في ذكرى استشهاده.. الموكب الأخير!

د. أشرف الكبسي

 

 

ظهيرة يوم الخميس، التاسع عشر من أبريل 2018م تعامدت الشمس على صفحة البحر، وركضت الأمواج صوب الشاطئ، حيث وقف الصياد العجوز «أيوب»، بوجهه النحيل الأسمر، وقد غطت رأسه الأشيب قبعة مستديرة من القش، فبدا أشبه بفزاعة سفن معادية!
تقول الأسطورة، إن مدينة الحديدة، سميت هكذا منذ القرن الخامس عشر، نسبة لامرأة تهامية اسمها حديدة- بفتح الحاء وكسر الدال- كانت تمتلك مطعما صغيرا في منطقة الكورنيش.. حينها هاجم العثمانيون المدينة، فاختفت السيدة وتحولت إلى حورية، وبعد طرد الغزاة، صارت مدينة الحديدة «عروسة» بحر!
انحنى العجوز برفقِ، وتذوق ماء البحر، كان أكثر ملوحة من المعتاد، ومن مثله يجيد قراءة الأقدار، وهو صاحب نظرية الملح!
– هل كان ماء البحر مالحا على الدوام يا جدي؟! ّ سأله حفيده «حسن» قبل سنوات..
– لا يا صغيري.. في ما مضى كان البحر أكثر فرحا من عينيك، وأكثرعذوبة من بحيرة «البايكال»، لكن عندما قررت الخطيئة أن تغتسل في مائه، أفسدت مذاقه بكأس من خيانة الرجال!
نهض العجوز ونظر بعينين غائرتين نحو الأفق: اللهم اجعله خيراً!
على بعد كيلومترات، وتحديدا في ساحة جامعة الحديدة- كان «الرئيس» بقامته الطويلة، وجسده الممتلئ، وبساطته الثورية المعهودة، يصافح أعيان ووجهاء المحافظة، مودعا لهم، بعد اجتماع تحدث فيه عن ضرورات الصمود والتضحية والفداء، حتى تحقيق النصر على الأعداء..
قبل أن ينطلق الموكب الرئاسي المتواضع، اقترب «القوزي» نائب المحافظ، من أحد مرافقي الرئيس، وبينما كان يدس في جيب المرافق الشاب رقاقة الكترونية صغيرة لتحديد الإحداثيات والمواقع، وضع يده الأخرى على كتفه قائلا بدفء: في رعاية الله.. كونوا على حذر، الله الله في الرئيس!
قد تكون الخيانة دافئة، وأيضا تجيد إسداء النصائح!
منذ أكثر من ألفي عام، كان يوليوس القيصر، يسدي كل معروف لبروتوس.. قرَّبه منه ومنحه كل ثقته، حتى ظن الناس أنه ابنه، لكن هذا الأخير طعنه في ظهره وقلبه.. التفت إليه يوليوس، وقال- وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة- عبارته الشهيرة: حتى أنت يا بروتوس!
حتى أنت يا «قوزي»!
شق الموكب طريقه بسرعة على الأسفلت الملتهب لشوارع المدينة التي لم تعرف الشتاء، ولم تعد تعرف السلام منذ شن التحالف الحرب في السادس والعشرين من مارس 2015م..
كان الرئيس- المطلوب حيا أو ميتا لقوات «التحالف»، لقاء جائزة معلنة 20 مليون دولار أمريكي- راكبا في السيارة الثانية، عندما تعالت أصوات قلقة قادمة من غرفة العمليات عبر جهاز اللاسلكي: تم رصد تهديد.. الطائرات المعادية تحلق فوقكم مباشرة.. الموكب مستهدف!
أخذ الصياد العجوز رشفة أخرى من مياه البحر، وكانت ملوحته هذه المرة غير مسبوقة.. حتى أنها تفوق بمرات ملوحة البحر الميت! هل تموت البحار يا جدي؟!
تم تعديل وتبديل المسار، أكثر من مرة، دونما جدوى.. الرقاقة الالكترونية، كنائب المحافظ، تجيد الوشاية، ولا تكترث لمذاقات البحر!
وصلت السيارات المسرعة والمرتبكة، إلى شارع الخمسين، قال الرئيس لرفاقه، كلمات كأنها من سفر التضحية: ابتعدوا بالموكب عن المناطق المزدحمة بالسكان!
على مساحة وجودية حادة كشفرة، يقرر الشجعان مصائرهم، وعندها فقط.. يهزمون الموت!
ثلاث غارات مدوية، جعلت سربا من طيور النورس، يتجه مباشرة للاحتماء بالعجوز.. كان للأدخنة المتصاعدة في السماء ملامح بروتوس والقوزي والغشمي!
بعد أيام.. مات أيوب، واقفا كعادته، على الساحل كفزاعة سفن معادية، وأعلنت السعودية مسؤوليتها عن استهداف الموكب ومقتل الرئيس «المتمرد»، ورفاقه الستة!
يعلم البحر والعجوز وحفيده حسن أن السعودية- بمساندة بريطانية- احتلت الحديدة لفترة وجيزة في العام 1934م، ولولا رجال- يهزمون الموت، كالرئيس” صالح الصماد” ورفاقه، لكانت اليوم تحتلها ثانية.. وهذه المرة، لفترة مالحة طويلة!
اليوم.. أصبح حسن شابا يافعا، يناوب في حراسة ضريح الشهيد الرئيس ورفاقه بميدان السبعين في صنعاء..
هل تموت البحار يا جدّي؟!

قد يعجبك ايضا