-1-
مقارنة بعمر الحركة التشكيلية اليمنية الصغير نسبياً- والذي يتجاوز الثلاثين عاماً بقليل- نجد أنها قد حققت الكثير سواء من حيث كم الأسماء والتجارب الإبداعية وكذلك الأجيال المتعددة التي يمكن عَدّ سبعينيات القرن العشرين بدايتها الحقيقية على أيدي الرواد مثل الفنان هاشم علي والفنان عبد الجبار نعمان.. من ناحية أخرى- وهي واحدة من ميزات الحركة التشكيلية اليمنية- اختلاف وتنوع المدارس والتيارات الفنية التي ظهرت في كثير من التجارب التشكيلية.. ابتداءً من الواقعية مروراً بالتعبيرية والتجريدية والتكعيبية والسريالية…إلخ.
د. آمنة النصيري.. أبرز الأسماء النقدية في راهن الحركة التشكيلية- إضافة لكونها فنانة تشكيلية- وأكثر من رصد واقع، مختلف تلك التجارب الإبداعية.. وضمنت غالبية تلك التناولات والدراسات والأبحاث في كتاب صدر لها عام 2004م عن وزارة الثقافة والسياحة/ صنعاء.. والموسوم بـ: “مقامات اللون.. مقالات ورؤى في الفن البصري” تضعنا في قلب الهدف في إطار حديثها عن طبيعة التجربة التشكيلية اليمنية.. وذلك من خلال تحليلها العميق الذي تقول فيه: إن التطورات التي مرت بها الحركة التشكيلية اليمنية.. خلال مدى زمني قصير، لم تحدث بمعزل عمّا يدور في حركة الفن التشكيلي العالمي، بل إن نشوء الفن التشكيلي في اليمن قد اعتمد على مناهج ومذاهب فنية أوروبية.. كما هو حال معظم أقطار العالم العربي.. التي اضطرت لأن تنقل أساليب التعليم الأكاديمية.. وأسس ونظريات مختلف المدارس الفنية، وذلك عن طريق فنانيها الذين تعلموا في دول أوروبية.. ثم عادوا لممارسة الرسم والتصوير في بلدانهم.
-2-
المكان على اختلافه وتنوعه هو أكثر المفردات البيئية حضوراً في الأعمال التشكيلية.. ولعل الإرث المعماري بأنماطه المتعددة هو الأكثر استلهاماً.. سواء الطينية منها أو الحجرية.. من خلال موتيفات الشكل.. النقوش.. الألوان.. الزخارف والنقوش.. إضافة إلى الاكسسوارات الملحقة بها مثل الشبابيك والأبواب الخشبية. هذا كله يأتي مرتكزاً على خصائص العمارة التاريخية في مدن مثل: صنعاء القديمة.. حضرموت.. يافع.. الهجرة.. الطويلة.. زبيد.. تهامة…إلخ.
يضاف إلى مناظر المدن والقرى مناظر أخرى سجلها التشكيلي اليمني في لوحته والتي تحتوي تفاصيل معينة لها دلالاتها البيئية مثل: الأسواق.. الموانئ.. الغابات والسهول.. سواء تواجد الإنسان فيها- اللوحة- أو كان مغيباً عنها.. لكن وبلا شك كانت أعمق الأعمال من حيث الدلالة والرمز والتعبير هي تلك المشاهد التي حرص التشكيلي على التقاطها أثناء ذروتها الأدائية، إذ لا معنى لمشهد يصور سوقاً من الأسواق- مهما كانت تفاصيله غريبة أو استثنائية- وليس ثمة حضور للإنسان، لأنه هو من يمنح المكان قيمته.. فلولاه لما وجد سوق ولما كان، ولعل أكثر الأعمال حميمية في هذا الموضوع هي لوحات الرائد/ هاشم علي والذي اعتمد في لوحاته التي التقطت الأسواق وناسها على اللغة اللونية.
-3-
وهذا الفضاء ينقلنا إلى ملمح آخر هو الإنسان اليمني في الأعمال التشكيلية.. هذه المرة في فن “البورتريه”.. حيث يلاحظ المتأمل للوحات “الصور الشخصية” ثراءها الهائل من حيث الأسلوب الفني من جهة ومن جهة نوع التفاصيل التي استهوت الفنان فقام بتصويرها.. وفي هذا المقام لا يُذكر اسم مثلما يذكر اسم الفنان طلال النجار الذي تحتوي تجربته الإبداعية في حيز كبير منها على أعمال البورتريه.. والتي تنقسم لونياً إلى جزئين.. الأول: البورتريهات المرسومة بالأبيض والأسود.. والثاني: البورتريهات الملونة.. وفي كلا النوعين.. نجد طلال النجار منجذباً بشكل حميمي ودقيق إلى تصوير أصغر التفاصيل مهما كانت عادية أو هامشية.. مثل نمط الأزياء وهي في غالبيتها شعبية.. الاكسسوارات المكملة.. طريقة ارتدائها.. ينضاف لهذا كله اهتمام النجار بتجسيد الحالة النفسية للشخصية المصورة وذلك عبر تصوير أدق دقائق ملامح الوجه أو شكل الجسد.. سواء في حالة الوقوف أو السير…إلخ
ولا ننسى هنا بورتريهات الراحل/ عبد اللطيف الربيع الذي أمتلك طابعاً خاصاً في معظم بورتريهاته.. حيث (تبدو العجينة اللونية واحدة.. حتى التدرجات اللونية الفاتحة والمتقاربة فإنها تتكرر فيها جميعاً).
وتتعمق الناقدة الفنانة د. آمنة النصيري في تشخيصها لتجربة الربيع، حيث ترى أنه يقترب كثيراً من أسلوب المونوكروم الذي يأتي اعتماده الأساسي (على درجات عديدة للون الواحد، حيث يلاحظ ميل الفنان إلى إخفاء الألوان المتفرعة من الأحمر والبني والأبيض).
-4-
وللتاريخ نصيبه في التجربة التشكيلية اليمنية، وذلك من خلال استلهام الفنانين لكثير من الرموز مثل حروف الكتابة القديمة والمعروفة بالمسند الحميري، إضافة إلى رموز أخرى مثل الحيوانات- الوعل خاصة- أو الفلكية مثل الشمس والقمر.. ويحضر هنا اسم وتجربة الفنانة الدكتورة آمنة النصيري التي حرصت في مجموعتها “كائنات” على تضمين الكثير من تلك الرموز في أعمالها التشكيلية والتي جاءت معظمها- لحدٍ ما- مقاربة لأسلوب التصوير الإسلامي من حيث كم التفاصيل المصورة واحتشاد فضاء اللوحة بها في تنوع لوني وخطي فني عالي الأداء.. يعمل من جهة على دمج المتلقي في المشهد المصور.. ومن جهة أخرى على حفظ توازن المساحات بين التفاصيل بما يحميها من الازدحام أو الايحاء بالازدحام عند المتلقي.
أما الفنان مظهر نزار فتزخر تجربته باستخدام موتيفات محددة مثل: الهلال والقرص الأحمر بداخله- في إحدى لوحاته- إضافة إلى رمز تاريخي فهم في الحضارة اليمنية القديمة وهو طائر الهدهد.. (الذي لا يبدو كاستعارة جمالية فحسب بل وكإشارة رمزية ذات دلالات متنوعة) حسب د. آمنة.