بريطانيا تفاجأت بحنكة وكفاءة وفد الجبهة القومية المفاوض


مثل انتصار ثورة 1952 م بمصر وبروز الرئيس جمال عبد الناصر قائدا للثورة والأمة العربية شراره ثورات الاستقلال العربي ضد السياسة الاستعمارية في المنطقة التي رافقها اشتداد الرفض الشعبي العام وهو انتصار أفضى إلى بزوغ ثورتي الـ 26 من سبتمبر عام 1962م و الــ 14 من أكتوبر عام 1963م بقيادة الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل سبقها إرهاصات تاريخية هامة وتصاعدت إثرها عمليات النضال الوطني بكل وسائله مجبرة حكومة الاستعمار البريطاني على الجلوس إلى طاولة المفاوضات التي مثلت بداية المشوار لاستقلال جنوب الوطن في 30 نوفمبر عام 1967م مسدله الستار بذلك على 129 عاما من الاحتلال البريطاني .. 

وفي هذه المساحة نستعرض اهم المحطات التاريخية لمحاضر المفاوضات بين وفدي الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل وحكومة دولة الاحتلال البريطاني التي عقدت في جنيف.. خلال الفترة (21 – 29)نوفمبر 1967م.
محطات تاريخية هامة
استغرقت جلسات المفاوضات الرسمية بين الجبهة القومية والحكومة البريطانية رسمياٍ ثمانية أيام متواصلة وتالف وفد الجبهة من قحطان الشعبي رئيس اللجنة التنفيذية للجبهة القومية رئيساٍ وعضوية سيف أحمد الضالعي فيصل عبداللطيف عبدالفتاح اسماعيل خالد محمد عبدالعزيز وعبدالله صالح عولقي ومحمد احمد البيشي وعضوية المستشارين أحمد علي مسعد (سكرتارية) وعبدالله علي عقبه مترجم فيما ترأس وفد المملكة المتحدة الوزير بلا وزارة شاكلتون وفيها طرحت الجبهة القومية ورقة العمل الخاصة بها والتي تتعلق بسيادة الدولة, وتضمن المفاوضات ملفين الأول يتعلق بالجانب السياسي ويقضي بـ:
– تسليم سيادة الدولة على كافة أجزاء المنطقة وجزرها- الاعتراف بالحكومة الوطنية الجديدة- دخول الدولة الجديدة في عضوية الأمم المتحدة- تحديد يوم الجلاء
– الاتفاقيات السابقة- تبادل التمثيل الدبلوماسي
فيما اشتمل الملف الثاني على القضايا المالية والاقتصادية, وهي:ــ
ـالالتزامات المالية والفنية ــ بقية الأموال المعتمدة في ميزانية 1967ـــ 1968م
ــ تغطية العجز المتوقع في ميزانية 1967ــ 1968م ــ معاشات التقاعد والتعويضات المالية المدفوعة لبعض المواطنين المغتربين المبالغ المعتمدة لخطط التنمية ـــ
تقدير المبالغ المخصصة للتعويضات والتقاعد ــ
المساعدة الفنيةــ المساعدات المالية التي وعدت بريطانيا بتقديمها للبلدــ العملة التجارة.القروض لمشاريع التنمية..الوثائق,التقارير,والدراسات.. المتعلقة بالبلد.
ــ أما الجانب البريطاني فقد قدم ورقة,احتوت على عدد من النقاط أهمها تشكيل الحكومة, الوفاء بالالتزامات الدولية, تأسيس سفارة, خلافة لقب أراضي التاج, عضوية الأمم المتحدة..
و تحدث اللورد شاكلتون بعد أن بدأت جلسات طويلاٍ وطرح عدة ملاحظات متعلقة بجدول الأعمال, وقد أكد في ختام تلك الملاحظات أن لديه اهتماماٍ شخصياٍ مخلصاٍ وجاداٍ حول مستقبل الجنوب العربي بصرف النظر عن مركزه كعضو في الحكومة البريطانية..
وعبر قحطان الشعبي عن سروره كرئيس لوفد الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل, ومدعو لبحث موضوع استقلال بلاده وقد قال : ” إن وفد بلاده ليست لديه المهارة والخبرة الطويلة في مثل هذه الأمور, وقال كذلك أنه يأمل بأن يتوفر التفاهم المشترك حتى يتمكن من تحقيق مطالب شعبه وبناء عليه فإنه يعتقد بأنه من الممكن التوصل إلى اتفاق في أقرب وقت ممكن..
واضاف أنه وبالرغم من قصر الوقت بالنسبة للطرفين إلا أنه يأمل أن يتوصل إلى اتفاق يمنح الاستقلال لشعبه الاستقلال الذي ظل الشعب يناضل من أجله طيلة حكم الاحتلال, وبرغم حقيقة وقوع الشعب, تحت الاحتلال لفترة طويلة ووصول الجنوبيين إلى مرحلة الكفاح المسلح فإنه يأمل بل ويعتقد بأنه من الممكن البدء في مرحلة جديدة من التعاون والصداقة في ما بين شعبي الجنوب العربي وبريطانيا..
وذكر قحطان الشعبي كذلك : أنه يعتبر بريطانيا مسؤولة أدبياٍ وأخلاقياٍ عن تقديم المساعدة لبلاده حيث أنها ظلت تحتل البلد لفترة طويلة ومع ذلك فإنه من الضروري أن لا تدخل هذه المساعدات في موضوع الاستقلال والسيادة..
مفاوضون ماهرون
بعد أن انتهى قحطان الشعبي من كلامه, عقب اللورد شاكلتون على ذلك بقوله: “أنه بالرغم من أن السيد قحطان الشعبي, أدعى بأن أعضاء وفده ليسوا مفاوضين ماهرين إلا أن ملاحظاته المرتبة والمنظمة تثبت عكس ذلك, وقال أن لدى البريطانيين سببا قويا للتأكد من كفاءة الجبهة القومية..
وقال:أنه متردد في الدفاع عن سجل الاحتلال البريطاني لكونه مواطناٍ ايرلندياٍ, وأن بريطانيا قد أخذت القليل من الجنوب العربي ومع ذلك أنا متأكد من أن السيد قحطان الشعبي لا يود البحث عن الماضي كنقطة وذلك أسوة بما يأملونه من فتح صفحة جديدة مبنية على التفاهم والصداقة.. ومع ذلك فإن الحكومة البريطانية ستساعد الحكومة الجديدة في تطوير البلد وفي الحصول على الاعتراف الدولي.
وأضاف قائلاٍ: إن لديه نقطتين يود توضحيهما في ما يتعلق بملاحظات السيد قحطان الشعبي إذ أقر بأنه بالرغم من أن الجنوب العربي دولة صغيرة وفقيرة إلا أنها أصبحت ذات سيادةº وبناء عليه فقد قيل بأن موضوع المساعدة التي ستقدم من بريطانيا والدول الأخرى والمنظمات الدولية ستكون ذات أهمية كبرى للجنوب العربي ومع ذلك فإنه يشعر بأن المعونة التي استلمت من قبل الجنوب العربي كانت أكثر من المعونة التي استلمتها أية دولة أخرى من بريطانيا..”
وعقب قحطان الشعبي على النقطتين اللتين أثارهما اللورد شاكلتون: ” بأنه بالرغم من أن المعونة التي أعطيت لدولة جنوب اليمن الوليدة قد تكون كبيرة مقارنة مع ما أعطي للدول الأخرى إلا أن الشعب لم يستفد من ذلك استفادة كاملة بسبب التخلف الرهيب للمنطقة, حيث أن أية معونة أعطيت لم تكن إلا عبارة عن نقطة واحدة في محيط.
أما النقطة التي تقول بأن بريطانيا قد أخذت القليل من الجنوب..لا يخفى على اللورد شاكلتون وكذا أعضاء الوفد البريطاني أن الجنوب ظل تحت الاحتلال لمدة 129 عاماٍ وفي هذه الفترة جنت بريطانيا فوائد جمة من الناحيتين الاقتصادية والاستراتيجية وبالإضافة إلى الميناء الدولي فقد كانت قاعدة عدن ذات فائدة كبرى لبريطانيا في أهم مراحل التاريخ العالمي كما أن الجنوب ظل سوقاٍ مفتوحاٍ للمنتجات البريطانية لفترة طويلة..
وقد اقترح اللورد شاكلتون قبل ذلك أن يتم تشكيل هيئة إدارية لبحث جدول الأعمال تعمد إلى مباشرة مهامها بعد استراحة الشاي, على أن تكون من رؤساء الوفدين, بالإضافة إلى واحد أو اثنين من المستشارين كذلك تم الاقتراح بأن يتفق الطرفان على صيغة البلاغ الصحفي الذي سوف يصدر بعد الانتهاء من الاجتماع التمهيدي, أما قحطان الشعبي رئيس وفد الجبهة القومية فقد وافق على مقترح اللورد شاكلتون, وقد أضاف أنه يرى أن يكون البلاغ مختصراٍ ويجب أن يشير إلى تاريخ وموعد الاجتماع وبأنه كان مشجعاٍ ووافق اللورد شاكلتون على هذا الرأي.
كذلك اقترح قحطان الشعبي أن تعد مسودة البلاغ الصحفي من قبل ممثل معين من قبل الجانب البريطاني وآخر من جانب الجبهة القومية على أن يقدم إلى رئيسي الوفدين قبل إعلانه, وبصدد اجتماع الهيئة الإدارية فقد تم من قبل اللورد شاكلتون تعيين كل من المستر مكارثي والمستر مايلز اللذين كانا قد سبق لهما العمل في إدارة المندوب السامي البريطاني بعدن, ومن جانب وفد الجبهة القومية عين قحطان الشعبي كلا من فيصل عبد اللطيف الشعبي, وسيف الضالعي, كذلك اقترح الشعبي أن يتولى الترجمة بين المتفاوضين السيد عبدالله عقبة..
المسألة المالية
ومثلت المسألة المالية في مفاوضات الاستقلال عقبة جديدة في طريق تلك المفاوضات فقد أخلت الحكومة البريطانية بوعودها السابقة للحكومة الاتحادية حيث ربط الوفد البريطاني بين الدعم المالي الممكن تقديمه للحكومة الجديدة وعلاقة حكومته بها وثقة الشعب في بريطانيا في قوة واستقرار الحكومة الجديدة وعبر الوفد البريطاني عن رفضه لمناقشة الدعم الطويل الأمد معتبراٍ غرض تلك المفاوضات انتقال السيادة إلى حكومة الجبهة القومية وإن العروض المالية التي قدمت للحكومة الفيدرالية قد سقطت مع التغييرات اللاحقة في الظروف السياسية الحالية وأقترح الوفد البريطاني على الحكومة الجديدة السعي للحصول على معونات إضافية من مصادر خارجية في الوقت نفسه أكد أن المعونة البريطانية على ثلاث مراحل:
ــ المحافظة على اعتلاء الخزينة حتى ديسمبر 1967م ــ فترة للدفع على الحساب ــ بدء المفاوضات حول العون الطويل الأمد
نقاط الاستقلال المتفق عليها
وأنهى الوفدان اجتماعهما بشأن الاستقلال في 29 نوفمبر 1967م وصدر عن المفاوضات وثيقة استقلال احتوت على المسائل التي تم الاتفاق عليها بين الوفدين وجاء فيها: (أن ينال جنوب اليمن الاستقلال في يوم 30 نوفمبر 1967م وتنشأ دولة مستقلة ذات سيادة تعرف باسم جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية وتقام علاقات دبلوماسية كاملة بين المملكة المتحدة وجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية ابتداءٍ من يوم الاستقلال وتتشاور حكومة لندن وحكومة عدن تصريحا بشأن جميع المعاهدات والاتفاقيات الأخرى التي تنطوي على التزامات دولية وتنظر حكومة الجمهورية في مسألة التقدم بطلب العضوية في الامم المتحدة”.. وصدر عن الوفدين مذكرة مالية جاء فيها “إن الوفدين اتفقا على مواصلة المفاوضات حول المساعدة بعد الاستقلال (ووافق الوفد البريطاني على وجوب استمرار المساعدة المالية الحالية للأغراض المدنية والعسكرية وتبلغ اثني عشر مليون جنيه استرليني لمدة ستة اشهر ابتداءٍ من الأول من ديسمبر 1967م) كما صدر عن المفاوضات بيان ختامي عكس المسائل الأساسية التي دارت حولها المفاوضات وتضمن هذا البيان “مسائل إنهاء السيادة والحماية لصاحبة الجلالة للإقليم ونقل السيادة للدولة الجديدة وإقامة علاقات دبلوماسية ومواصلة المفاوضات حول المساعدة المالية بعد الاستقلال..
وفي طريق العودة إلى عدن توقف وفد الجبهة القومية في القاهرة حيث قابل الرئيس جمال عبدالناصر لفترة دامت أكثر من ثلاث ساعات وطلب فيها أن تكون الجمهورية العربية المتحدة أول دولة تعترف بجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية لكي تتولى عمادة السلك الدبلوماسي في عدن وما إن وصل الوفد إلى مطار القاهرة في طريق عودته إلى عدن حتى أبلغه أحد المسئولين في المطار أن إذاعة القاهرة تعلن في تلك اللحظة اعتراف الجمهورية العربية المتحدة بجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية وهكذا كان السفير المصري أول عميد للسلك الدبلوماسي في عدن..
“وفي استقراء لنتائج مفاوضات الاستقلال التي تعد افضل ماتوصل إليه الوفد اليمني عن غيره مقارنة باي اتفاقية عن استقلال أي دولة عربية اخرى يرى بعض الكتاب العرب ومن خلال ما دار في جلسات المفاوضات أن بريطانيا لم تحاول الخوض في الموضوعات العسكرية نظراٍ لاختلاف النظام الوطني عن النظام الذي كانت تصوره بريطانيا بالإضافة إلى أن الجبهة القومية أوضحت بشكل قاطع أنها لن ترتبط باتفاقيات عسكرية ودفاعية أو غيرها وأنها ستتولى أمر الدفاع عن نفسها أما عن حماية الأجانب وممتلكاتهم فقد تعهدت حكومة الجبهة القومية بذلك ورتبت بريطانيا وجود سفينة حربية قرب الشاطئ كإجراء وقائي لإجلاء سفارتها الجديدة والأجانب في المنطقة في حال تدهور الموقف, وقد تمت مغادرة المندوب السامي البريطاني وقائد القوات البريطانية أرض الجنوب جواٍ من عدن يوم 28/11/ 196م وتم في 29 نوفمبر جلاء آخر قوة بريطانية, وقد اتخذت بريطانيا عدة إجراءات سريعة تتصل بالأمن قبل انسحابها ومنها إلغاء قانون الطوارئ لعام 1963م وإطلاق سراح المعتقلين وترحيل رجال مخابراتها.
وقع عن الجبهة القومية لتحرير وقع عن المملكة المتحدة
الجنوب اليمني المحتل :
وزير بلا وزاره
قحطان محمد الشعبي
شاكلتون هارولد بيلي

قد يعجبك ايضا