الثقافة الإيرانية كما يعتقد الجميع تعتبر من أقدم الثقافات طيلة التاريخ البشري ومن أدومها وأكثرها تأثيرا إيجابيا على الإنسان، و يعدّ الإيرانيون من أكثر شعوب العالم انتباها والتزاما بالطقوس و العادات و التقاليد الثقافية العريقة. عراقة الثقافة الإيرانية من جهة و غناها و جمالها الذي تستمدّها من تعاليم الإسلام من جهة أخرى جعلتها تراثا عظيما لا مثيل لها تفتخر بها إيران ويفتخر به الشعب الإيراني.
إيران أرض كبيرة تتميز بالتنوع القومي المدهش في أرجائها وهذه تجعلها تنفرد في تنوع العادات والتقاليد المتبقية لديها منذ قرون حتى الآن لا سيما المختصة منها بحلول شهر رمضان المبارك؛ العديد من هذه العادات والاحتفالات تختص بمناطق خاصة ولكنّها وبسبب جمالها وجذورها الدينية الرائعة تمكّنت من أن تتعدّى حدود مناطقها وتحوّلت إلى عادات جميلة تقام في أنحاء إيران منذ قبيل الشهر العظيم للترحيب بقدومه إلى وداعه وإقامة عيد الفطر السعيد.
قبيل حلول شهر رمضان الكريم نرى الإيرانيين يبدأون بتنظيف بيوتهم وإزالة الأوساخ منها كأنّهم يعتقدون بأنّ هذا العمل يعتبر الخطوة الأولى استقبال الشهر العظيم و يساعدهم في القيام بواجباتهم الدينية خلال الشهر وبفراغ الصبر، وأمّا النظافة فلا تقتصر على البيوت فقط بل هم من الصغار والكبار أو من الرجال والنساء يتطوعون بكلّ سرور لتنظيف المساجد والأماكن العامة التي ستقام فيها مراسيم رمضانية طوال الشهر فخورين به ويحمدون الله تعالى بأن منحهم فرصة المشاركة في ضيافة صيامه ليزيل عن قلوبهم أوساخ الذنوب وغبار السيئات .
تحضير احتياجات البيت
كان الإيرانيون منذ قديم الزمان حتى الآن يستقبلون شهر رمضان شهر الرحمة و الغفران وذلك عبر طرق خاصة مثلما كانوا يقومون بأعمال تجعلهم على أتم الاستعداد لكي يحرّروا أذهانهم من أعمال الروتين و يشتغلون بالأعمال الدينية ويستفيدون كلّ الاستفادة من الأجواء الروحانية الخاصة بالشهر الفضيل و ذلك بفارغ الصبر و يتمكّنون من أن يحضروا مراسيم الصلاة و العبادات و اجتماعات الألفة بالقرآن التي تقام عادة في أنحاء المدن لا سيما المساجد؛ على سبيل المثال كانوا ولا يزالون يحرصون على إعداد ما يحتاجون إليه طوال الشهر من اللحوم و الخبز و الأرز و غيرها؛ على سبيل المثال في بعض المدن الإيرانية كانت العائلات يطبخن نوعا رقيقا من الخبز في مقادير كثيرة ثم يحتفظن بها في أوعية أسطوانية الشكل ذات غطاء و مصنوعة من أغصان أشجار الصفصاف أو أشجار الجوز البري ليتمكّنوا من أكلها طازجة طيلة الشهر بالإضافة إلى تحضير نشأ الأرز بسبب كونها مقوّيا جدّا أو مقادير كبيرة من اللحوم المقطوعة إلى قطع صغيرة و تعليقها من السقف في الأماكن الباردة.
مراسيم دينية وأنشطة اجتماعية
تزامنا مع بداية شهر رمضان المبارك تعيش إيران والمدن الإيرانية كلّها أجواء منفردة تزيد من روحانية الشهر العظيم وهذا بسبب إقامة العديد من المراسيم التي تجمع بين طعم الديني الروحاني اللطيف ورائحة الأعمال الجماعية المفعمة بالخير والبركة.
منذ بداية الشهر المبارك وفي أي مدينة إيرانية لا يمكنكم إيجاد حيّ أو منطقة أو مسجد يخلو من مجالس الألفة مع القرآن الكريم للرجال وللنساء ويتم فيها تلاوة آيات القرآن بدءا من الجزء الأول إلى الجزء الثلاثين ويزداد ذلك كلما نقترب من ليلة القدر والإيرانيون يقومون بإحياء هذه الليالي الثلاث والمساجد بحيث أنّ المساجد و الحسينيات ولا سيما العتبات المقدسة منها حرم الإمام الرضا ، حيث تكتظ بالصائمين الذين يستيقظون حتى الفجر آملين نيل على بركات الليالي العظيمة والحصول على العفو و المغفرة الإلهية.
فعاليات الصائمين الإيرانيين لا تقتصر على الأعمال الدينية فقط بل تشتمل على الأنشطة الاجتماعية و الثقافية التي تتجلى عادة بصورة المعارض و المهرجانات التي يتم عقدها بهدف مساعدة الفقراء والأيتام و تقديم المساعدة من أجل إطلاق سراح المسجونين بسبب ارتكاب الجرائم غير المتعمدة و هم لا يقدرون على دفع مبالغ العقوبات مثل الدية أو المبالغ المترتبة على القتل بسبب حوادث السيارات غير المتعمدة و ذلك عبر التبرعات المالية أو إقامة الأسواق الخيرية العائدة أرباحها لدعم الطبقة المحتاجة و هذه تعتبر من أهم البرامج الخيرية التي يقوم بتنفيذها المحسنون في إيران، منهم المجموعات الخيرية أو الجهات المانحة خلال شهر رمضان الكريم.
مائدة الإيرانيين في رمضان
المائدة الملونة و المزينة بالأطباق المتنوعة و في الوقت نفسه المطابقة جدّا للتعاليم الدينية المختصة بصحة الجسم، تعتبر من أحلى الميزات التي يتميز بها شهر الصيام في إيران؛ فالإيرانيون يتمتعون بأسلوب حسن يختص بالإفطار ويتكون من مائدتين في شهر رمضان؛ المائدة الأولى تكون عند أذان المغرب و تتزين بالمأكولات الخفيفة التي تلائم معدة الصائم للهضم مثلما تعيد إليه قوّته و نشاطه الضروري، بحيث أنّ الصائم يقوم بكسر صيامه مع كأس من الماء الساخن أو اللبن الساخن و ترافقه الحلويات لا سيما التمر أو “زولبيا” و”بامية” كنوع خاص من الحلوى الإيرانية التي لا تخلو منها المائدة الإيرانية الرمضانية؛ وإلى جانبها يوجد طبق من الخضروات الطازجة و الخبز مع قطعة من الجبنة والجوز وإناء من الأطباق المغذية للغاية .
ماء ساخن
غالباً ما يفتتح الإيرانيون المائدة بكأس من الماء الساخن، وتقول ناصري: «هي عادة نقوم بها، ومتداولة في ما بيننا، اعتقادا بأنها تعين على إراحة المعدة من الوجبات الثقيلة عادة، وتليينها للمساعدة على الهضم، بالإضافة إلى تناول طبق الحلوى الشهير وهو زولبيا بامية، وهي حلوى غالبا ما تباع في محال الحلويات ولا يتم إعدادها منزليا، وشوربة الخضروات والعدس الأخضر المعروفة باسم «آش»، وهي الأطباق التي غالباً ما يبدأ بها الإفطار».
و أمّا المائدة الثانية التي تعدّ الرئيسية ويتم افتراشها بعد ساعتين تقريبا من أذان المغرب مشتملة على الأطعمة الإيرانية التي يعدّ الأرز من أهمّها مع مختلف أنواع المرق إلى جانب المأكولات الجانبية أي السلطة و الزبادي والخضروات و ذلك نظرا إلى أن المطبخ الإيراني يعتبر من أفضل مطابخ العالم.
يسمع الأطفال الإيرانيون صوت إقدام رمضان و هم يتحمّسون و يبتهجون و يتكلمون بحماس عن رغبتهم في الصوم و يبذلون قصارى جهدهم لكي يثبتوا أنّهم أقوياء و يمكنهم الصيام و يحاولون أن يقلّدوا كبارهم؛ هذا من جهة ومن الجهة الأخرى تحرص العائلات الإيرانية على تربية أولادهم حرصا لا مثيل له لا سيما التربية الدينية و يحاولون تدريبهم على إنجاز الفرائض الدينية قبل أن يبلغوا سن التكليف الشرعي على الأخص الصيام لكي يتعودوا عليه لأنّهم يتعرّفون على آثاره الفريدة على نفوس أبنائهم؛ آثار تتجلّى في حياتهم دون شك، كما يزداد عندهم الصبر و الطاقة و قدرة التغلب على المشاكل؛ إذن صيام رأس العصفورة طريقة إبداعية لطيفة تتخذها العوائل لكي يعوّدوا أولادهم على الصوم ببطء و ذلك يعني أنهم يستيقظون قبل الفجر برفقة العائلة و يأكلون السحور و يصومون على حسب مقدرتهم إلى أذان الظهر عادة.