سرعة الحسم وانهيار صفوف المرتزقة جنّبا المدينة عواقب استمرار المواجهات
حزم الجوف.. عودة الحياة بعد ساعات من المعركة
مواطن :”الوضع عندنا على ما يرام ولم تتأثر أعمالنا إلا إلى الأفضل”
مدرسّ: “حسم المعركة في يومين جعل مواصلة الدراسة أمراً طبيعياً”
على عكس كل التوقعات، بدت مدينة الحزم – عاصمة محافظة الجوف – في لحظات مخاضها الأولى بكراً تعج بالحياة، وهي تستقبل الثوار القادمين من صنعاء، بعد سنوات من احتلالها، صرخات الجيش واللجان الشعبية والزوار وحتى بعض الأهالي كانت حاضرة تملأ أجواء المدينة التي لم يتغير فيها شيء سوى إقفال بعض المحلات التجارية خوفاً من آثار معركة ما إن بدأت حتى سجل اليمنيون نهايتها بعودة المدينة إلى أهلها في أسرع عملية تحرير لمدينة بكاملها في تاريخ اليمن المعاصر.
الثورة / عبدالقادر عثمان
ساعات معدودة تمكن خلالها الجيش واللجان الشعبية من دخول المدينة وانتزاعها من أيدي مقاتلي تحالف العدوان على اليمن، من مليشيات حزب الإصلاح ومجندي هادي (الذي فر في العام 2015م إلى المملكة بعد تقديم استقالته) وتأمينها لكل القادمين من صحافيين وزوار وعائدين من رحلة نزوح تقطعت بهم السبل لسنوات في مخيمات لم تَقِهم حر الصيف أو تحمهم من برد الشتاء ولم توفر لهم الحياة الكريمة.
خلال اللحظات الأخيرة للمعركة في الحزم، كنّا في طريقنا إلى المدينة ضمن فريق صحافي مكوَّن من رئيس التحرير وسكرتير التحرير ومصوّر إلى جانبي، وبرفقتنا إداريان أحدهما من مؤسسة “الثورة” والآخر من الهيئة الإعلامية لأنصار الله، حُشرنا في سيارة مرتفعة تسير بسرعة هائلة، لكأن الرئيس يحاول اللحاق بالإعلام الحربي لالتقاط صور حية من المواجهات، أو يفر من أي استهداف جوي من قبل طائرات التحالف التي تلاحق المارين عبر الطريق الذي سلكناه، هكذا تسللت بعض الافتراضات إلى عقلي.
بعد مفرق الجوف
بالوصول إلى مفرق الجوف في مديرية مجزر بمحافظة مارب، انحسر بنا الطريق شمالاً باتجاه مدينة براقش الجديدة ومن ثم مدينة الخلق في الغيل وصولاً إلى الحزم، تغيَّرت مع ذلك درجة حرارة الجو ومظاهر الحياة، وحتى طبيعة الأرض من منحدرات جبال نهم إلى سهول مارب والجوف، وزادت سرعة الانطلاق، على أن كل المعطيات تشير إلى أن المعارك التي دارت خلال الأيام القليلة الماضية شهدت تحوّلاً كبيراً في موازين القوى بين الجيش واللجان الشعبية من جهة وقوات تحالف العدوان من جهة أخرى، مكّنت الأول من إجبار الأخير على التراجع للخلف بعد تراخي صفوفه، في فترة زمنية بسيطة أسهمت في الخروج بأقل قدر من الخسائر المادية والبشرية في قرى المناطق الواقعة على طريق المواجهات.
رغم ذلك، كانت جدران بعض المنازل ذات الطابع المعماري الجوفي الفريد (مبنيَّة من اللّبْن) محتفظة بآثار المواجهات والبعض الآخر مهدمة بكاملها بغارات الطيران السعودي الإماراتي، وعلى جدران الكثير منها رسوم غرافيتية تحمل في ملامحها آيات الشكر والثناء لقيادات العدوان على اليمن، وعبارات الويل والثبور لمن لم يسمحوا بدخول المحتل السعودي والإماراتي والأمريكي إلى صنعاء، وقدموا في سبيل ذلك كل شيء.
عودة الدراسة
في إحدى قرى مديرية الغيل توقفنا للصلاة، كانت الشمس رأسية، وكنّا نشاهد بعض الأهالي يتجولون في القرية كأن شيئاً لم يكن، وكان مرتزقة التحالف يلفظون انفاسهم الأخيرة في مبنى محافظة الجوف في مجمع الحزم شمال المدينة، بينما راح بعض رفاقي يتناولون أقراص البسكويت من إحدى بقالات القرية (متجر لبيع المواد الغذائية بالتجزئة)، واتجهت أنا صوب أحد السكان لاستفساره عن حال القرية خلال الأيام التي عاشتها في المعركة وحجم الضرر، والذي يعمل معلماً في مدرسة القرية، وهو من محافظة إب وسط اليمن فقال لي “المواجهات التي شهدتها المنطقة خلال اليومين الماضيين، أوقفت على إثرها العملية التعليمية بشكل مفتوح حتى انتهاء الاشتباكات”، ويضيف إن “حسم المعركة في يومين وابتعادها عن القرية جعل مواصلة الدراسة أمراً طبيعياً يجب البدء به من الغد (الإثنين 3 مارس)، وقد أبلغنا الطلاب بذلك؛ لأن الوضع عاد إلى الهدوء بشكل كلي، ولم يعد هناك ما يقلق الأهالي على أبنائهم”.
الحياة في الحزم
غادرنا القرية باتجاه الحزم، وعاد الطريق يحكي لنا قصص الذين هزموا وهم يحاولون تقديم صنعاء هدية للتحالف العدواني؛ جزاء ما فعلته أسلحته بأبناء جلدتهم، في المدينة العاصمة، المطاعم ممتلئة، المقاصف والصيدليات والبقالات وحتى الاتصالات ومحلات الميكانيك وأدوات البناء تفتح أبوابها للجميع، والملبوسات تتدلى على أبواب مراكزها التجارية.
سكان يمارسون حياتهم الطبيعية ويتنقلون في شارع المدينة الرئيسي وأزقتها بشكل اعتيادي لا يخلو من القلق؛ إذ لم تمر سوى ساعات قليلة على المعركة، وتجّار “يقصدون الله” في أعمالهم، بينما أغلق آخرون محلاتهم التجارية واتكأوا على بعد فراسخ منها ينظرون إلينا ومنهم من يرفع يده ليحيي القادمين، وآخرون غيرهم أغلقوا تجارتهم ولم نر لهم أثراً، لربما أغلقوا عليهم ديارهم أو أن الإشاعات التي روَّج لها من كانوا في المدينة عن الثوار زوراً دفعتهم إلى النزوح، ولجان أمنية توزعت على المدينة لتأمينها.
وسط المدينة
كانت الحزم تعج بالرجال، فتَّشنا عن مكان نتناول فيه وجبة الغداء غير أن معظم المطاعم بدأت تشطيب ما بعد العمل، باستثناء احد المطاعم فقط كان لا يزال يفتح أبوابه، وكنا نحن وفرق صحافية أخرى من صحف وإذاعات وقنوات محلية ودولية وزوار، آخر مرتاديه لذلك اليوم، كان “يوما اعتياديا” كما يقول صاحب مطعم الراسني وسط المدينة، ويضيف لـ “الثورة”: “الوضع عندنا على ما يرام، بالنسبة لعملنا لم يتغيرَّ إلا إلى الأفضل، وبفضل الله ازداد فوق العمل عمل”، مشيراً إلى أن “دخول أنصار الله الحزم كان متوقعاً بعد معركة نهم، ولأنني أعرف أخلاقهم من خلال زياراتي لصنعاء لم ننزح أو نغلق المطعم خاصة عندما رأينا المعركة تتسارع إلى النهاية”.
من جانبه يقول عبدالحكيم غانم، ميكانيكي سيارات: ” المعركة بدأت وانتهت بسرعة دون أن تترك أثرًا في المدينة، وأنه لم يغلق حتى بوابة المحل”، ويضيف في حديث لـ “الثورة”: “هناك نازحون بسبب قصف الطيران على بعض المنازل فقط”.
في الوقت ذاته كانت بعض عربات النقل المتوسطة تمضي في اتجاهات متعاكسة محملة بأثاث النازحين، العائدين من خارج المدينة والخارجين منها خوفًا من استهداف طيران العدوان لمنازلهم.
توزيع الزكاة
الهيئة العامة للزكاة هي الأخرى كانت حاضرة في الحزم لمكافأة المرابطين في محور “صنعاء –مارب- الجوف” والمشاركين في عملية “البنيان المرصوص” التي بدأت في نهم صنعاء قبل أكثر من شهر، بقافلة نقدية قدرها “400 مليون ريال”، كما يقول وكيل الهيئة العامة للزكاة علي السقاف، ويضيف لـ “الثورة”: “هذا أقل واجب نقدمه لهؤلاء الأبطال، وهم يقدمون أرواحهم من أجل أن يعيش المواطن اليمني في أمن وأمان”، مؤكداً في الوقت ذاته أن القافلة ستستكمل أعمالها عبر “مؤسسة يمن ثبات” لتشمل 20 ألف مرابط في المحور.
من جانبه يقول ممثل المؤسسة، يحيى القحوم: أن “هذه القافلة تأتي هدية للمرابطين بمناسبة النصر الذي حققوه في العملية”.
وبدأت عملية “البنيان المرصوص” في يناير الماضي بعد تصعيد التحالف وقواته في نهم، وتستمر حتى اليوم بعد تمكن اليمنيين من استعادة نهم والجوف وأجزاء كبيرة من مارب، كانت آخر معاركها في الغيل والحزم، حيث أدى انهيار صفوف قوات تحالف العدوان من جهة وتطور إمكانيات الجيش واللجان إلى حسم المعركة في المدينتين خلال ساعات.
مجمع المحافظة
في مجمع الحزم ثمة حكايات يسكنها الرعب؛ ففيه دارت آخر معارك المدينة، التحصينات تعتلي الأسوار والمعدات معطوبة أو تالفة والبزة العسكرية مهانة على الأرض بعد أن تناسى أصحابها المال والمشاريع الخارجية وهانت عليهم شرعيتهم المزعومة أمام أرواحهم التي لا مجال لنجاتها إن ظلوا متمسكين بكل ذلك الوهم، انهارت معنوياتهم التي تدعمها أحدث الصناعات العسكرية لدول العالم العظمى، تلاها انهيار صفوفهم، فولُّوا هاربين.