لأكثر من خمسين عاماً، تاجَرت بعض حركات الإسلام السياسي بالقضية الفلسطينية متّخذةً منها مصدراً للتكسُّب المادي وجلْب تعاطُف وولاء كثير من المغرّر بهم، أقامت هذه الحركات المهرجانات والخُطب في المساجد والجامعات والساحات العامة والتي عادةُ ما كانت تنتهي بجمع التبرعات باسم أبناء فلسطين المحتلة وتحرير الأقصى بعد أن تُنجح في تهييج مشاعر الحضور بالأناشيد الحماسية والجمل الرنّانة، مُستغلةً استحواذ هذه القضية على مساحة واسعة في قلب ووجدان اليمنيين من شمال البلاد إلى جنوبها, ومن شرقها لغربها على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم.
لذلك لم يتوانَ الكثير من الرجال والنساء عن تقديم كل ما جادَت به أنفسهم من تبرعات مادية وعينية لصالح القضية الفلسطينية ولحركات مقاومة الاحتلال الصهيوني على أرض فلسطين, إيماناً منهم أنها الأرض المُباركة التي أسرى منها نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم, وأنها مهبط الوحي وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، غير أن ذلك وللأسف كان مدخلاً استفاد منه البعض ممن تاجروا بقضايا الأمة مستغلين ذلك التعاطف, لنتفاجأ بعد وقت طويل أن أولئك الذين وزعوا صناديق التبرعات والحصالات في كل مطعم ومول ومسجد، وحصدوا أموالاً طائلة باسم هذه القضية هم اليوم من تنصّلوا وسدوا آذانهم أمام موجة التطبيع التي أجتاحت بعض الأنظمة المحسوبة على أنها عربية ومسلمة، وهم الذين بَلعوا ألسنتهم ولم ينبسوا ببنت شفة عندما بدأت ترتيبات مشروع صفقة القرن، وهم الذين يتلقّون تمويلهم ومرتباتهم من المطبعين الجدد, ويتواجدون في نفس خندقهم, مؤكدين للعالم أن تلك الشعارات التي أصموا بها آذاننا لعقود ما هي إلا بضاعة مُزجاة لم يستفِد منها الشعب الفلسطيني أو فصائل المقاومة الفلسطينية قيد أنملة.
رُغم ذلك فتلك الحركات في نهاية المطاف لا تمثل إلا نفسها, لتَبقى القُدس هي القضية المركزية وهي الهاجس لكل يمني وعربي مسلم شريف مهما حاولت تلك الحركات الوصولية اليوم أن تتماهى مع التوجهات الجديدة التي تحاول مسخ الهوية العربية المسلمة المتمسِّكة بقضايا الأمة، ومهما قست علينا الظروف كيمنيين من عدوان آثم قد يتجاوز العدوان الصهيوني تجاه الشعب الفلسطيني، لكن تظل القدس هي قضيتنا الأولى التي لا يمكن أن نتنازل عنها ما حيينا أو تعرضنا لعدوان من صهاينة الأعراب، إيماناً منا أن العدو الذي يحتل أرض فلسطين ويشرد أهلها هو ذاته العدو الذي يعتدي على اليمن ويشرد شعبه، والاختلاف هنا ليس إلا في اللباس والزنّار والعقال، والدور الذي يقدم نفسه للعالم، فكلاهما أتى بواسطة المُستعمر البريطاني وفي نفس الظروف والحقبة تجمعهما أهداف متشابهة, وكلاهما يحتل أرضاً ليست بملكه ويحكم شعباً غير شعبه وكلاهما حتماً إلى زوال.
في عام 1952م عرض الكيان الصهيوني على العالم اليهودي ألبرت اينشتاين منصب رئاسة الكيان، فكان رده صادماً أنه غير مستعد لذلك, وانتقد ما فعلته الحركة الصهيونية بالعرب بالقول “ما يسبب لي حزناً عميقاً أن أرى الصهيونية تفعل بالعرب الفلسطينيين أكثر مما فعلته النازية باليهود”، وبينما كان زعماء الكيان الصهيوني يعملون لتأسيس إسرائيل، علّق على الموضوع بالقول: “إن إدراكي للطبيعة الجوهرية لليهود، يقاوم فكرة دولة يهودية ذات حدود وجيش وقدر من السلطة”, وأكد عام 1946م أن “فكرة دولة إسرائيل لا تتوافق مع رغبات قلبي. إنني لا أفهم لماذا نحن بحاجة إلى دولة كهذه”. كما رفض فكرة تأسيس وطن قومي لليهود، فالدولة القومية بحسبه هي فكرة رديئة، “وقد عارضتُها على الدوام. إننا نقلّد أوروبا, والذي دمَّر أوروبا في النهاية هو القومية”. انتهى تعليق أينشتاين
فهل يدّعي المهرولون للتطبيع مع الكيان الصهيوني أنهم أذكى من العبقري انشتاين صاحب النظرية النسبية؟!!
لذا نقول للمطبعين القدامى والجدد أنكم لن تنالوا رضى اليهود مهما فعلتُم ومهما بالغتُم في تقديم التنازلات, لأن هذه المسألة قد حُسمت من سبع سماوات مصداقاً لقوله تعالى ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ )صدق الله العظيم، وخروجنا إلى السّاحات في يوم القدس العالمي لم يكن إلا تأكيداً ورسالة واضحة المعالم أن القدس لا زالت وستظل هي قضيتنا الأولى مهما قست بنا الظروف وتعدّدت المشاريع، ومهما طبّع المطبعون فلن نتنازل عن دعمنا المستمر لها حتى تعود أرض الجبّارين بكامل ترابها إلى الشعب الفلسطيني ويُطرد الكيان الغاصب من آخر شبر فيها رغم أنف المُطبِّعين.
Prev Post
Next Post