لقاءان عابران مع الأستاذ الحبيشي
أحمد المالكي
لا أدَّعي أني كنت على صلة مباشرة أو معرفة شخصية بالأستاذ الإعلامي الكبير أحمد الحبيشي -رحمة الله عليه- الذي فجعنا بوفاته قبل أيام قليلة، ولكني عرفته كأحد رجالات وأعلام الصحافة والإعلام البارزين في اليمن الذين عاصرناهم وعرفناهم خلال فترة ما بعد الوحدة اليمنية منذ عام 1990م، حيث كان رئيسا لتحرير صحيفة الوحدة التي بدأت أنا مشواري الصحفي فيها، وكونه أحد الهامات والقامات الصحفية التي تقلدت وأدارت مناصب في مؤسسات إعلامية رسمية وحزبية مهمة ،كما عرفته كأحد الصحفيين والكتَّاب الكبار من خلال كتاباته وتحليلاته السياسية والتاريخية والفكرية والثقافية التي تميزت بسعة التناول وقوة الطرح وكثافة المعلومات ودقة الاختيار للمواضيع حول مختلف القضايا والمراحل والأحداث والشخصيات السياسية والفكرية وغيرها التي عاصرها وواكبها أو التي عرفها أو قرأ عنها والتي كان يحرص في تناولاته وكتاباته على أن يدعمها بتواريخ الأزمنة والأمكنة لكل الأحداث والمراحل والشخوص التي كان يكتب أو يتحدث عنها فقيدنا -رحمة الله عليه- والتي كانت تملأ صفحات الصحف ووسائل الإعلام اليمنية وحتي العربية والعالمية سواء كانت مقروءة أو مسموعة أو مرئية..
كل ذلك العطاء وذلك القلم الرشيق الذي لم يتوقف ولم يجف حبره قط حتى لحظة وفاته تشير إلى رجل ذي اطلاع وثقافة وفكر ثاقب وعلاقات واسعة في السياسة والتاريخ والثقافة والاجتماع والاقتصاد وفي مختلف مجالات الحياة، كما كنت أحد متابعيه في وسائل التواصل الاجتماعي الفيس والتويتر بالذات خلال فترات العدوان، والتي تميزت فيها شخصية فقيدنا الراحل بمواقفه الوطنية الثابتة المناهضة للعدوان وزادت شعبتيه في الوسط الاجتماعي والشعبي المناهظ للعدوان، كما كنت أتابع بعض حلقاته عبر أثير إذاعة سام إف إم التي كانت آخر المحطات الإعلامية التي عمل فيها وأثراها بتناولاته وتحليلاته السياسية المتميزة عبر برنامج “مع أحمد الحبيشي”..
الحديث عن هذه الشخصية الإعلامية الفذة ليس بالسهل فهو موسوعة كبيرة لا يمكن حصر عطائه ونشاطه بسهولة، فهو تاريخ وقاموس وموسوعة، ورجل كان يمتلك من القدرات الشخصية والفكرية والثقافية والمهنية في الكتابة والإدارة وسعة الأفق ما مكنه من احتلال هذه المكانة الرفيعة والمرموقة في الوسطين السياسي والإعلامي ..والتي أهلته لاتخاذ موقف الانحياز إلى جانب الحق والوطن، فكان موقفا مشرفا ثبت معه ومات عليه.. وهو ما أكسب الرجل محبة واهتمام أوساط الناس والمجتمع ولدى رجال السياسة والدولة وذلك بحكم حساسية الموقف الوطني الذي اختاره في خضم هذه المرحلة التاريخية المعاصرة والحساسة في ظل العدوان الذي أربك مواقف الكثير من السياسيين والإعلاميين فذهبوا بعيدا إلى مزبلة التاريخ، أما هو فكان مع الوطن وضد أعداء الوطن، وهو الموقف الذي لم يكن يتوقعه كثير من الذين عرفوا الحبيشي من رجال السياسة والإعلام بحكم قربه من أصحاب القرار في السلطة السابقة وتقلده مناصب إعلامية حساسة في المؤتمر الشعبي العام كانت على صلة وبإشراف مباشر من الرئيس السابق علي عبد الله صالح وزبانيته الذين فضلوا الخيانة والارتزاق واتضحت مواقفهم الخيانية عندما أعلنوا وقوفهم مع الغزاة والمعتدين بل وانتهى بهم المطاف بالهروب إلى حضن المعتدي والغازي والمحتل السعودي والإماراتي، بينما الأستاذ أحمد الحبيشي ومعه كثير من الأحرار والوطنيين من قيادات المؤتمر الشعبي العام والشرفاء والأحرار الوطنيين في المكونات والأحزاب السياسية المختلفة فضلوا واختاروا الموقف المحق والمشرف مع الوطن ووقفوا في وجه الغزاة والمعتدين والمحتلين ومرتزقتهم.
الأستاذ الحبيشي خالف كل التوقعات التي رسمت في أذهان الكثير ممن عرفوه عن قرب أو بعد خاصة بعد تحوله من الاشتراكي إلى المؤتمر بالقرب من رأس النظام نفسه ولسنوات عديدة، حيث كان يستطيع من خلاله وعبره أن يمتلك استثمارا أو عقارا أو ثراء كبقية المقربين والمطبلين والمرتزقة المبرزين وهم كثر في القاهرة أو تركيا أو السودان أو غيرها من العواصم العربية والأجنبية، لكنه اختار العزة على المذلة، والكرامة على المهانة، والوطن على الخيانة، فكان نعم الموقف وكانت نعم الخاتمة..
كل ذلك جعلني أشعر بواجبي كإعلامي أن أكتب عن فقيد الإعلام والوطن الأستاذ أحمد الحبيشي الذي ربما ارتمست لدي صورة مغايرة عنه في مرحلة ما لكنه أثبت أنه نعم الرجل الإعلامي الصادق والمخلص الذي كرَّس حياته للوطن ومع الوطن وأنهى مشوار حياته بشرف وعزة وكرامة مع الشعب وللشعب ومع اليمن الواحد ولليمن الموحد، والعبرة بالخواتيم..
وقد كان لي مع الفقيد الأستاذ أحمد الحبيشي موقفين عابرين في سلم العودة ..عرفته شخصيا والتقيت به وسلمت عليه بشكل مباشر وللحظات قليلة، لكنها عكست لدي نبل الرجل وكارزميته الملفتة..
الأول كان في سلم مبنى صحيفة الثورة أثناء خروجه من مكتب رئيس التحرير بعد انتهاء تسجيل الحوار الصحفي الذي أجرته الصحيفة معه بحضور الأستاذ عبد الرحمن الأهنومي رئيس مجلس الإدارة والأستاذ أحمد نعمان عبيد نائب رئيس مجلس الإدارة لشؤون الصحافة والأستاذ عباس السيد مدير التحرير الذي كان يرافقه.. عندما التقيت به في السلم سلمت عليه وعرَّفته بنفسي، تصافحنا ورد مبتسما: أهلا ومرحبا تشرفنا، ثم واصلت المسير معه بخطواته البطيئة وهو يتبادل الحديث مع الزميل مدير التحرير حتى ركب سيارته وغادر الصحيفة، وكان لي شرف تفريغ ذلك الحوار الصحفي للأستاذ الحبيشي ولليلة كاملة حتى الفجر بتكليف من الأستاذ مدير التحرير كون تسجيل اللقاء كان بمسجلتي الصحفية التي مازالت تحتفظ بذلك الحوار في ذاكرتها بصوت الأستاذ الراحل.. لا أذكر تاريخ ذلك اللقاء بالضبط لكنه ربما في نهاية العام الماضي 2019م أو مطلع العام الجاري 2020م..
أما الموقف العابر الثاني والمباشر لي مع الأستاذ الحبيشي فكان في سلم العودة بعد انتهاء إحدى الفعاليات الاقتصادية التي نظمتها اللجنة الاقتصادية العليا حول تأثيرات ومخاطر طبع العملة غير القانونية من قبل حكومة العملاء ومدى صوابية إجراءات البنك المركزي في صنعاء بوقف ومنع التداول بالعملة المطبوعة الجديدة، والتي حضرت لتغطيتها بحكم تخصصي في الإعلام الاقتصادي، وكان الأستاذ الحبيشي أحد الضيوف المدعوين إلى الفعالية وكانت له مداخلة مهمة وعميقة أثرت أوراق الندوة التي طرحت للنقاش في ذلك اليوم، وأثناء عودتنا بعد انتهاء الندوة في أحد فنادق العاصمة صنعاء وكان برفقتي الزميل العزيز محمد دماج من صحيفة الثورة أيضا، والأستاذ أحمد سعيد شماخ عضو مجلس الشورى تبادلنا الحديث مع الأستاذ أحمد الحبيشي أثناء نزولنا جميعا، فقلت له: أنت يا أستاذ أحمد شخصية إعلامية وإدارية متمكنة ومهنية.. لماذا لا تمسك منصباً أو وزارة ؟..-فرد مبتسما: عرضوا علي ذلك، وذكر منصب وزارة الإعلام قبل تعيين الخائن عبدالسلام جابر وذكره بالاسم-، وقال: أنا رفضت وفضلت أن أقوم بدوري الوطني المواجه للعدوان بعيدا عن المسؤولية الرسمية التي كانت ستشغلني كثيرا عن القيام بهذا الدور الذي أقوم به الآن بهذه الحرية والزخم وأشعر بالراحة النفسية وأنا أؤديه ..ففهمنا أن الرجل فضل أن يقوم بدوره الإعلامي عن مواجهة العدوان والذي لاحظناه وشاهدناه وسمعناه وقرأناه عبر وسائل الإعلام المختلفة ومن خلال كتاباته في الصحف والمواقع الإعلامية الإلكترونية ومن خلال منشوراته في وسائل التواصل الاجتماعي والتي تميزت بالحضور والزخم الكبير والفاعل الذي ربما كان المنصب والمسؤولية الرسمية والحكومية ستحول بينه وبين أداء هذا الدور والنشاط الكبير التي قام به الأستاذ الراحل أحمد الحبيشي بعيدا عن قيود وروتين المسؤوليات الرسمية، فكان بهذا الموقف الأقرب إلى قلوب الناس والأكثر فاعلية وحبا في أوساط الشعب بموقفه الوطني الثابت والمشرِّف الأعز والأكرم عند الله وعند خلقه والذي فضّله فتميز به غيره ممن أغرتهم الأموال والسلطة والمناصب ومغريات الحياة ففروا بعيدا عن الوطن والوطنية التي طالما تشدقوا بها كثيرا، لكن الأستاذ الحبيشي- رحمة الله – عليه غاير موقفهم وخالفهم فعادوه وهاجموه وهددوه، فضَّل ثابتا أمامهم بكل إباء وشموخ يكشف ويفضح ويواجه زيف الزائفين وإرجاف المرجفين ونفاق المنافقين وجور الجائرين وجرم المجرمين وصمت الصامتين وسكوت الساكتين على جرائم وفضاعة العدوان على المستوى اليمني الخياني أو على المستوى الأممي والدولي المنافق والصامت المتفرج والمنحاز لصف العدوان أكثر من خمسة أعوام عاشها وواكبها فقيد اليمن الراحل، فظل يوضح ويكتب ويحلل ويرد ويسجل وينشر ويغرد منهيا بذلك مراحل حياته الزاخرة بالمسؤوليات وبالعطاء والأداء الإعلامي المهني الواسع والكبير بكل مسؤولية واقتدار..
رحمة الله عليه وهنيئا له هذه الخاتمة المشرفة، وأي خاتمة أفضل للإنسان من أن يموت وهو مع الحق وفي موقف الحق..هنيئا له فقد فاز وربِّ الكعبة.