رقابة المجتمع.. بين علانية المحاكمة وشفافية الحكم !
عبد العزيز البغدادي
مبدأ علانية المحاكمة في القضاء الذي يؤمن بأن مبدأ العدالة حق للمتقاضي وليس منة من القاضي.. هذا المبدأ مقر قانوناً وشرعاً ومقتضاه وضع القاضي في حالة اختبار دائم أمام مرآة المجتمع صاحب الحق في جميع السلطات الدنيوية المشهودة وفي تطبيق كل المبادئ الملزمة قانوناً، أما قدسية العمل القضائي الدينية فتقوم إلى جانب هذا الحق في الرقابة المشهودة الخاضعة للمساءلة الدنيوية على الرقابة الذاتية ومصدرها الخوف من الله عالم الغيب والشهادة عند من يؤمن بها طبعاً، والرقابة الدينية خارج قدرة الفرد والمجتمع ومؤسساته على ضبطها، ولذا فالاختصاص فيها لله وإن تعلقت بالإنسان لأن عقوبتها أخروية وإن اتصلت بالحياة الدنيا، ولأن الرقابة المجتمعية على القضاء والقضاة التي تقوم على الإلزام والالتزام بمبدأ علانية جلسات المحاكمة كحق للمجتمع فهذا معناه عدم جواز أن يجعلها القاضي سرية إلا في حالات استثنائية حددها القانون، أي أن الأصل العلانية في كل القضايا وفي كل الجلسات وفي كل مراحل التحقيق والمحاكمة، أما السرية فهي استثناء للأصل، أي في جلسات وقضايا محددة ولمقتضيات تتعلق بالخشية الجدية من الإضرار بأمن المجتمع والدولة أو بدواع أسرية لحفظ مكانة الأسرة أو شرفها ومراعاة لمصلحة اجتماعية أو فردية مشروعة، ولا ينبغي أن يخضع هذا الاستثناء لمزاج القاضي وإن جُعل لتقديره، لأن هذه السلطة التقديرية مرتبطة بتوفر بالعلة عملاً بالقاعدة الشرعية (الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً )، أي إذ وُجِدَتْ العلة وُجِدَ الحكم وإذا انتفت انتفى الحكم، وتقدير ذلك من المسائل الموضوعية والقانونية يخضع لرقابة الدرجات القضائية في حال كانت موضع نزاع !، ومبدأ العلانية شرع كجزء من الرقابة على القاضي ويؤثر في حسن سير العدالة ويجعله يضع حساباً لحركاته وسكناته ويحرص على العدالة الشكلية كالالتزام بالتعامل مع الخصوم بما لا يفقد ثقتهم أو أحدهم في حرصه على مبدأ الحياد والمساواة بينهم في حق تقديم الدعاوى والدفوع والدفاع وتمكينهم من تقديم الأدلة وكل ما لديهم بما يفيد في الكشف عن الحقيقة وتحقيق العدالة، وهذه الأمور أقرب في تعريفها إلى الرقابة السابقة والمصاحبة من بداية فتح باب النزاع إلى صدور الحكم الذي يفترض أنه عنوان الحقيقة بعد صدوره بناءً على محاكمة عادلة استوفت كل شروطها الشكلية، لتأتي بعد ذلك الرقابة اللاحقة الشكلية والموضوعية والتي تكون عن طريق الطعن في الحكم لدى المحكمة الأعلى درجة، ومعروف أن علة جعل التقاضي على درجتي محكمة الموضوع الابتدائية والاستئنافية هي أن القاضي بشر معرض للخطأ والصواب ومن ثم لا بد من إعطاء طالب العدالة فرصة ثانية وثالثة حرصاً على حسن تحقيقها .
هذه إشارة بسيطة إلى ملامح من مبدأ علانية المحاكمات، أما مبدأ شفافية الحكم في سلطة إصدار القرار السياسي أو التنفيذي في سلطات اتخاذ القرار وتنفيذه فهو مبدأ يقع في موقع المواجهة المستمرة مع الفساد ولذلك فهو مبدأ أشمل من مبدأ علانية المحاكمات لاتصاله بكافة السلطات، إما علانية المحاكمات كما أشرنا فمتعلق بجزء من الشفافية على مستوى سلطة القضاء الذي يفترض أنه محكوم بمبدأ الاستقلال بعد تنقيته من جائحة الفساد التي يعاني منها، لأن تقديم الاستقلال الجاد على التنقية إنما هو تمكين لاستمرار استفحال هذه الجائحة !
مبدأ الشفافية على مستوى كل السلطات إذاً تحكمه عدة مبادئ وأسس منها حرية الرأي والتعبير بكل صوره وأشكاله ووفق الوسائل والأصول التي تحقق المصلحة المشروعة وبما لا يؤدي إلى الخلط بين الحرية والفوضى وهذه الموازنة إذا اختلف في تفسيرها وتحديد مضامينها فالمرجع هو القضاء العادل والمستقل، ومن هنا تأتي أهمية تقديم إصلاح السلطة القضائية على بقية السلطات لأن تداخل المسؤولية القانونية والأخلاقية في تسيير عمل هذه السلطة كما أشرنا يأخذ حيزاً أكبر وأشمل وهو تداخل ينبغي أن لا يكون خارج الانضباط والمسؤولية لتحقيق رقابة فعاله ومسؤولة .
ولأن الشفافية عكس السرية وهي عدو للفساد، الذي يتمثل في خيانة أمانة المسؤولية والتلاعب بالوظيفة العامة من خلال المحسوبيات وسوء استخدام السلطة وكل ما يؤدي إلى الانحرافات المالية والإدارية.
ولن ندخل في تشعبات محاولات تعريف الشفافية ولكننا نشير فقط إلى أنها بالمجمل تقوم على جعل كل قرارات الحكومة والسلطات في متناول علم الجميع والمعلومة بشأنها متاحة للعلماء والإعلاميين والباحثين وكل مهتم وتمكينهم من حق إبداء الرأي حولها وللمشاركة في اتخاذ القرار.
لذلك نجد السلطات تتهرب من تطبيق مبدأ الشفافية أو تسعى لتشويهه وحرفه عن المسار الذي ينبغي أن يسير فيه لألّا يؤدي الدور المطلوب وتحوله في الغالب إلى عمل إعلامي لا تتطابق فيه الأقوال مع الأفعال فيفقد المجتمع بذلك ثقته بالسلطة التي يُفترض أنها منه وإليه!، ونخلص إلى أن الرقابة على الحاكم القضائي والنظام السياسي عموماً وإن اختلفت في الشكل والإجراء فإنها تتفق في المضمون والهدف!
جمرةُ الحق لا تنطفي * الروح مِشْعَلُها والأمل ْ