وجدي الأهدل
من أين نحصل على القصص؟ إنه السؤال الذي يؤرق الكُتَّاب منذ القدم، وسيظل كذلك حتى انقراض آخر فرد من أفراد الجنس البشري.
في الكون الشاسع، ربما توجد العديد من الكائنات العاقلة، ولعل بعضها أكثر ذكاءً من الإنسان، ولكن المؤكد أن الإنسان لديه ميل فطري لا يُقاوم إلى “القصة”، إن لديه احتياجاً ماساً إلى القصص، يكاد يوازي حاجته إلى الماء والغذاء والهواء.
من المحتم أن الإنسان لا يستطيع أن يمضي قدماً في الحياة دون قصة تشرح له من يكون ومن أين أتى وإلى أين سيمضي.. وهذا هو الفارق الجذري بينه وبين سواه من المخلوقات.
والبشر نوعان: النوع الأول يؤلف القصص، وهؤلاء هم المبدعون الخلاقون، والنوع الثاني يستمع أو يقرأ القصص، وهؤلاء هم السواد الأعظم من البشرية.
إن الإنسان الذي يُعلنُ إنه ليس بحاجة إلى “قصة” عن وجوده هو آلة وليس إنساناً، وهو أيضاً يضع نفسه دون أن يشعر في مرتبة أدنى من غيره، متساوياً في مرتبته مع الحيوانات.
كل القصص والروايات التي تمتلئ بها أرفف المكتبات، إنما الهدف منها أن تُعطي للإنسان فكرة أو صورة عن “وجوده”.
ويبدو أن مدَّ البشر بما يحتاجونه من “قصص” قد تعاظم في العصر الحديث، بحيث يتطلب الأمر دفع مقابل مادي لمن ينهض بمهمة إنتاج “القصص”، وهي المهمة التي كانت تطوعية في الماضي، مع تحفظنا وحذرنا في القول إنها كانت “تطوعية” لأن هناك استثناءات قد تثير الدهشة.
حازت الروائية وكاتبة السيناريو البريطانية جوان رولينغ مؤلفة قصص “هاري بوتر” على ثروة تزيد عن المليار دولار. وضخامة الرقم تشير إلى ما قد يُبديه البشر من تعلق بقصة ما، وحين نتأمل نجد أن البشر قد دفعوا مبلغ مليار دولار مقابل لا شيء تقريباً.. فالناس يشترون “الخيال”.
إن التوصل إلى فكرة قصة تجذب اهتمام أكبر عدد ممكن من البشر ليست بالأمر الهيّن، وتحتاج إلى كدح عقلي مضنٍ، وعزيمة لا تلين إلى حين الإمساك بتلك الفكرة التي لم يسبق لها مثيل.
قد يتباهى أحدهم أنه يستطيع إيجاد عدد لا يحصى من الأفكار التي تصلح أن تكون قصصاً، ولكنه مشغول بأمور أخرى ولا يجد وقت الفراغ ليمارس شيئاً كهذا.. إن هذا الشخص يشبه ذاك الخامل الكسول الذي يزعم أنه قادر على تكوين ثروة بسهولة لو أراد، ولكنه لا يرغب بذلك.
إن “الأفكار” التي تصلح أن تكون قصصاً كثيرة جداً، ويمكن حتى الحصول عليها من الجرائم التي تنشر الصحف أخبارها يومياً، ولكن هناك القليل جداً من تلك “الأفكار” التي تصلح بالفعل مادة لقصة جيدة.
إن التوقيت عامل حاسم، فهناك فكرة قصة قد تكون جيدة قبل مائة عام، ولكنها اليوم لم تعد صالحة لأن تُكتب، وهناك فكرة قصة قد لا يستجيب لها المزاج العام.. بينما قد نجد فكرة أخرى تتوافق تماماً مع مزاج عصرها.
إن الكاتب الجيد هو من يمتلك حساسية فنية عالية وحدساً قوياً بحاجات الجماعة البشرية، بحيث يستطيع تمييز “الأفكار” الصالحة للحياة على الورق.
إنه لأمر مستهجن أن تكون كتابة المؤلف في وادٍ واهتمامات المجتمع في وادٍ آخر.. وحينما يُلفي المؤلف نفسه وحيداً، قد يتعالى على المجتمع ويقول إنما هو يكتب لإرضاء ذاته! وهذه مغالطة، ومحاولة بائسة للتغطية على فشله في الوصول إلى الناس.
إن الكتابة ليست موجهة للكاتب، ولكنها موجهة لعدد غير حصري من البشر، وهذا يستوجب من المبدع أن يختار بدقة شديدة وعناية بالغة “الفكرة” التي سوف يعمل عليها، ويُقدمها كوجبة دسمة للأدمغة البشرية النهمة للقصص.