ونَحْنُ بالأشواق إليك يا رسول الله
عبدالرحمن عبدالله الأهنومي
رئيس التحرير
الطوفان البشري الذي غصّ به ميدان السبعين والشوارع المؤدية إليه في العاصمة صنعاء – علاوة على الحشود الغفيرة التي احتشدت في 15 ساحة في عموم المحافظات واكتظت بالرجال والنساء – يعد مظهرا مشرفا ولائقا بالمناسبة العظيمة التي احتفل بها اليمنيون هذا العام بشكل متميز وغير مسبوق، وعبروا فيها عن الفرح والابتهاج الكبيرين تجسيدا لأمر الله «قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون»َ، واستجابة لتوجيهات القائد يحفظه الله في أن تكون هذه المناسبة غير مسبوقة ولا نظير لها في كل مناسبات الدنيا.
لقد اخضرت قلوبنا وأرضنا، والسماء تلألأت يا سيدي يا رسول الله، والبيوت والمآذن والمساجد بالصلوات تعطرت وتزينت المدن والقرى والسهول والوديان، ورفرفت الرايات في كل ساحة وميدان، وتهللت الوجوه بالبشرى العظيمة، لقد أخصب اليمنيون فيك حبا وولاء وهاموا عشقا ووفاء…فيم أجدب الآخرون وتمذهبوا صهينة وأمركة وسعودة ويهودة، ذهبوا جميعا وأشتاتا نحو الضياع والخذلان، لكن اليمانيين خرجوا بهذا المشهد الذي يرضي الله رب العزة والجلال، ويبهج الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، ويزكي النفوس ويطيب خواطر المؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم.
وبالفعل لم يخيب الشعب اليماني أمل السيد القائد في تفاعله وحضوره التاريخي، وهو كذلك لم يفوت هذه المناسبة دون تجديد الولاء والعهد الأبدي لرسول الله صلوات الله عليه وعلى آله وسلم، ولقد كان الاحتفاء بمناسبة المولد النبوي هذا العام غير مسبوق منذ عرفنا السبعين ومنذ عهدنا الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، ومنذ عرفنا أنفسنا، وحضرنا احتفالات ومناسبات، أو شاهدنا أو تابعنا في كل أصقاع الدنيا، لا نتذكر أنا رأينا حشود عظيمة بهذا الحجم، لقد حضر الكل بحبهم وعشقهم وولايتهم.. بعضهم تحملهم أقدامهم وبعضهم سياراتهم، وكل جاء به عشقه وحبه وولاؤه لمحمد سيد الخلق أجمع، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين.
هذه الحشود تبرهن أن يمن الإيمان والحكمة لم يبارح إيمانه وحكمته التي شهد بها المصطفى عليه الصلاة والسلام بنفسه، وهؤلاء هم أحفاد الأنصار الكرام، من كانوا لرسول الله السند والمدد والمأوى والناصر، فحين خذلته قريش وسائر القبائل العربية، جاء الأنصار إليه وعاهدوه، وقالوا «لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلّف منا رجل واحد، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله»، لقد حمل الأنصار الهم والقضية وآمنوا وآووا ونصروا وقاتلوا دفاعا عن النبي ورسالته، أما حين تجرأ السفهاء بالإساءات للحبيب المصطفى، خرجت هذه الحشود العظيمة في اليمن لتحمل القضية من جديد وتقول ها نحن أنصارك يا رسول الله نبايعك ولن نخذلك ولو باعدت بيننا السنين.
لقد شكلت بيعة العقبة الأولى كومة من الأمل لدى الرسول الأعظم في بناء دولة إسلامية ترعرعت في ما بعد في حي الأنصار أوسا وخزرجا.. وجاءت بعد أن وصلت مؤاذاة الكفار للنبي صلوات الله عليه وآله وسلم، مبلغا خطيرا وشاقا عليه سلام الله وصلاته وعلى آله، أما في العقبة الثانية أو ما تسمى بيعة العقبة الكبرى فقد شارك فيها 73 رجلا من الأنصار ممن عاهدوا رسول الله على الطاعة والتسليم في المنشط والمكره، وقد جاءت بعد عام من الأولى، وفيها تأكد الحبيب المصطفى صلوات ربي عليه أن الأنصار اليمانيين سيحملون هم الرسالة ومقتضيات الدعوة النبوية وجوهرها، وسيحملون لواء الإسلام ودولته، وكانت البيعة هذه هي الخطوة العملية الأولى لتأسيس الكيان الإسلامي ودولة الرسالة المحمدية ومجتمع الدين الإلهي العظيم، وعلى إثرها توجه المصطفى نحو ديار الأوس والخزرج الذين استقبلوه جموعا ينشدون طلع البدر علينا من ثنيات الوداع.. وجب الشكر علينا ما دعا لله داع..إلى آخر ذلك النشيد التاريخي الذي بقي محفوظا لدى الأجيال المتعاقبة حتى اليوم.
وإذا كنا اليوم بعد 1442 عاما من هجرته إلى المدينة أمام هذا الطوفان من البشر يبايعون الله ورسوله، مبايعة علنية ومشهودة وأمام العالم وعلى مسمعه ومرآه، يهتفون بحناجرهم «لبيك يا رسول الله»، فما هو الوصف الذي يمكن إطلاقه على هذه البيعة التاريخية في زمن التخاذل والانحدار، إنها مبايعة التاريخ وعهد الأجيال، إنها الأشواق للأحباب، ففي الأثر أن المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله وسلم، تساءل في جمع من الصحابة عن موعد لقائه مع إخوانه وأحبابه، فقالوا: بأبينا أنت يا رسول الله، ألسنا أصحابك وأحبابك؟ قال : إنهم قوم لم يروني وآمنوا بي وأنا إليهم بالأشواق أكثر، فمن هم الأحباب إن لم يكن هؤلاء الذين يبايعون النبي المصطفى تحت حر الشموس في زمن يتعرض فيه للإساءات المتكررة، وتنحدر الأمة جميعا وأشتاتا نحو التهاوي والخذلان، ويذهب معظم المسلمين يمينا وشمالا وحتى باتجاه إسرائيل مبايعين لنتنياهو وماكرون وآراذل الخلق..
هذه الجموع والحشود العظيمة تبايعك يا سيد الخلق وأفضل الرسل عليك صلاة الله وأزكى التسليم، وتقطع العهود بالوفاء والولاء والبقاء أبد الأبدين وحتى قيام الساعة تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، شهادة لا تنتهي بالزمان ولا المكان ولا يأتي عليها الفناء أبدا، هذه القلوب كلها شوقا إليك ولهفة ومحبة وحبا وولاء يا رسول الله صلوات الله عليك وعلى آلك الأولياء، صلاة دائمة باقية إلى يوم الدين..