يبدو لنا من خلال السياق التاريخي لليمن، أن العقدة ” اليزنية ” كانت سببا في تنافر النسيج الوطني وعدم انسجامه في مسارات وسياقات التاريخ ونكاد نقرأ تلك العقدة في تحركات وأنشطة القوى السياسية التي صنعت واقعا مأزوما وصل إلى نفق مظلم يتعذر علينا الخروج منه إلا بمصابيح الآخر وقناديله.
إن قضيتنا ليست قضية استبدال حالة بحالة مماثلة لها ولكنها قضية انتقال ذلك أن الاستبدال يتطلب سقوط القائم وإقامة الآخر بدلا عنه، أما الانتقال فهو عملية توافقية لا تتسم بالثبات بل بالحركة تحاول أن تلبي طموحات السواد الأعظم من الجماهير بمختلف الطوائف والمذاهب والمشارب التي تنتمي إليها وهو – أي الانتقال – بمثابة صعود تراتبي من مرتبة إلى أخرى تكون أفضل منها وأكثر استيعابا لمتطلبات المرحلة, ويبدو أن بعض القوى الوطنية التقليدية تعمل جاهدة على حالة الاستبدال الذي هو هدم القائم والوقوف عند ذات المرتبة والقيمة, نستبين ذلك من خلال حالة الصراع الذي تشهده الساحة الوطنية وهو صراع يمتد في العمق التاريخي وله عوامله النفسية والاجتماعية والسياسية، وهدفه تشتيت القوة وإضعافها وخلق حالة واقعية من حالات الاستغراق في سياسة الأزمات ومبررات الصراع بين الأصوليات العقائدية.
يقول جارودي: “إن الأصوليات كل الأصوليات أكانت تقنوقراطية أم ستالينية مسيحية يهودية أم إسلامية تشكل اليوم الخطر الأكبر على المستقبل، فانتصاراتها في عصر لم يعد لنا فيه الخيار إلا بين” الدمار المتبادل والمضمون “والحوار يمكنها أن تحبس كل المجتمعات في مذاهب متعصبة منغلقة على نفسها وبالتالي متجهة نحو المصادمة”.
ويقول البردوني:
“إن الأزمات في بلادنا بلغت حد التأله لانعدام المحاولات أمامها, وقدرتها على الاتساع والامتداد في فراغ من الإنسان وفكر الإنسان.
ويقول في مكان آخر:
عظماء الرجال يبذلون التضحية لوجه التضحية لا لوجه الوصولية وشراء الهتافات الجماهيرية، والأنبياء عليهم السلام لاقوا أشد مالاقوا على أيدي الجماهير المغرر بها لكنهم كانوا يجهدون في خدمة هذه الجماهير ولو كابدوا عقوقها لأنها لم تكن تدري من يقودها إلى الهدى أو من يوجهها إلى الضلال.. لكن الجماهير تعرف بعد وقت طويل أو قصير من يستهدف نفعها ومن يبتغي نفع نفسه من توجيهها والتغرير بها.
ويقول البردوني أيضا:
” الشعب لم يعد ذلك القطيع الوديع بعد أن عرف أنه سيد الأرض ومصدر السلطة بل إن كل سلطة مدينة بوجودها للمواطن الذي أنكر سلطة سيئة وبحث عن سلطة أفضل لأن كل زعامة سياسية أو قيادة عسكرية لا بد أن تكون وليدة ظروف لكن هذه الظروف من خلق المواطنين العاديين لكثرتهم وحرارة تجاربهم مع محترفي السياسة
ومن هنا يتجلى الفرق العملي بين من يصنعون الفرص وبين من يستغلونها وبين من يفجرون الأحداث ومن يصعدون على دخانها، فالذين ترفعهم أحداث تسقطهم أحداث والذين تخلقهم فرص تعدمهم فرص أخرى والوسيلة الوحيدة في بقاء أي زعامة هو النزول عند رأي الشعب مفجر الأحداث وصانع الفرص.”
تلك الومضات للجارودي والبردوني جاءت من ثمار المراس وطول التأمل، فحالة التبدل والانتقال والتغاير تفرض صيغة جديدة تتوافق معها, فالوصول إلى السلام طريقة تبدأ من مدخلاته الأساسية وهي الحوار والوصول إلى الحوار لا يبدأ إلا من مدخلاته الأساسية وهي التعايش والقبول بالآخر واحترام خياراته وقناعاته ولا سبيل إلى الاستقرار إلا بصياغة عقد اجتماعي قائم على التوافق وتكفل مضامينه حق المواطنة والمشاركة وصناعة المستقبل وتضع الأسس والضوابط التي تمكن المجتمع من الانتقال والنهوض وتحد من مناخات الفساد وبيئاته وبحيث يكون تعبيرا عن ذات حضارية تتجذر في عمق التاريخ لا تعبيرا شكليا وافدا من خارج ذلك النسق الثقافي لهذا المجتمع, وفي ظني أن الاستغراق في الآخر والوثوق به إلى درجة اليقين المطلق دوران في متاهات العقدة “اليزنية ” والعقدة اليزنية تيه لن يفضي إلا إلى فراغ .
فالذين يبحثون عن الاستبدال من خلال التذكير بالقوة والوجود والفاعلية وبإمكانية الثأر والانتقام , ومن خلال إضعاف منظومة الحزام الأمني وتبديد القوة في جبهات قتالية شتى إنما يحاولون العبث بعينه, ولا يحملون مشروعا نهضويا، وغايتهم السلطة والثروة وقد نالوا منها في زمن العدوان مالم ينله غيرهم في زمن الاستقرار .
الانتقال من الصراع إلى الاستقرار والبناء قضية وطنية صرفة وهي توافقية لن تأتي من الخارج ولكنها وليدة الحالة الوطنية وتجلياتها، ولا معنى للعمالة فيها لكون العمالة متاه يزني لابد لنا أن نجتاز عقباته النفسية والثقافية والسياسية وهي عقبات كأداء .
اليمن ينتظر منا أن نصنع ألقا حضاريا لا نكوصا واجترارا لعثرات التاريخ المختلفة والمتعددة سواء في ماضيه أو حاضره.