الرأسمالية.. من حلم القيادة إلى شبح الانهيار
عبدالرحمن مراد
منذ كتب بريجنسكي كتابه «بين عصرين» والذي تحدث فيه قائلاً: إن الرأسمالية تواجه هزيمة أيديولوجية وفكرية كبيرة جداً، ويقول في سياق كتابه ذلك أن الحل الوحيد هو إحياء ما أسماه «الأصوليات الدينية» ودفعها للتصادم مع المنظومة الشيوعية والاشتراكية وحركات التحرر عندها – حسب رؤيته في مضمون كتابه الصادر في مطلع عقد السبعينيات- سوف تهزم الشيوعية والاشتراكية بقوة الأصوليات الدينية، وهزيمة تلك المنظومة سيوفر للرأسمالية الأمريكية فرصاً استراتيجية كبرى لإعادة تنظيم العالم تحت قيادتها.. ووفقاً لهذا المنطلق النظري تبنت السياسة الأمريكية منذ عهد كارتر الذي رأس أمريكا في الفترة من «1977م-1981م» خطة استراتيجية لدعم الأصوليات الدينية، ليس حباً في الدين وإنما من باب كراهية الشيوعية وحركات التحرر، ورغبة في حماية المصالح الاستراتيجية لأمريكا.
والملاحظ أنه في فترة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان والممتدة من «81-1989م» تعاظم المد الأصولي وقوت الحركات الأصولية الدينية «الإسلامية واليهودية والمسيحية والهندوسية» في العالم كله، وذلك النشاط المستعر والمحموم أدى إلى تحقيق أهم الخطوات التمهيدية للسيطرة على العالم وتمثلت في تفكيك المنظومة الاشتراكية وإزالة العقبة الشيوعية، وإشعال أو استنزاف وشرذمة حركات التحرر في الأقطار العربية، وفرض شروط الاستسلام للصهيونية في فلسطين.
في نهاية عقد السبعينيات وصل الإمام الخميني للحكم في إيران وبرز في نفس الفترة المجاهدون الأفغان، ويومذاك أصبح الصراع دينياً «ضد الصليبية» واليهود بشكل خاص كما توحي شعارات الثورة الإيرانية التي قادها الإمام الخميني، وتأصلت في المعتقدات الأصولية الدينية الإسلامية فكرة أن انتصار الإسلام مرهون بدحر بقية الديانات وليس عبر التعايش السلمي بينها..
ومن يعود إلى مرجعيات تلك الحقبة الزمنية يجد ذلك شائعاً في الخطاب الثقافي والسياسي والإعلامي، ومن نافلة القول إن الهدف من تلك الاستراتيجيات التي كانت تتبناها دوائر صنع القرار الأمريكي «الكونجرس والبنتاجون بكل منظومته الأمنية والعسكرية والاستخبارية» هو تفتيت وتفكيك العرب على أسس ما قبل الدولة الوطنية لتسهيل السيطرة عليهم، وذلك عن طريق العصبيات الطائفية والعرقية والحضارية لكون أمريكا وصلت إلى مرحلة الشيخوخة وأصبح نظامها الرأسمالي عاجزاً عن توفير احتياجات إمبراطوريتها وما لم يتم تمزيق العرب لتغذية الخلافات والصراعات بينهم فهي تدرك أنها ستكون عاجزة عن السيطرة على الموارد وبالتالي تزداد أزمتها البنيوية اتساعاً، ولذلك سعت على القضاء على محركات الثورة كالحركة القومية «حزب البعث»، وأعلنت حربها على العراق في مطلع عقد التسعينيات، وكان حزب البعث هو حركة التحرر التي تهددها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لذلك أشعلت الفتن الطائفية في العراق وحروب الأديان حتى تستطيع فرض نمط يخلّصها من الصراعات ويبعدها عن شبح الانهيارات، وهي اليوم كما هو واضح للعيان قد ساهمت في خلق إسلام سني يواجه بكل رباطة جأش الإسلام الشيعي ولم نعد نسمع عن الأزمات الاقتصادية التي كانت تبدو كشبح يهدد بنيتها الامبراطورية بالفناء والتلاشي والاضمحلال، بل كادت أن تتجاوز تلك الأزمات بفضل حركة الدمار الشامل التي يقودها المسلمون ضد بعضهم بعضا، وبعد أمد لن يطول يصبح التوفيق بين المسلمين مستحيلاً، وتسعى الصهيونية العالمية إلى أن تكون المواجهة بين المعسكرين السني والشيعي أبدية لتصل إلى مرحلة التدمير الشامل وبحيث يتحول العرب والمسلمون إلى كتلة تاريخية محاربة لا تحب السلام والاستقرار تحركهم الأحقاد والعصبيات والثارات وهي حالة لا تنسجم مع حالة العالم ولا مع مصالحه، وعند هذه النتيجة قد ينشأ توافق عالمي على ضرورة القضاء على الإسلام باعتباره الحل الوحيد لإنقاذ العالم من شروره.
مثل هذه الرؤى ليست من نسج الخيال ولكنها استراتيجيات مدركة وواعية، بيد أن العرب قوم لا يفقهون ولا يقرأون وهم يتعرضون لتلك المؤامرات ولكنها سوف تتكسر على صخور جبالهم وتنكسر الموجات على صلابة إرادة قاهرة هي الأقوى وهي إرادة الله .
اليوم أمريكا تشهد ثورة عارمة تكاد تعصف بها، وكل المؤشرات التي ظهرت في الأشهر الأخيرة من حرب فيروس كورونا تقول ثمة تراجع يحدث في مسار النظام العالمي ينذر بتبدل وتغير لم تكن أمريكا ولا نظامها الرأسمالي يحسب حسابا له، هذا التراجع يفسح المجال للصين كي تكون في صدارة النظام العالمي الجديد، وتلك هي سنن الله في كونه، بقاء الحال على ما هو عليه من المستحيلات التي لا تتسق مع عقل ولا منطق ولا تاريخ .
أمريكا تشرب من ذات الكأس التي كانت تذيقه أنظمة العالم التي تسير ضد واقعها ومصالحها وقد هيأ الله لها أحمق بذات المواصفات التي هيأ بها للنظام الاشتراكي في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي وهي تترنح اليوم وسيكون السقوط مدويا لا محالة .
كشفت أمريكا أوراق لُعبتها للعالم، “فترامب ” بكل حماقته كان معولاً يهدم صخور التبلد في أذهان المخدوعين بأمريكا لتكون كالحقيقة عارية دون خداع وزيف، تجردت من مفردات حقوق الإنسان، وتجردت من كلمة الحريات والأقليات، ومن الديمقراطية ومن كل القيم التي لم تكن حقائق بل زيف وخداع تحاول من خلالها فرض هيمنتها على العالم وتفرض من خلالها شروطها لخضوعه .
سقوط النظام الرأسمالي أصبح وشيكاً ولن يكون حال العالم ولا النظام العالمي كما كان عليه
قبل كورونا، فكورونا أدار حرباً عالمية أحدثت تبدلا عميقاً في بنية النظام العالمي ما كان للبشر أن يبلغوه، فإذا كان العالم خسر الكثير من الأرواح – وهي طبيعة كل الحروب – فهو يكسب واقعا جديدا ونظاما عالميا جديدا قد يكون هو الأقرب إلى الحق والعدل، وهما غايتان ظل البشر ينشدونهما عبر تاريخهم وثوراتهم القديمة والحديثة .