الأمريكية في تغليف الشعارات الخبيثة بأبعاد ودلالات إنسانية بحتة، لتهيئة المجتمعات لمرحلة الهيمنة السياسية والاقتصادية على الشعوب وتحويلها من مجتمعات منتجة إلى أسواق مستهلكة، عبر سيناريوهات تركز على إغراق البلدان في القروض الخارجية، هو الخطر الذي ما يزال محدقا حتى اللحظة بشعوب الأمة الإسلامية.. إلى التفاصيل.
الثورة / إعداد وقراءة/ إدارة التحقيقات
استندت السياسة الأمريكية الصهيونية على مغالطة العالم الإسلامي وفق قراءات استشراقية لأهم نقاط القوة والضعف في الدول الإسلامية، وعبر محطات التاريخ المعاصر تعزز إدراك الإدارة الأمريكية أن لا مجال من غزو الشعوب قبل غزو العقول، ولكن وفق شعارات تنادي في ظاهرها بما ارتكزت عليه قيم الدين الإسلامي من مبادئ ترقى بالإنسان وتحترم حقوقه الدينية والفكرية والثقافية، كما تحترم تعايش الحضارات والأديان من منظور إنساني ، كما أن نجاح غزو العقول بحد ذاته يقوم على استخدام اللغة، واستخدام السياسات الاقتصادية القاتلة لقدرات الشعوب على استغلال الموارد البشرية والثرواتية التي منحها الله إياها..
في هذا السياق مؤلف كتاب (الاغتيال الاقتصادي للأمم- اعترافات قرصان اقتصادي) الصادرة نسخته العربية من الهيئة المصرية العامة للكتاب، الخبير الاقتصادي الدولي جون بيركنز أنه والخبراء الاقتصاديون قاموا بتطويع اللغة لتغليف استراتيجيتهم في النهب الاقتصادي، وذلك باستخدام مفاهيم مثل الحكم الرشيد وتحرير التجارة وحقوق المستهلك، بحيث لا تصبح السياسات الاقتصادية جيدة إلا من خلال منظور الشركات الكبرى، وأما الدول التي تقتنع بهذه المفاهيم فهي مطالبة بخصخصة الصحة والتعليم وخدمات المياه والكهرباء، أي أن تبيعها للشركات الكبرى، وهي مضطرة بعد ذلك إلى إلغاء الدعم وجميع القيود التجارية التي تحمي الأعمال الوطنية، بينما عليها القبول باستمرار أمريكا وشركائها من الدول الصناعية الكبرى في تقديم الدعم لقطاعات أعمالها وفرض القيود لحماية صناعتها.
ويرى بيركنز في النهاية أن هذه الإمبراطورية العالمية تعتمد على كون الدولار يلعب دور العملة القياسية الدولية، فالولايات المتحدة هي التي يحق لها طبع الدولار وبالتالي يمكنها تقديم القروض بهذه العملة، مع إدراكها الكامل أن معظم الدول النامية لن تتمكن من سداد الديون، وحسب تفسير “بيركنز” فإن النخبة الأمريكية لا تريد بالفعل قيام الدول بالسداد، لأن ذلك هو السبيل إلى تحقيق أهدافها بعد ذلك من خلال مفاوضات سياسية واقتصادية وعسكرية، ويفترض بيركنز أن حرية طبع النقد الأمريكي دون أي غطاء هي التي تعطي لاستراتيجية النهب الاقتصادي قوتها، لأنها تعني الاستمرار في تقديم قروض بالدولار ولن يتم سدادها.
اعترافات بيركنز تسلط الضوء على ممارسات نخبة رجال الأعمال والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية لبناء إمبراطورية عالمية تسيطر عليها “الكوربورقراطية” أي حكم منظومة الشركات الكبرى الأمريكية، ويحدد بيركنز دوره – مثل أقرانه من صفوة الخبراء في الشركات الاستشارية الأمريكية الكبرى- في استخدام المنظمات المالية الدولية لخلق ظروف تؤدي إلى خضوع الدول النامية لهيمنة النخبة الأمريكية التي تدير الحكومة والشركات والبنوك، فالخبير يقوم بأعداد الدراسات التي بناء عليها توافق المنظمات المالية الدولية على تقديم قروض للدول النامية المستهدفة بغرض تطوير البنية الأساسية وبناء محطات توليد الكهرباء والطرق والموانئ والمطارات والمدن الصناعية، بشرط قيام المكاتب الهندسية وشركات المقاولات الأمريكية بتنفيذ هذه المشروعات. وفي حقيقة الأمر فإن الأموال بهذه الطريقة لا تغادر الولايات المتحدة حيث تتحول ببساطة من حسابات بنوك واشنطن إلى حسابات شركات في نيويورك أو هيوستن أو سان فرانسيسكو، ورغم أن هذه الأموال تعود بشكل فوري إلى أعضاء في الكوربورقراطية فإنه يبقى على الدولة المتلقية سداد أصل القرض والفوائد.
المثير في اعترافات بيركنز هو تأكيده بأن مقياس نجاح الخبير يتناسب طرديا مع حجم القرض بحيث يجبر المدين على التعثر بعد بضع سنوات! وعندئذ تفرض شروط الدائن التي تتنوع مثل الموافقة على تصويت ما في الأمم المتحدة أو السيطرة على موارد معينة في البلد المدين أو قبول تواجد عسكري به، وتبقى الدول النامية بعد ذلك كله مدينة بالأموال ولكن في ظل الهرم الرأسمالي التي تشكل أمريكا قمته حسب التلقين الذي يتلقاه الخبراء باعتباره واجبا وطنيا ومقدسا على حد قول “بيركنز”.
لماذا العراق
وأمام العرض السابق للاستراتيجية الأمريكية أو بالأحرى استراتيجية هرم الرأسمالية في استهداف الشعوب، يبرز السؤال الأهم .. لماذا العراق..؟ وفي سياق اجابته على هذا السؤال المحوري في سلسلة حلقات الحروب الأمريكية على الأمة العراق نموذجا، يقول بيركنز: إن العراق ليس فقط النفط ولكن المياه والموقع الاستراتيجي والسوق الواسع للتكنولوجيا الأمريكية ولخبراتها الهندسية، ولقد بات واضحا منذ عام 1989م للنخبة الأمريكية التي ساندت صدام حسين في حربه ضد إيران أنه لن يسير في السيناريو الاقتصادي المرسوم له”.. ومن هذه النقطة عرفت النخبة أن حرب أمريكا على العراق بات أمرا محسوما، ولكن الوقت المناسب لن يأتي دون اكتمال الذرائع وضعضعة حضور العراق الاقتصادي النفطي وقوة جيش بغداد الأول في الشرق الأوسط.
وتؤكد التقارير الأمريكية نفسها أن الإدارة كانت على مدى عقد الثمانينيات تحاول جاهدة تحويل العراق إلى نسخة أخرى من حليفهم نظام آل سعود، عبر محاولة لفت انتباه صدام حسين إلى المنافع التي حصدها آل سعود من عمليات غسيل الأموال، وما نتج عن هذا الفساد المتغاضى عنه من صعود المدن الحديثة من قلب الصحراء، وكيف يتمتع السعوديون بجني ثمار بعض التكنولوجيات المتقدمة عالمياً، وفي مقدمتها محطات تحلية المياه بالغة التقدم، وأنظمة الصرف الصحي، وشبكات الاتصالات والكهرباء.
لكن صدام حسين لم يعر تلك المحاولات جانبا من التفاعيل المبشرة بابتلاعه طعم السيناريو الاقتصادي والتنموي، للسيطرة على استقلالية قراره، رغم أنه كان يعي أن السعوديين يتمتعون أيضا بمعاملة خاصة فيما يتعلق بالقانون الدولي، إذ أغمض أصدقاؤه المقربون في واشنطن أعينهم عن الكثير من الأنشطة السعودية، بما في ذلك، تمويل الجماعات المتشددة والتي يراها الكثيرون في العالم جماعات راديكالية أقرب الى الإرهاب، وليس هذا فحسب، بل طلبت الولايات المتحدة من السعوديين توفير الدعم المالي لأسامة بن لادن خلال دعمه المجاهدين الأفغان في حربهم ضد الاتحاد السوفيتي..
وذهب المحللون إلى أنه لو أن صدام حسين انخرط في الحلف الأمريكي وقبل بمعطيات السيناريو الاقتصادي والمنهج الرأسمالي، كان سيكون بوسعه أن يوقع عقدا نهائيا لحكم بلاده دون منازعة، بل ولربما أغمضت الإدارة الأمريكية عين رقابتها الانتهازية عن محاولاته توسيع دائرة نفوذه في تلك الرقعة من منطقة الشرق الأوسط.
لم تكترث واشنطن بأن صدام حسين يخفي داخله حاكما طاغية، وأن يديه ملطختان بدماء ضحايا القتل الجماعي، كما أن مذهبه السياسي وممارساته الوحشية تستحضر في الأذهان صور أدوليف هتلر.. مؤكدين أن الولايات المتحدة تسامحت مع كل الطواغيت غاضة الطرف عن جرائمهم، ولا يعنيها يكون صدام مجرم حرب أو حمامة سلام، ما يهمها ويسعدها هو أن تمنحه القروض الأمريكية في مقابل شراء بتروله أو مقابل اتفاقات تؤمن استمرار إمداد بلاده لواشنطن بالنفط الخام، أو مقابل صفقة تستغل واشنطن بموجبها فوائد هذه القروض في تشغيل عدد من الشركات الأمريكية تقوم بتحسين أنظمة البنية التحتية في العراق، أو إنشاء المدن الجديدة أو تحويل الصحراء إلى واحات… إلخ.
وقال المحللون: كان الاهتمام الأمريكي منصباً على العراق، لأسباب أخرى تضاف إلى احتياطيات من النفط الخام، منها موقعه الاستراتيجي المتاخم لإيران والكويت والسعودية والأردن وسوريا وتركيا، ويطل بساحل طويل على الخليج العربي، والمدى الصاروخي الذي يمكّن بغداد من إصابة أهداف حيوية في إسرائيل، الحليف الأول لواشنطن، بل التي تخوض أمريكا حروبا طويلة دفاعا عن ذراعها المحتل لأرض فلسطين.
مضيفين: لقد باءت كل محاولات خبراء وقراصنة واشنطن بالفشل، مدخلا إدارة بوش في أزمة هزت صورته أمام اللوبي الصهيوني المتحكم بالقرار في الكونجرس، وبينما كان بوش يتخبط في أزمته، قدم صدام حسين الحل على طبق من فضة بغزوه الكويت في أغسطس 1990م، فانتهز بوش الفرصة معلنا شجبه لصدام لانتهاكه القانون الدولي، بغض النظر عن أن بوش نفسه سبق وانتهك ذلك القانون قبل أقل من عام حين غزت قواته بنما.
العد التنازلي لتدمير العراق
بعد تلك المحاولات الفاشلة في تطبيق السيناريو الاقتصادي القاتل لإخضاع العراق وشل استقلاليته في القرار ومجازفة بغداد بغزو الكويت، بدأ العد التنازلي لمحاولة إسقاط النظام العراقي بقيادة صدام حسين، حيث أمر الرئيس الأمريكي يومها بهجوم عسكري شامل، وارسل خمسمائة ألف جندي أمريكي ضمن قوات التحالف الدولي البالغ 34 دولة، وخلال الشهور الأولى من 1991م شنت قوات التحالف هجوما جويا ضد أهداف عسكرية ومدنية عراقية وتبعه هجوم بري استمر لأكثر من أربعة أيام متواصلة حيث طاردت فلول الجيش العراقي الذي نفدت ذخيرته وخارت عزيمته، صارت الكويت آمنة، وعوقب نظام صدام حسين بحصار مفتوح على كل واردات البلد الداخلة في الصناعات مع استمرار الهجمات الجوية وتصعيد الحصار وتعنت استمر على مدى عقد من الزمن شهد فصولا من مسلسل العدوان الأمريكي الإسرائيلي على مقدرات العراق العسكرية والاقتصادية والزراعية والإنتاجية.
كما تخلل ذلك الحصار خلال عقد التسعينيات أحداث موصولة بقبول ورفض صدام للجنة مختصة من الأمم المتحدة بإرسال خبراء تفتيش عن أسلحة الدمار الشامل هي لجنة “أونسكوم”. وقامت هذه اللجنة بعملها حتى نهاية عام 1998. رغم فشلها في الوصول إلى خيوط جلية على أسلحة الدمار الشامل، إلا أنها اتهمت نظام صدام بعدم التعاون، لتشهد العراق في ديسمبر 1998 سلسلة من الغارات الجوية قامت بها القوات الأميركية والبريطانية على مواقع عراقية عسكرية ومدينة، وأثناء تلك الغارات سعت الإدارة الأمريكية لإصدار قانون تحرير العراق عام 1998 والذي أفضى لدعم المعارضة العراقية المقيمة في واشنطن بمبلغ 97 مليون دولار من أجل الإعداد لإسقاط النظام.
لكن التحولات الأهم في مسار العد التنازلي لاجتياح العراق وتدمير بنيته ونهب موارده، هو ما حدث 11 سبتمبر من العام 2001م من هجوم مدمر لبرجي التجارة العالمي في نيويورك بطائرتين مدنيتين أعلن تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن للندن مسؤوليته عنها، واتهمت طالبان الحاكمة حينها لأفغانستان، بإيواء التنظيم، وما هي أشهر حتى اجتاحت القوات الأمريكية أفغانستان معلنة سقوط نظام طالبان، ومطاردة أسامة ابن لادن في جبال تورا بورا، وفق نصر ساعد في تغيير المزاج الشعبي الأميركي الذي أحس بتهديده في أمنه في نيويورك وواشنطن، وأصبح أكثر تقبلاً ودعماً للسياسات التدخلية العسكرية تحت حجة القضاء على الإرهاب.
عوامل عجلت الاحتلال
بعد أن احتلت أمريكا أفغانستان وثبتت أقدامها هنالك بدأت بالتحضير لغزو العراق، وقد أسهمت – هزيمة القاعدة وطالبان السريعة وانكماشهم المفاجئ- في رفع منسوب المعنويات الأمريكية في مقابل ضرب نفسيات الكثير من الدول والشعوب العربية وقللت تلك الهزيمة من خسائر الأمريكيين، وفق ما قاله الباحث محمد محسن الفرح في كتابه : “طبيعة الصراع مع أهل الكتاب”، مضيفا: تلك النتائج وغيرها دفعتهم بقوة إلى مواصلة مخططاتهم، وتفتحت شهية الأمريكيين والإسرائيليين وتشجعوا أكثر وطمعوا في بلدان أخرى، وارتكزت استراتيجيتهم على تجنيد بعض الأنظمة العربية بجيوشها وإمكانياتها المادية ووسائلها الإعلامية، ليقاتلوا بديلاً عنهم ويطاردوا من تصفه أمريكا بالإرهاب، وقدمتهم ليكونوا كبش فداء تتلقى الجفاء والسخط والعداوة بديلا عن الأمريكيين ويكونوا هم من يقدم التضحيات والخسائر خدمة للأجندة الأمريكية والإسرائيلية.
حيث يواصل المؤلف والمؤرخ اليمني محمد محسن الفرح في الجزء الثاني من كتابه “طبيعة الصراع مع أهل الكتاب” وتحديدا في محور مجال الصراع الثقافي والأخلاقي والسياسي، استرساله في رصد مسار الاستعدادات والإجراءات التي سبقت العمليات العسكرية التي أفضت إلى احتلال العراق قائلا: في 8/يوليو/2002م أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن أن واشنطن ترغب في تغيير النظام العراقي ، وستعمل بكافة الوسائل لقلب نظام صدام حسين.” مضيفا: ولتنفيذ مخططاتهم وتحقيق طموحاتهم عمل الأمريكيون على كل المستويات سياسيا وعسكريا واستخباراتيا وإعلاميا لدفع المجتمع الدولي إلى دعم حربهم المقبلة مع العراق التي تتهمه بأنه لم يلتزم بتعهداته تجاه الشرعية الدولية، فانتقل الاهتمام – بعد تبني [القرار 1441 الصادر في 8 شباط 2002م]- إلى أنشطة نظام الأمم المتحدة للتفتيش، وبدأت الإدارة الأمريكية تشكك في عمل فرق التفتيش وقدراتهم، ثم قررت الولايات المتحدة الأمريكية القيام بعمل انفرادي باستخدام القوة لاحتلال العراق بذريعة إزالة أسلحة الدمار الشامل دون تفويض من مجلس الأمن ولم تتوقف الإدارة الأمريكية عن اختلاق الذرائع والمبررات حيث “صرح جورج بوش أثناء ذلك أن المعلومات المتاحة لدى الأجهزة المختصة في الولايات المتحدة الأمريكية تبين أن أسلحة الدمار الشامل العراقية على اختلاف أنواعها جاهزة للتشغيل في ظرف 45 دقيقة، بأمر يصدر من صدام حسين الذي هو اخطر رجل في العالم لأنه يهدد الجميع، وبالتالي فإن مثول الخطر على هذا النحو يعطي للآخرين حق المبادرة دفاعا عن النفس بالردع قبل أن يداهمهم عدوهم.”
وفي 8/12/ 2002م سلم الجانب العراقي لمجلس الأمن الدولي وثائق هامة عن برامج التسلح مكونة من 12 ألف نسخة غير أن الأمريكيين عملوا على التغيير في مضامينها وحرفوا الكثير من المعطيات التي وردت بداخلها قبل ان تقدم إلى مجلس الأمن، وفي نفس اليوم كانوا قد بدأوا مناورة عسكرية مع قطر في خطوة تؤكد أنهم ماضون في تحقيق أهدافهم بغض النظر عما قدمه العراق وعن التزاماته الدولية.. وبالتزامن مع هذه الاستعدادات المتسارعة كان يجري إعداد قوات حلف الناتو والقواعد الأمريكية في الخليج استعدادا للحظة الحرب والغزو.
الحرب النفسية
وفي سياق الحرب النفسية، قال المؤرخ والباحث محمد محسن الفرح: عملت الإدارة الأمريكية على شن حرب إعلامية نفسية قبل الحرب العسكرية، حيث أظهرت تكنولوجيا متطورة بتغطيتها الإعلامية للحرب بصورة مكثفة وتدفق غير مسبق للأخبار والتقارير والصور.”.. مضيفا: وكان بارزاً في تلك المرحلة حالة التهديد بالحرب وممارسة الحرب الدعائية والنفسية ضد العراق، بهدف الوصول إلى النتائج المرجوة من دون الاضطرار إلى خوض حرب واسعة. فهي من جهة تضعف معنويات النظام العراقي وتضعه تحت التهديد المستمر والضغط الدائم وتجرده من قدرته على الحركة والمقاومة. وفي هذا السياق فقد ” بدأت الولايات المتحدة بالتحضير للحرب على العراق منذ ذلك الوقت بحملات دعائية واسعة وبجولات سياسية عسكرية، يساعدها في ذلك طوني بلير – رئيس وزراء بريطانيا، الذي تحول للعب دور المبعوث الخاص للرئيس بوش إلى روسيا والدول الأوروبية والعربية. وبدأت تقارير المعاهد الاستراتيجية عن العراق بتضخيم الخطر العراقي، واستخدمت الحكومة البريطانية تقارير منظمات حقوق الإنسان بشكل سياسي لخدمة الغرض الأميركي بتبرير استهداف العراق الآن. وأخذت الصحف الأميركية والبريطانية بالكلام عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وتحرير الشعب العراقي من الاضطهاد والتسلط الذي يعاني منهما. ووجدت هذه الحملة مادتها الدسمة في ممارسات النظام العراقي في بغداد منذ عام 1968, على الرغم من أن الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص قد دعما النظام ومدّاه بكافة الأسلحة والتكنولوجيا الضرورية لتطوير ترسانته خلال حربه مع إيران، كما أن الولايات المتحدة سكتت على قمعه لانتفاضة آذار عام 1991 في الجنوب والشمال وعلى هجومه على المناطق الكردية عام 1996.”
وواصل الفرح: قامت وسائل الإعلام بنشر صور الرئيس العراقي صدام حسين بجوار صور أسامة بن لادن، وحسب استطلاعات الرأي العام الأمريكي أن 66% من الشعب الأمريكي يؤيد العمل على إسقاط النظام العراقي، واستخدمت الحرب الإعلامية والنفسية على تحطيم الجيش العراقي، حيث ألقت نحو 43,8 مليون منشورة ما بين كانون الأول 2002 وبيان 2003 تطالب فيه الإدارة الأمريكية القوات المسلحة الأمريكية بالاستسلام.. بالإضافة إلى الترويج لعدد من الافتراضات لتبرير الحرب ومحاولة إقناع الرأي العام العالمي والكونغرس بها بأن هذه الحرب غير مكلفة عسكرياً وأن الشعب العراقي يحمل كرها شديدا لصدام حسين ولديه رغبة في التخلص منه، وان القوات الأمريكية سوف تستقبل في العراق كقوات محرره لا غازيه، وأنها ستكون حرباً سهله وسريعة ومضمونة وأن تكلفتها منخفضة، إذاً الحرب الإعلامية والنفسية هي سلاح استراتيجي يستخدم كتمهيد للعمليات العسكرية.”
مسار الحرب التصاعدي
في مطلع يناير 2003 أعلن بوش، في خطاب ألقاه بقاعدة “فورت هود” بولاية تكساس، وهي أهم القواعد العسكرية الأمريكية، أن بلاده جاهزة ومستعدة للتحرك عسكرياً “إذا رفض العراق نزع أسلحة الدمار الشامل التي يملكها.. مؤكدا أن بلاده “لا تريد غزو العراق وإنما تحرير الشعب العراقي”.. وكعادتها الاستعمارية لا تدخل الحروب بمفردها فقد شكلت إلى جوارها تحالفاً دولياً كبيراً على قاعدة تقاسم الثروات، وفعلا انضمت إلى أمريكا وبريطانيا نحو عشرين دولة إضافة – إلى قوى المعارضة العراقية، كقوات البيشمركة التابعة للحزبين الرئيسيين في كردستان بزعامة جلال طالباني ومسعود البارزاني.
وفي 4/ 3/ 2003م، ألقى توني بلير – رئيس وزراء بريطانيا سابقاً – وعرّاب الصهيونية العالمية، خطابا أمام قيادة الناتو، وذلك قبل أيام من غزو العراق، قال فيه: «حلف شمال الأطلسي لم يوجد لحماية حدود الدول المنضوية تحت لوائه فقط، الناتو إنتاج فكرة عظيمة خرجت بعد تجارب ماضية حزينة ومريرة، الناتو وجد لحماية وتأمين النظام العالمي الجديد».
وفي عشية التاسع عشر من مارس من العام 2003م، وتحت شعار “الحرية من أجل العراق”، بدأ التحالف الأمريكي البريطاني وأدواته في العراق، معارك غزو العراق، على خلفية مزاعم “التهديد الخطير” الذي يمثله البلد على العالم، إذ أشاعت دول الغرب برئاسة واشنطن ولندن امتلاك بغداد لأسلحة دمار شامل، مؤكدة أن حلفاءها في الخليج هم الهدف الأول لهذا الخطر، وأن من واجبها ردع الخطر والوصول الى أسلحة الدمار الشامل وتدميرها حفاظاً على حلفائها، ومساعدة الشعب العراقي للتخلص من حكم النظام الصدامي الدكتاتوري.
استمرت معارك الغزو الضارية حتى احتلال بغداد 19 يوماً، واجهت فيها القوات الغازية مقاومة من الجيش العراقي الذي كان يقاتل دون غطاء جوي، لكن تلك القوات ألحقت بالغزاة خسائر فادحة في الأرواح حيث خسرت أمريكا 4500 جندي لقوا مصرعهم على أرض العراق وأصيب نحو 30 ألفاً آخرين، و179 جندياً بريطانياً والممتلكات..
وقدر عدد الشهداء العراقيين الذين سقطوا على مدى خمس سنوات من بدء الحرب نحو مليون شهيد وجريح جلهم من المدنيين، منهم 655 شخص استشهدوا في المواجهات أو تحت القصف الأمريكي،.. في حين اعترف الجيش الأمريكي بمقتل نحو 77 ألف عراقي بين يناير 2004 وأغسطس 2008، بينهم نحو 63 ألف مدني، والباقون من العسكريين.
يتبع في الحلقة القادمة، سرد حول الجرائم الجسام وتفعيل التيارات الإرهابية التي صنعتها أمريكا لخلق ذريعة بقائها في العراق.