كلنا يعلم أن العام الهجري الجديد صاحب أعمارنا منذ أيام ويكثر دائماٍ الوقوف عند مثل هذا التاريخ لجوانب كثيرة يمكن أن تذكر ويمكن أن ترتبط بأحداث في سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وفي مقدمتها الهجرة والانصراف عن هذا الحدث دون التذكير به مما لاينبغي كون معجزات حدث الهجرة ماثلة تتجدد في شمولية هذا الدين بما جاء في كتابه المبين وما كان من أحداث سيرة المصطفى الأمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وهو التجدد والشمول لكل مناحي الحياة الممتدة عبر كل العصور والأزمان ومن ثمِ أجد أننا نحتاج مرة أخرى إلى وقفات كثيرة علنا في هذا المقام أن نستجلي أكبرها وأعظمها وأبرزها.
الهجرة عنوان لأمة الرسالة يوم كان المثل الأعظم والقدوة الأولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يجسد أمانة الرسالة التي تجعل المرء يصبغ حياته كلها في شتى جوانبها برسالته يربطها بها…. ففيها يفكر ولأجلها يبذل وفي سبيلها يتحمل الأعباء ولأجلها يترك الراحة هكذا في كل مناحي حياته عليه الصلاة والسلام.
من هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم حركة دائبة ونموذجاٍ متصلاٍ برسالته في كل شيء وفي كل شأن وليس الأمر متصلاٍ أو مرتبطاٍ ومتعلقاٍ به وحده فقد صاغ أمة الرسالة …فلو أردنا أن نستعرض أصحابه وأن نرى المجتمع والأمة التي رباها وأنشأها على عينه لرأيناها أمة رسالة هذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه منذ أن اتصل بالرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام فآمن وأسلم تحوِلت حياته كلها ماله أنفقه في عتق الرقاب فأعتق سبعة من أهل الإسلام كل فدائه وتضحيته كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ضْرب وحرفت النعال في وجهه وحْمل ما يشك في موته رضي الله عنه وأرضاه ثم اختار الرفقة في الرحلة المخوفة المهولة في هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ولو أردت أن تمضي في ومضة من ومضات الهجره لوجدت صهيباٍ الرومي الذي تحولت حياته كلها من عبوديته وصناعته وماله وثروته ليجعلها كلها حياة دعوته ورسالته وأمانته حتى إذا حوصر أو لوحق قال: أرأيتم لو دللتكم على مالي لكنتم تاركيِ¿ قالوا: نعم فدلهم على ماله كله والتقاه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: “ربح البيع أبا يحيى ربح البيع أبا يحيى” وبلال وصهيب وغيرهم وغيرهم من كل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بل الرجال والنساء بل حتى الصغار والأطفال كانت الرسالة هي التي تحرك هذه الحياة وتبعث كل ما يتعلق بالإنسان من مشاعر وده وبغضه وولائه وبرائه ووصله وقطعه كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: “إن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله” هكذا تعطينا الهجرة نموذج أمة الرسالة لأن ذلك هو الذي يْبنى عليه كل ما ترتب من أوجه العز والنصر والتمكين.
وصورة أخرى ترتبط بذلك اليقين والإصرار رغم كل الظروف الصعبة رغم كل الأذى المتعاظم رغم كل الحصار المحكم كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يحملون في قلوبهم إيماناٍ ويقيناٍ يجعل أملهم لا ينقطع ويجعل ثقتهم لا تتزعزع ويجعلهم واثقين بنصر الله سبحانه وتعالى فيعطيهم ذلك زاداٍ وقوة تجعلهم لا يفترون ولا يقعدون تجعلهم لا يلينون ولا يضعفون لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما نعلم دعا في مكة ودعا قريشاٍ ودعا القبائل وكان يدعو الناس عندما يأتون في المواسم للحج.
وأقف هنا في صوره الرفقة للنبي والصديق في الهجرة وتخيلناها لرجلين مطاردين وأربعة أقدام تغذ الخطى في صحراء قاحلة وفي رؤية ليس فيها شيء من الوضوح كان ذلك النبي الأعظم والصديق الأكبر بهذه الخطى في تلك المسيرة قضى الله جل وعلا أن يتغير وجه التاريخ وأن تتجدد صفحاته وأن يْعلن من بعد ذلك إقامة مجتمع ودولة وأمة وأن تنفتح الدنيا شرقاٍ وغرباٍ وأن ترفرف راية الإسلام لتعم معظم أنحاء المعمورة من كان يصدق¿ من كان يظن¿ لكن الأمل في الله واليقين الراسخ في نصره كان يحدو إلى أداء الأمانة وإنفاذها وإلى التماس كل طريق بلا يأس.
ومن بعد ذلك جاء البناء والتأسيس عندما وضع النبي أقدامه في المدينة أسس الصلة بالله ببناء المسجد وأسس الصلة بين المسلمين بالأخوة التي كانت فريدة في تاريخ البشرية من الألفة والقوة والتآلف والتحاب فيما سطرته الآيات القرآنية وأثبتته الأحداث في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأرسى دعائم ما يْعرف أو ما يقال اليوم ويختلف حوله في الدولة المدنية والمواطنة لكل من يقطنون في أرض يحكمها الإسلام وأقام النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كله ولازالت الرسالة وأمانتها هي الجوهر والمحور وما زال اليقين والأمل في النصر هو القائد وهو الباعث على القوة والإصرار والاستمرار وما زال النموذج يتحرك في صورة حية كما أراد النبي صلى الله عليه وسلم واجتهد في عمله.
وأختم هذا المقام حتى لا نظن أن الأمر قد انقضى وأن التاريخ قد طويت صفحاته إلى غير رجعة وأن الهجرة قد انتهت فإنما انتهى أمرها في صورة من صورها… هجرة من مكة إلى المدينة كانت هجرة واجبة كانت إلى حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن الهجرة بمعناها الواسع بمعناها العظيم ما زالت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها” (رواه أحمد في مسنده) والمجتمع المسلم اليوم يحتاج إلى حفظ الحديث الذي له روايات متعددة ومنها رواية عند الإمام أحمد في مسنده طويلة: “ألا أخبركم من المسلم¿ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله” (رواه الطبراني والحاكم في مستدركه وصححه) والخاتمة المطلوبة لنا جميعا أن نفقة معنى الهجرة لنا كأفراد¿ ومعنى الهجرة لنا كجماعة ¿ لكي تتجدد من بعد كل تلك الأسباب من الفرج والنصر المجزوم به بإذن الله عز وجل.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداٍ جميلاٍ وأن يجعلنا به واثقين وعليه متوكلين وإليه داعين ومتضرعين ونسأله سبحانه وتعالى أن يعجل فرج أمتنا إنه سميع مجيب.
قد يعجبك ايضا