الهجرة ومستقبل الأمة‮ ‬

كلنا‮ ‬يعلم أن العام الهجري‮ ‬الجديد صاحب أعمارنا منذ أيام‮ ‬ويكثر دائماٍ‮ ‬الوقوف عند مثل هذا التاريخ لجوانب كثيرة‮ ‬يمكن أن تذكر ويمكن أن ترتبط بأحداث في‮ ‬سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وفي‮ ‬مقدمتها الهجرة‮ ‬والانصراف عن هذا الحدث دون التذكير به مما لاينبغي‮ ‬كون معجزات حدث الهجرة ماثلة تتجدد في‮ ‬شمولية هذا الدين بما جاء في‮ ‬كتابه المبين وما كان من أحداث سيرة المصطفى الأمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين‮ ‬وهو التجدد والشمول لكل مناحي‮ ‬الحياة الممتدة عبر كل العصور والأزمان‮ ‬ومن ثمِ‮ ‬أجد أننا نحتاج مرة أخرى إلى وقفات كثيرة علنا في‮ ‬هذا المقام أن نستجلي‮ ‬أكبرها وأعظمها وأبرزها‮.‬
الهجرة عنوان لأمة الرسالة‮ ‬يوم كان المثل الأعظم والقدوة الأولى رسول الله صلى الله عليه وسلم‮ ‬يجسد أمانة الرسالة التي‮ ‬تجعل المرء‮ ‬يصبغ‮ ‬حياته كلها في‮ ‬شتى جوانبها برسالته‮ ‬يربطها بها‮…. ‬ففيها‮ ‬يفكر ولأجلها‮ ‬يبذل وفي‮ ‬سبيلها‮ ‬يتحمل الأعباء‮ ‬ولأجلها‮ ‬يترك الراحة‮ ‬هكذا في‮ ‬كل مناحي‮ ‬حياته عليه الصلاة والسلام‮.‬
من هنا كان النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم حركة دائبة ونموذجاٍ‮ ‬متصلاٍ‮ ‬برسالته في‮ ‬كل شيء وفي‮ ‬كل شأن‮ ‬وليس الأمر متصلاٍ‮ ‬أو مرتبطاٍ‮ ‬ومتعلقاٍ‮ ‬به وحده‮ ‬فقد صاغ‮ ‬أمة الرسالة‮ …‬فلو أردنا أن نستعرض أصحابه وأن نرى المجتمع والأمة التي‮ ‬رباها وأنشأها على عينه لرأيناها أمة رسالة‮ ‬هذا أبو بكر الصديق رضي‮ ‬الله عنه منذ أن اتصل بالرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام فآمن وأسلم تحوِلت حياته كلها‮ ‬ماله أنفقه في‮ ‬عتق الرقاب فأعتق سبعة من أهل الإسلام‮ ‬كل فدائه وتضحيته كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ضْرب وحرفت النعال في‮ ‬وجهه وحْمل ما‮ ‬يشك في‮ ‬موته رضي‮ ‬الله عنه وأرضاه‮ ‬ثم اختار الرفقة في‮ ‬الرحلة المخوفة المهولة في‮ ‬هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم‮ ‬ولو أردت أن تمضي‮ ‬في‮ ‬ومضة من ومضات الهجره لوجدت صهيباٍ‮ ‬الرومي‮ ‬الذي‮ ‬تحولت حياته كلها من عبوديته وصناعته وماله وثروته ليجعلها كلها حياة دعوته ورسالته وأمانته حتى إذا حوصر أو لوحق قال‮: ‬أرأيتم لو دللتكم على مالي‮ ‬لكنتم تاركيِ¿ قالوا‮: ‬نعم‮ ‬فدلهم على ماله كله‮ ‬والتقاه النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم وهو‮ ‬يقول‮: “‬ربح البيع أبا‮ ‬يحيى‮ ‬ربح البيع أبا‮ ‬يحيى‮”‬‮ ‬وبلال وصهيب وغيرهم وغيرهم‮ ‬من كل أصحاب النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم‮ ‬بل الرجال والنساء‮ ‬بل حتى الصغار والأطفال‮ ‬كانت الرسالة هي‮ ‬التي‮ ‬تحرك هذه الحياة وتبعث كل ما‮ ‬يتعلق بالإنسان من مشاعر وده وبغضه وولائه وبرائه ووصله وقطعه‮ ‬كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم‮: “‬إن أوثق عرى الإيمان الحب في‮ ‬الله والبغض في‮ ‬الله‮”‬‮ ‬هكذا تعطينا الهجرة نموذج أمة الرسالة لأن ذلك هو الذي‮ ‬يْبنى عليه كل ما ترتب من أوجه العز والنصر والتمكين‮.‬
وصورة أخرى ترتبط بذلك اليقين والإصرار رغم كل الظروف الصعبة‮ ‬رغم كل الأذى المتعاظم‮ ‬رغم كل الحصار المحكم‮ ‬كان النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم وأصحابه‮ ‬يحملون في‮ ‬قلوبهم إيماناٍ‮ ‬ويقيناٍ‮ ‬يجعل أملهم لا‮ ‬ينقطع‮ ‬ويجعل ثقتهم لا تتزعزع‮ ‬ويجعلهم واثقين بنصر الله سبحانه وتعالى فيعطيهم ذلك زاداٍ‮ ‬وقوة تجعلهم لا‮ ‬يفترون ولا‮ ‬يقعدون‮ ‬تجعلهم لا‮ ‬يلينون ولا‮ ‬يضعفون‮ ‬لأن النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم كما نعلم دعا في‮ ‬مكة ودعا قريشاٍ‮ ‬ودعا القبائل‮ ‬وكان‮ ‬يدعو الناس عندما‮ ‬يأتون في‮ ‬المواسم للحج‮.‬
وأقف هنا في‮ ‬صوره الرفقة للنبي‮ ‬والصديق في‮ ‬الهجرة وتخيلناها لرجلين مطاردين وأربعة أقدام تغذ الخطى في‮ ‬صحراء قاحلة وفي‮ ‬رؤية ليس فيها شيء من الوضوح‮ ‬كان ذلك النبي‮ ‬الأعظم والصديق الأكبر بهذه الخطى في‮ ‬تلك المسيرة قضى الله جل وعلا أن‮ ‬يتغير وجه التاريخ وأن تتجدد صفحاته‮ ‬وأن‮ ‬يْعلن من بعد ذلك إقامة مجتمع ودولة وأمة‮ ‬وأن تنفتح الدنيا شرقاٍ‮ ‬وغرباٍ‮ ‬وأن ترفرف راية الإسلام لتعم معظم أنحاء المعمورة‮ ‬من كان‮ ‬يصدق¿ من كان‮ ‬يظن¿ لكن الأمل في‮ ‬الله واليقين الراسخ في‮ ‬نصره كان‮ ‬يحدو إلى أداء الأمانة وإنفاذها‮ ‬وإلى التماس كل طريق بلا‮ ‬يأس‮.‬
ومن بعد ذلك جاء البناء والتأسيس عندما وضع النبي‮ ‬أقدامه في‮ ‬المدينة‮ ‬أسس الصلة بالله ببناء المسجد‮ ‬وأسس الصلة بين المسلمين بالأخوة التي‮ ‬كانت فريدة في‮ ‬تاريخ البشرية من الألفة والقوة والتآلف والتحاب فيما سطرته الآيات القرآنية وأثبتته الأحداث في‮ ‬سيرة النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم‮ ‬وأرسى دعائم ما‮ ‬يْعرف أو ما‮ ‬يقال اليوم ويختلف حوله في‮ ‬الدولة المدنية والمواطنة لكل من‮ ‬يقطنون في‮ ‬أرض‮ ‬يحكمها الإسلام‮ ‬وأقام النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم ذلك كله ولازالت الرسالة وأمانتها هي‮ ‬الجوهر والمحور‮ ‬وما زال اليقين والأمل في‮ ‬النصر هو القائد وهو الباعث على القوة والإصرار والاستمرار‮ ‬وما زال النموذج‮ ‬يتحرك في‮ ‬صورة حية كما أراد النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم واجتهد في‮ ‬عمله‮.‬
وأختم هذا المقام حتى لا نظن أن الأمر قد انقضى‮ ‬وأن التاريخ قد طويت صفحاته إلى‮ ‬غير رجعة‮ ‬وأن الهجرة قد انتهت‮ ‬فإنما انتهى أمرها في‮ ‬صورة من صورها‮… ‬هجرة من مكة إلى المدينة كانت هجرة واجبة كانت إلى حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم‮ ‬لكن الهجرة بمعناها الواسع بمعناها العظيم ما زالت كما قال النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم‮: “‬لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة‮ ‬ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها‮” (‬رواه أحمد في‮ ‬مسنده‮)‬‮ ‬والمجتمع المسلم اليوم‮ ‬يحتاج إلى حفظ الحديث الذي‮ ‬له روايات متعددة ومنها رواية عند الإمام أحمد في‮ ‬مسنده طويلة‮: “‬ألا أخبركم من المسلم¿ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده‮ ‬والمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم‮ ‬والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب‮ ‬والمجاهد من جاهد نفسه في‮ ‬طاعة الله‮” (‬رواه الطبراني‮ ‬والحاكم في‮ ‬مستدركه وصححه‮)‬‮ ‬والخاتمة المطلوبة لنا جميعا أن نفقة معنى ‬الهجرة لنا كأفراد¿ ومعنى الهجرة لنا كجماعة ¿ لكي‮ ‬تتجدد من بعد كل تلك الأسباب من الفرج والنصر المجزوم به بإذن الله عز وجل‮.‬
نسأل الله سبحانه وتعالى أن‮ ‬يردنا إلى دينه رداٍ‮ ‬جميلاٍ‮ ‬وأن‮ ‬يجعلنا به واثقين وعليه متوكلين وإليه داعين ومتضرعين‮ ‬ونسأله سبحانه وتعالى أن‮ ‬يعجل فرج أمتنا إنه سميع مجيب‮.‬

قد يعجبك ايضا