نانجينغ .. حاضرة الشرق وعروس التاريخ الصيني


انطباعات وصور / خالد الصعفاني –

تنين المستقبل .. حضارة فريدة وشعب مجهتد وقيادة جادة

.. عندما تكون أمام مهمة سفر لبلد كجمهورية الصين وتبدأ ” أم العيال ” بإعداد حقيبة السفر فان الأفكار المسبقة المتزاحمة في رأس الواحد منا تتصل بكيفية الحركة والعيش والتفاهم مع أمة قوامها مليار وأكثر من ثلث مليار إنسان يتشابهون مع بعضهم للحد الذي يجعل إيجاد الفوارق مهمة صعبة ربع سكان الأرض دون عشرات ملايين الزائرين والمقيمين .. بلد ضخم وعملاق في كل شيء تتهيبه وأنت تقرأ رقم مساحته الجغرافية التي تزيد عن 9 ملايين كيلومتر مربع ومناخ متعدد وكأنك في قارة وليس في بلد واحد .. أمواج بشرية تتحدث لغة “ماندرين” التي تتحول في أحايين كثيرة إلى قعقعة صحون وأصوات تلاقي مواد صلبة .. وشبكة مواصلات برية مرعبة فوق الأرض وتحتها .. ورغم أنها الزيارة الثانية لي للصين إلا أنني وبسرعة توصلت إلى انطباعات تنفي المخاوف السابقة وثبتت في راسي إعجابي ببلد تليد في حضارته وضخم في نشاطه وحياته , وأمة غذت عقولهم حكمة فيلسوفهم التاريخي “كونفوشيوس”, ومبادئ مؤسس الدولة الصينية الحديثة “صن يات سين”, وطموح قيادة صينية معاصرة تريد إيصال هذا التنين الأكبر إلى “قمرة” قيادة العالم .. وفقط انتظروا معي من الآن عقودا قليلة..

جميلة في الشرق
.. نانجينغ مدينة تقع في شرقي الصين قريبة من شانغهاي درة الاقتصاد الصيني وعلى بعد 600 كلم وتعتبر عاصمة لمقاطعة ” جيانغ تسو ” .. تستلقي هناك على ضفاف نهر “اليانغستي” احد أهم شرايين هذا البلد الكبير وترمى للسماء بمجموعة من المباني الشاهقة وتطلق في الهواء مترو معلقاٍ ثم جسوراٍ وأنفاقاٍ من كل نوع أبرزها الجسر المعلق الرابط بين ضفتي النهر المقدس زراعيا .. مدينة تمددت حول جبل شكل نواتها وأصبحت تطوف حوله كمقام مقدس .. مدينة تتكئ على موروث تاريخي وحضاري غابر شهد بكونها عاصمة الإمبراطوريات المتعاقبة التي حكمت هذا البلد الضخم في أرضه وسكانه وتاريخه أيضا ولفترات عديدة..
.. ومدينة نانجينغ مدينة جميلة امتزجت فيها شواهد التاريخ حيث المعابد والأضرحة وأهمها معبد الفيلسوف كونفوشيوس ومضامين المدينة القديمة التي تشبه في سورها صنعاء القديمة , امتزج ذلك بثقافة الخرسانة والقار اللذين أرسلا البنيان باتجاه السماء في أماكن كثيرة من المدينة وأرسلت أيضا شبكة متطورة وواسعة من خطوط المواصلات والجسور المعلقة فوق بعضها وكأنك تنظر إلى صحن ” معكرونة ” .. واهتمام ملفت بالنظافة والتشجير حتى رش الشوارع ظهرا و”أجوال” الورود ليلا وكأنك تتجول في منزل شخص راق وليس في مدينة يسكنها الملايين .. بحيرة ساحرة مساء أكثر من سحرها نهاراٍ يدعونها “كسوانوو” .. قرى سياحية شيدت لاحتضان الرياضيين القادمين من كل آسيا أو من العالم وما أن تنتهي الفعاليات الرياضية حتى تسلم لملاكها .. وشباب متطوعون مثل الورد هم طلاب وطالبات الثانوية والجامعة يتنافسون بقوة للفوز بفرص التطوع المجاني الذي يلهب المشاعر ويوزع دروسه على الآخرين بـ”المجان”..
.. وبين “نانجينغ” و”بكين” أو “بيجين” كما يطلقون عليها بلغتهم المميزة حكاية طويلة من التنازع على زعامة المدن الصينية ففي تارات عديدة ظلت الأولى العاصمة التي لا تنازعها على هذه المكانة مدينة أخرى, وتارات أخرى خضعت المدينة لمعادلات السياسة والحضور الاقتصادي والعمق التاريخي بعيدا عن التاريخ وحده أو جغرافيا الموقع وحسب , فكانت النتيجة غلبت الأخيرة خصوصا وقد استندت في نزاعها المستمر على الزعامة على سور عظيم ما أنجبت الشعوب مثله ,ولتكون العاصمة للصين الحديث الواحدة بعد كل هذا هي “بكين”..
.. المدينة تقع بعيدة قليلا عن المطار لكن كثيرا ما تقلل من تعب الانتقال بينهما أشجار باسقة الأطوال واسعة الأجنحة ترتص كأسنان المشط عن يمين الطريق ويساره وكأنها تباعد بين طرفي لوحة خضراء تنبت حولها الأزهار .. ولا يكاد يشق ذلك البساط الأخضر إلا خط الإسفلت الأسود يتعرج أحيانا ويستقيم حينا وكأنه في مهمة اللعب بأعصاب الراكب المتطلع إلى لقاء هذه الفاتنة التي تستقبلك بمبانيها العالية ومشاريع البنى الجديدة والكثيرة التي تعني الكثير لمدينة عاشت في التاريخ أكثر بكثير من حقيقية احتياجها لثوب عصري طموح على غرار أخواتها في الجنوب “غوانجو” و”شينزن” أو شنغهاي في الشرق أو حتى بكين في الشمال ..
خصوصية واعتزاز بالذات
.. وللوصول إلى أحضان تلك الجميلة الصينية كان علينا السفر طويلا لعشر ساعات عبر العاصمة التايلاندية بانكوك حتى وقد خفف من طول السفر باص الجو المبهر ” آي 380″ فخر صناعة “الايربص” شركة تصنيع الطائرات الأوروبية .. عشر ساعات من دبي فاتنة الإمارات العربية إلى بانكوك ومنها إلى جوهرة التاج الصيني “هونغ كونغ” بمطارها الذي يتعارك مع الأحوال الجوية غير المستحبة ومنظره الآسر من الجو قبل لحظات الهبوط الأخيرة .. هناك وفي “هونغ كونغ” تجد الكثير المختلف عن الأم في الصين فاللغة الانجليزية تسعفك في كل مكان تقريبا من شبه الجزيرة هذه الأثيرة على قلوب الصينيين وعلى قلب الاقتصاد العالمي والآسيوي منه تحديداٍ, كما أنك في حل من الشراء بالدولار الأمريكي أو دولار “هونغ كونغ” في حين يلزمك في البلد الأم الحديث بالصينية أو الاحتكام للاجتهاد في التفاهم وهو الاجتهاد غير المصيب في كثير الحالات , أما الدولار الأمريكي فهو بين العامة والخاصة داخل الصين عبارة عن ورقة من “جيز” الورق ولا قيمة لها إلا في بنك الصين أو فروعه أو المصارف المرخص لها بصرف العملة الأجنبية لكي تصبح لديك أوراق مالية اسمها “يوان” أو ما يعرف اختصارا بـ”ار ان بي” وبه فقط يمكنك الشراء والبيع , ثم فارق ثالث حيث لا زال السائقون يقودون من اليمين على طريقة بريطانيا ومستعمراتها السابقة حول العالم ..

ذكرى ديسمبر الأليمة
.. من نانجينغ الكثير من المشاهد والحكايات فالمدينة شهدت في تاريخها الطويل أحداثا جساما كان أحزنها ما جرى لها في عام 1937 م حين هاجمتها القوات اليابانية الغازية حينها وقتلت من أهلها وفقا للإحصاءات الصينية 300 ألف إنسان بين رجل وطفل وامرأة .. ولهذا يقوم أهل المدينة بأهمية إحياء يوم مجزرة الـ13 من ديسمبر في موقع مجسم المذبحة وتلك المجسمات بالمناسبة كما تظهر معنا في صور هذا الاستطلاع عبارة عن وصلات رائعة من فن نحت أروع حتى لتكاد تلك الأعمال تنطق بما جرى وتحكي بشاعة ما حدث ..
فعاليات مميزة
.. في المدينة قضيت أسبوعين لم يشفعا لي بمعرفة المزيد لكن ما رأيته كان يكفي لأنك في بلد بحجم الصين فلن يسعك إلا عينة الغيض من الفيض أما المسح الشامل فهو مهمة تنوء بها ظهور وإمكانيات الصينيين أنفسهم .. في نانجينغ كما قبلها في “غوانزو” لمست دولة في كل شيء يشهد على ذلك النظام والنظافة والاهتمام بالشجر والحجر فضلا عن البشر .. كنت في مدينة استضافت دورة ألعاب أولمبية للشباب الآسيوي شهدت مشاركة 45 بلدا في 118 فعالية رياضية وثقافية تنافس فيها 3000 رياضي ومهني تقديم بلدانهم بأفضل ما عندهم ولم تكن الغلبة إلا لأهل الدار الذين حصدوا الإعجاب والثناء قبل أن يسيطروا على 93 ميدالية ملونة من الذهب والفضة والبرونز ..
.. جامعات تعج بالحياة والأفكار والنشاط الذي جعل شبابها وشاباتها عبارة عن فعاليات ونشاطات متحركة في الرسم والمشغولات اليدوية والإبداعات الحرفية والمهارات التقنية والاختراع وفنون الغناء والرقص وصناعة البزنس من أبسط الأفكار وأرخص المستلزمات .. يعملون كل ذلك بانسجام وتناغم وحرفنة واعتزاز وهي في تصوري مظاهر التعاطي الجاد التي تنقصنا في بلد الحكمة اليمانية ..

خاص بالصين والصينيين
.. عمدة المدينة شخص متواضع وعملي ويشهد على هذا ملبسه وحركته أثناء الفعاليات الرياضية أو الزيارات الميدانية .. وحدث أن سألت رجلاٍ مهندماٍ في حفل رفع الأعلام أمراٍ فقال ليس عندي علم , فقلت له هل أنت من الضيوف فقال وهو يبتسم أنا عمدة المدينة .. وحين التقيته في حفلة أقامتها جامعة التكنولوجيا بمناسبة يوم الميلاد كان متفاعلا وكأنه طالب وليس العمدة .. بالمناسبة هذا المسئول كان لديه مرافقون لكنهم ليسوا كمرافقي مسئولينا , “مبندقين” أو “محوشين” , بل أشخاص لهم علاقة بالأعمال والفعاليات وحضورهم للمتابعة أو الشرح ..
.. هناك أناس يهتمون بالتفاصيل لأنهم كما بدا يدركون أن المسمار مهم من أجل حدوة الحصان وهذه مهمة من أجل سلامة الفارس وكسب المعركة معا .. ويقومون بالعمل بروح فيها حماس وجدية وهي مسائل مطلوبة جدا لكل جهد أو عمل أو إبداع .. يعتزون بوطنهم وقيادتهم الحالية ويدركون جيدا أنهم يتكئون على تاريخ عريق وحضارة أعرق تجيز لهم أن يكون قائد الاقتصاد العالمي ومقطورته الرئيسية ..
.. أشهد أنني رأيت بأم عيني عمال نظافة يزيلون ما يعتبرونه “قمامة” بـ”الملقاط”, وليس بالكريك كما يحصل لدينا, والسر في هذا بسيط جدا فهم يدركون جدياٍ أنه لو رمى كل صيني بعقب سيجارة أو وعاء آيسكريم أو دبة ماء فارغة لتحولت مدن الصين إلى صناديق .. ولو نبشت القطط والباحثون عن البلاستيك أكياس القمامة كما يجري عندنا لكانت أحياؤهم عبارة مكبات نفاية لا أكثر ولا أقل ..!
.. هناك تملأ عينيك باللون الأخضر المسكوب من الأشجار والعشب المنثور على جوانب الطريق وبين الشوارع وعلى ضفاف الجسور والأنهار على السواء .. ترى في وقت مبكر مع الفجر أقواما يتحركون لأعمالهم المتصلة بتسقية الأشجار والأزهار المزروعة على الأرصفة أو تلك التي في باطن الأوعية الخاصة أو يسمى في الريف عندنا “أجوال” .. ومع اشتداد حرارة الشمس ظهرا تصادفك سيارات خاصة ترش الماء بلطف ونظام على الشوارع فتخفف على إسفلت الشوارع لهيب الشمس وهو الفعل الذي يجعلك تنتعش لانتعاش المكان بعد الماء , ولأن الشوارع هناك نظيفة من أكوام القمامة أو الأكياس المتطايرة أو الأتربة المتكدسة فان الشارع يتحول إلى لوحة سوداء راوية المحيا نظيفة الطلعة فلا شقوق ولا حفر تنغص بالها ولا مطبات تشوه جمالها .. الكثير من الأشياء تمضي بصورة طبيعية وبانسجام يحكي قصة تخطيط ورعاية وحركة لتجميل المدينة وكأنها منزل خاص تعود ملكيته لمالك “ذواق”..
.. ومن ما يلفت أن الدولار الأمريكي مغمور السمعة والقيمة عند العامة وإذا لم تحوله قبل الشراء إلى العملة المحلية “اليوان” النظيف والأنيق فإن الدولار لا يعني للكثير منهم أكثر من مجرد ورقة خضراء لا تختلف كثيرا عن أية أوراق ..!
.. ورغم ما قد يبدو على الصيني من وجه عابس إلا أنك تكتشف مع افتتاح الكلام أن الأمر مختلف .. وهم أمة محافظة ترى الحكومة من أوجب واجباتها حماية المجتمع من الأفكار الهدامة أو الثقافات المسمومة القادمة عبر الانترنت أو الأقمار الاصطناعية ولذلك تجد نفس الحكومة في كل شيء تقريباٍ .. يهمهم نظافة الشارع وانتشار النظام وسير أمواج البشر والمركبات بصورة طبيعية تدعم خطط البلد في اقتصاد ضخم ومتنوع وبناء قوة اقتصادية وسياسية وثقافية وعسكرية تؤهل هذا التنين لأخذ مكانه بين الكبار جدا قبل أن يبدأ بمزاحمتهم على قمرة القيادة نفسها .. تجد جيل الشباب فيهم يعرفون الكثير عن البلدان غيرهم حتى تلك البلدان التي لا أثر عالمياٍ لها .. وتلمس أن لديهم قيادة سياسية تجد في الشرق الأدنى والأقصى كما في آسيا غربا وفي إفريقيا الكثير مما يمكن عمله وتناوله بدلا من الشدوه الأبله نحو الغرب والعم سام تحديدا .. قيادة فتحت أعينها على العالم أجمع بنظر ثاقب باحث عن الفرصة البكر والشراكة الذكية , ومكنت الهواء النقي من الدخول إلى رئة الحكومة وفتحت نوافذ مؤسساتها على شمس العالم ومدت أذرعتها لكل مبدع من روسيا إلى الهند إلى جنوب إفريقيا إلى البرازيل .. هذا كله قدم للعالم الصين الجديدة التي بدأت البناء الاستراتيجي منذ أربعة عقود شكلت التحول الكبير في عقل وجسد هذا الكائن الضخم في إمكانياته وقدرته وإبداعه ..
.. الطعام الصيني لا زال مشكلة بالنسبة للكثيرين حول العالم غير مثير للعاب لما يحويه من غريب وعجيب رغم احتوائه على الفائدة والصحة إلا أن المطبخ الصيني أصبح حول العالم مائدة مميزة فيها الكثير من التميز والصحة والاحترافية خصوصا في دول أوروبا وأمريكا ودول الشرق الآسيوي .. مقلون في أكل السكر والملح لكن الخضرة والأسماك وأحياء البحر والبر كلها مكونات للأكلات ..

ومشهد توديع ضروري
.. قلت للمدينة التاريخية وداعا وأرسلت قبلة إعجاب على وجنتي هذا البلد الذي يحترم أهله ويعرف نفسه .. قلت له وداعا وأنا أودع الشرق الصيني كما قلتها قبل ذلك قبل خمسة أعوام من الجنوب الصيني .. عشقت في الصين الكثير دون أن أجد نفسي قريبا من أعظم ميراث حضاري لهم المتمثل في سور الصين يكنك حين تزور بلدا بهذا البهاء يكون عليك من السهل أن تقرأ باقي القصيدة حتى دون أن يكون لك نسخة منها كونها قصيدة طويلة جدا فيها الكثير من الإبداع والأكثر من العمل الجاد والحركة المنتجة والرؤية الواضحة للمستقبل وللإنسان معاٍ..

قد يعجبك ايضا