الفتوى والدور السعودي
أحمد يحيى الديلمي
لم يعد يخفى على كل يمني الدور السعودي المشبوه في استهداف الواقع ومحاولة التأثير المباشر على كل ما هو يمني ، وفي المقدمة الهوية الثقافية، لأن الهدف واضح وهو الوصول إلى محاولة خلخلة النسيج الاجتماعي والتأثير على العقل الجمعي الذي يؤلف بين اليمنيين كونه مثَّل على مدى قرون نموذجاً راقياً للتسامح والاكتمال والاحتكام إلى منطق العقل في مناقشة القضايا الخلافية بين أتباع المذاهب الموجودة على أساس قاعدة (قبول كل طرف بفتوى الآخر واليقين بأنها تحقق الغرض الذي يسعى إليه طالب الفتوى ولا تتعارض إطلاقاً مع نص واضح قطعي الدلالة والثبوت)،هذه الصورة المتجانسة المتسمة بالعظمة لا شك أنها أثارت حفيظة النظام السعودي في زمن مبكر فشكلت مع الفارق الحضاري وإحساسه بالدونية أمام الموروث الثقافي اليمني المتجذر في الواقع عامل حنق وعدم رضا انقلب فيما بعد إلى رغبة في التآمر ومحاولة النيل من هذه الثقافة وهذه الهوية الحضارية الراقية مقابل الإطار الضيق للتمذهب القائم على الانغلاق والتعصب والرفض المطلق للمسلم الآخر المخالف ، كل هذه العوامل مجتمعة جعلت النظام السعودي يوجه سهام التآمر إلى الهوية الثقافية ببُعدها الديني ويركز بشكل خاص على الفتاوى بقصد التحكم في مصادرها وتحديد أبعادها لكي تسير على نفس النسق القائم في السعودية من خلال علماء الوهابية ، وزاد الاهتمام بهذا الجانب بعد عام 1973م عقب زيارة الملك فيصل للطائف ، وأثناء وجوده في الطائف وقيامه بحل مشكلة بين عشائر من المنطقة عرض عليهم إرسال علماء من الحرم للإفتاء في بعض القضايا العالقة ، فأعلنوا الرفض المطلق للعرض وقالوا نحن لا نعتمد على علماء الحرم في أخذ الفتاوى وإنما نأخذ فتاوانا الدينية من العلامة الحجة مجدالدين المؤيدي “طيب الله ثراه” وبرَّر أحد الوجهاء هذا الموقف قائلاً (إن الفتاوى الصادرة عن علماء مكة والمدينة تؤسس للكثير من المفاهيم المخالفة لروح الشرع القويم، فهي تجافي الحقيقة وتتعارض مع الفطرة الإنسانية السوية ناهيك عن تعارضها مع روح الشرع)، الموقف أفزع الملك فيصل وزلزل كيانه ، وبمجرد عودته إلى الرياض جمع الجهات المعنية وأقر اعتماد ميزانية خاصة هدفها محاولة استهداف الهوية الإيمانية المتجذرة في أعماق اليمنيين واستبدالها بثقافة التطرف والغلو والانغلاق المعمول بها في السعودية كونها في الأساس تخدم الحاكم ولا تتورَّع عن القول بأنه هبة إلهية من السماء.
هذه السياسة فشلت في بادئ الأمر وقوبلت بالصد والرفض المطلق من قبل اليمنيين أصحاب التاريخ العريق والأدوار المحمودة في دعم الدين ونصرته والوصول به إلى مشارق الأرض ومغاربها حتى وجدت ركائز محلية من خلالها استطاعت السعودية أن تحقق تلك الرغبات المشبوهة وتصل إلى أعماق الثقافة والهوية الوطنية لأن طابع الانقياد الطوعي من قبل من يسمون أنفسهم علماء أو بعض الكيانات السياسية للإرادة الخارجية الممثلة في السعودية والانتظار بما تجود عليهم من مال ، كل ذلك أدى إلى الانحراف بمسار الفتوى وتفسير النصوص والأحكام باتجاه يخدم التوجه الوهابي بما هو عليه من الضيق والتطرف وسعيه الحثيث لتوطيد دعائم النظام وإطالة أمد بقائه ، وهذا ما تسعى إليه ماكينة الفتوى الدينية في السعودية ، لا أقول هذا الكلام من باب المجازفة أو الكيد السياسي، لكنها حقيقة أنقلها عن المرحوم رجل الأعمال المعروف الشيخ محفوظ شماخ “رحمة الله عليه” وهو عضو الهيئة العليا للتجمع اليمني للإصلاح ، فلقد قال لي ذات يوم (أنا مستغرب كيف أصحابنا حزب كبير مهتمين فقط متى سيموت زبارة و المؤيد؟! ويقصد بهم العالمين الجليلين المرحوم أحمد محمد زبارة مفتي الديار اليمنية الأسبق والعلامة الحُجة حمود عباس المؤيد نائب المفتي “قدس الله روحه” وكان الهدف من الانتظار هو إحلال شخص آخر مكانهما من نفس التوجه السياسي لتنفيذ رغبات الجانب السعودي ، وهنا تكمن المشكلة عندما يتعرَّى الطرف المحلي ويصبح كل همه خدمة مطامع وأهواء الآخرين ، لكن هذه المساعي باءت بالفشل، لأن اليمنيين يعرفون من أين تؤخذ الفتوى ومن الطرف الذي سيوصلهم إلى معرفة الحق وعدم الزيغ عنه ، وهنا كانت المفاجئة أن المرحوم العلامة القاضي محمد أحمد الجرافي الذي جاء بدلاً عن المفتي زبارة سار على نفس النهج واقتفى أثر أولئك العلماء الأخيار في إصدار الفتوى والحمد لله أننا أخيراً وُفِّقنا بمُفت عظيم بنفس عقلية وورع العلامة شمس الدين محمد شرف الدين، فلقد استطاع أن يقدم نموذجاً عظيماً أكد من خلاله استقلالية الفتوى ومثلِّ في كل فتاواه موقفاً فريداً في المعرفة والميل إلى الحق ولم يكن امتداداً طبيعياً لتلك العقول النيِّرة التي وضعت هذه الثقافة الحصيفة، لكنه أضاف إلى الموروث اجتهادات كثيرة أكدت قدرته الفائقة على توجيه السفينة والسير بها إلى بر الأمان والحرص على تبصير اليمنيين بأمور الدين خاصة عندما يتعلق الأمر بالحقوق والمواريث وكل ما له صلة بإقامة العدل بين الناس ، وهي الثقافة التي تعامل بها اليمنيون منذ مئات السنين كما أسلفنا في موضوع سابق ، وهذا هو مصدر الاطمئنان الذي تحدَّث عنه أفراد من السعودية حينما أعلنوا الرفض المطلق لفتوى علماء الحرمين الشريفين وهو مؤشر هام يدُلَّنا على أن هذا الجار المؤذي مهما تمادى في إيذائه ومهما وضع الخطط والبرامج وأنفق المال للنيل من هوية اليمنيين الثقافية، إلا أنه لن يتمكن من ذلك طالما وأن الوعي متجذِّر لدى اليمنيين وكلهم يعرفون أين الحق وأين مصدره.. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنب اليمن كل المكاره والجوائح وأن ينصر المجاهدين المرابطين في ثغور الكرامة والعزة في هذه الأيام المباركة، أيام شهر الصوم التي كانت أهم محطة أنطلق منها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة وخاض فيها أعظم المعارك التي انتصرت للدين وحققت غايات الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.. إنه على ما يشاء قدير وهو نعم المولى ونعم النصير .. والله من وراء القصد ..