نسيم محمد الرضا
تسكن سجون الحديدة والمنصورة وخور مكسر، وبئر أحمد في محافظة عدن حكايات التعذيب، والجلد بالسوط والوخز بالإبر والحرق والصعق والتجويع والإهمال، وتدون جدرانها قصة أسير مخفي، وآخر مات تعذيباً، وأخير تحرر ليروي حكايته في (مقابر الأحياء).. يروي الأسير المحرر محمد عبده محمد صالح الريمي حكايته لـ”سبأ” والتي بدأت من (شعب الجن) في الساحل الغربي بالحديدة وانتهى به الحال أسيراً في أربعة سجون آخرها سجن( بئر أحمد) بعدن .
الأسير المحرر محمد الريمي
شاب عشريني من مديرية الحيمة الداخلية الواقعة غرب العاصمة صنعاء وتبعد عنها 90كم.. توجه إلى جبهة الساحل الغربي في سبتمبر2015م للالتحاق بصفوف الجيش واللجان الشعبية في الجبهة الهادئة التي لم تشتعل فيها المواجهات بعد.
تدرب محمد شهرين ونصف الشهر على القتال، بعدها عصفت رياح المواجهة الراكدة في الجبهة الهادئة لتصبح الأكثر اشتعالاً في خطوط المعارك مع المرتزقة، وسارعت قوات ما يسمى بـ(الشرعية) إلى حصار وتطويق السلسلة الجبلية (شعب الجن) المعسكر الذي يتواجد فيه محمد وزملاؤه واستمر التطويق ثلاثة أيام متواصلة رافقها شن غارات على المعسكر ما تسبب في إصابة واستشهاد عدد من رفقاء السلاح.
تــــــربص
خَــلَّفَ القصف (ضحايا) مصابين وجرحى فقرر زملاؤهم إسعافهم أملاً في فرص لنجاتهم فحملوهم وبدأوا مغامرتهم في صحراء مترامية أجبرتهم على السير ثلاثة كيلو مترات، وبعد ساعات ظهرت عدد من المدرعات تتربص بالأبطال وجرحاهم في طرف الصحراء فباغتت (أبطال الصبر) بوابل رصاص عشوائي أسقط البعض شهداء فيما أصيب آخرون بجراح بالغة .
في جبهات القتال تتضاءل خيارات الحياة أمام سطوة الموت فسارع محمد الريمي إلى حمــل (عمار سوار) صديق طفولته ورفيقه في الجبهة على ظهره لإسعافه كون جراحه غائرة من شظية في الرقبة أصيب بها جراء الغارات على المعسكر فتشارك الجميع مهمة إنقاذ رفقائهم الجرحى في صحراء موحشة تلتهم زوارها بعدة خيارات للموت، وكان وقوعهم في الأسر إعلاناً لموت محتمل.
بعد وابل الرصاص والإعدام المتعمد للأسرى الذي نفذه المرتزقة استشهد بعض الجرحى والمسعفين فوراً وتم نقل البقية إلى سجن في قرية (الســقيا) بمحافظة الحديدة والذي التهم عدداً من الجرحى بسبب الإهمال من السجانين الذين رفضوا نقل المصابين للعلاج في اقرب مستشفى لإجراء عمليات جراحية كبرى لهم ، وأكد مسؤولو السجن للأسرى أن قيادة تحالف العدوان رفضت إسعافهم.
وبحسب القانون الإنساني الدولي وكما في الشرائع الدينية والمبادئ الأخلاقية يعرَّف الأسير بأنه “أي شخص، سواء كان مقاتلاً أو غير مقاتل، تم احتجازه من قبل قوى معادية له خلال أو بعد النزاع المسلح مباشرة ويتمتع بحقوق منها: عدم محاكمته، عدم تعرضه للتعذيب، تلقيه علاجاً طبياً كاملاً والاستعانة بمنظمة الصليب الأحمر الدولية لمراقبة حالته الصحية والاتصال بأقربائه، ومعاملته معاملة إنسانية منذ القبض عليه حتى الإفراج عنه، وحقه في الطعام والاحترام والملبس اللائق” .
محمد وصديقه عمار سوار
تتكرر البطولة في جبهات القتال، حيث واصل محمد العناية بعمار في السجن رغم حالته الميئوس منها وسمح له مسؤولو السجن بالبقاء مع صديقه كي يخبرهم عندما يفارق الحياة ، فافترش عمار ذراع صديقه في انتظار الموت واستمر الإيماء لمحمد ليطمئنه بأنه مازال يقاسمه المعاناة في السجن والذكريات ، بدوره امتهن محمد السهر لمراقبة عمار منتظراً قدراً جميلاً لحياة جديدة تكتب لصديقه وسط زحام الموت.
مــر أسبوع مضغ فيه محمد القلق والخوف مع وجباته اليومية، وأخيراً تمتم عمار منادياً محمد رفيق الطفولة والمصير وتدريجياً بدأ بالتماثل للشفاء ليصبح عمار حديث الأسرى عن معجزة النجاة من فوهة الموت.
المجهــــــول…
بدأت رحلة الأسر تأخذ مسارها المجهول مع محمد وزملائه الأسرى الـ 33، حيث تم نقلهم بعد ثلاثة أشهر قضوها في سجن قرية السقيا إلى مدرسة تحولت ” سجناً” في المنصورة بمحافظة عدن ، كانت أوضاعه الإنسانية أسوأ من سابقه، حيث بقي فيه محمد ورفقاء الأسر ستة أشهر عانوا فيها الضرب المبرح والأعمال الشاقة والعقاب بالوقوف نصف يوم كامل تحت أشعة الشمس والتحقيق المتواصل والحرب النفسية ومحاولة تغيير العقيدة العسكرية والتهديد بالتصفية الجسدية، خاصة أن الأسرى حتى في ذلك السجن كانوا مخفيين قسراً.
تتضاعف الأوجاع في وحشة السجن حيث تسبب إهمال النظافة وأدواتها من مسؤولي السجن وعدم توفير الملابس النظيفة إضافة إلى طبيعة المنطقة الحارة في تفشي الأمراض الجلدية بين الأسرى وتقيحت جروح المصابين ، فيما تعمد مسؤولو السجن ضربهم بالعصي في جروحهم، ما ضاعف سوء حالتهم وتدهور وضعهم الصحي .
وللجوع قصته حيث تنصلت إدارة السجن عن تقديم ابسط حقوق الأسرى في الغذاء ولم توفر لهم سوى وجبة واحدة في اليوم حيناً، وبعض طعام أحيانا أخرى ،ويتذكر محمد معاناة الأسرى في شهور رمضان الثلاثة التي قضاها في الأسر بين منع الطعام والجوع والتعذيب في سجون الموت.
محطـــــــة ثالثـــة
محطة جديدة للعذاب في سجن خور مكسر وبداية معاناة من الضرب والترهيب والفصل الانتقائي، حيث تم فصل الأسرى من الجيش واللجان في سجن، وأسرى الجيش من الأمن المركزي في آخر، والمقاتلين من محافظات صعدة وعمران وحجة في زنزانة أخرى في المعتقل.
وبغضب المنتقم كان يسارع المرتزقة لإعدام الأسرى كلما حقق أبطال الجيش واللجان نصراً ميدانياً في المعارك حيث تم سحل ثلاثة ضباط من الأمن المركزي بالدبابات إضافة إلى ذبح أحد الأسرى لاشتباههم بصلة قرابة بينه وبين أحد القيادات في الجيش واللجان وقتل مجموعة من الضباط رميا بالرصاص .
سجن بئر أحمد
مروا من هناك ..واستقروا في سجن “بئر أحمد” حيث للموت روائح معروفة.. الجديد في رحلتهم أن أسماء محمد ورفاقه انضمت لقوائم الأسرى ولم يعودوا مخفيين يتم التعامل مع حياتهم بشرطية مطلقة.
سجن بئر أحمد السجن “الوحش” الذي انتقدت التقارير الحقوقية أوضاع السجناء اللا إنسانية فيه، وكشفت أساليب التعذيب المختلفة التي تنتهي بموت السجين أو إعاقته نفسياً وجسدياً، ويضم السجن عدداً كبيراً من الأسرى من كل جبهات القتال (دواعش وقاعدة ومعتقلي رأي ومخفيين قسراً ومعارضين ومواطنين ).
حاصرت جدران السجن حرية محمد سنتين في بئر احمد ، كان فيها العذاب مختلفاً عن السجون السابقة ، حيث تم الجمع بين اسرى الجيش واللجان الشعبية مع سجناء من الدواعش في سجن واحد وهو ما تسبب في مشاجرات ومعارك دامية بين الطرفين إلى أن حدث تمرد في السجن في إحدى المرات طالب فيها اسرى الجيش واللجان بفصلهم عن الدواعش ،ما دفع مسؤولي السجن إلى وضع الأسرى في سجون انفرادية لمدة تجاوزت شهرين وحينها قرروا الإضراب عن الطعام جماعيا إلى أن يتم فصلهم عن الدواعش .
سمحت لحظات مسروقة لمحمد بالالتقاء بعدد من المعتقلين والأسرى والمساجين حيث سردوا له حكايات العذاب في غرفة “الضغاطة” التابعة للمدعو شلال شايع والتي يعذب فيها كل معارضيه وهي غرفة ضيقة جداً يتم وضع السجين فيها ولا يستطيع الحراك أو الالتفات ويظل واقفاً لعدة أيام والكثير من السجناء ماتوا فيها من شدة الحر والإرهاق.
فيما تعتبر غرفة “الأحلام” الأكثر وحشية حيث تستخدم للتعذيب الجسدي والممارسات اللا أخلاقية بحق المعتقلين المعارضين للاحتلال الإماراتي والقادة الجنوبيين.
زبانية العــــــذاب
البوبكري وياسر الحدي ومحمد الخبيثة زبانية العذاب والأسماء التي واصلت تعذيب الأسرى في السجون الأربعة متناسية وحدة الدين والوطن والهوية وعذبت السجناء بسادية لا تعترف بحقوق الأسير حيث يفرض السجان قوانينه ويطلق مزاجية الغضب والعقاب على الأسرى من مسافة مقدارها(صفر).
تمكنت بعض المنظمات من الوصول للأسرى في بئر أحمد والالتقاء بهم والاستماع إلى شكاواهم وطمأنت اسرهم ما خفف معاناة الأسرى، ووفرت لهم بعض الملابس النظيفة فكان عيد الفطر موعداً سعيداً بحذر للأسرى بعد أن وزع لهم الصليب الأحمر الدولي ملابس نظيفة أعادتهم لحظات لموعد فرح.
ينفصل الأسير عن العالم ويتقمص دور التقويم الزمني حيث يتذكر محمد الريمي تاريخ الأسر والتنقل من سجن لآخر والإضراب عن الطعام والسجن الإنفرادي ويوم الانتظار الطويل الذي تم فيه التأكيد على خروج الأسرى في صفقة تبادل وبدء تنفيذ الصفقة وعند وصول الأسرى إلى الحبيلين في محافظة لحج قررت قيادة تحالف العدوان إفشال وتوقيف عملية التبادل وهددت بقصف الأسرى فعاد الجميع إلى سجونهم على أمل صفقة حرية منتظرة.
يتمادى “تجار الخداع” في بيع الحلم فكان ضباط السجن يطلقون مواعيد أمل للأسرى بصفقة تبادل في كواليس التفاوض فيستعدون ويوصدون أبواب الفرح كل شهر وكل يوم وكل عام.
للصمود أبطاله والأسرى “عمالقة الصبر” آنســوا وحشتهم في غياهب السجن بالتمسك بفرج الله وقراءة القرآن فكان 21 رمضان موعد حرية للأسير محمد الريمي وعمار سوار ورفاقهما في صفقة تبادل للأسرى أنهت معاناة ثلاثة أعوام وعشرة أشهر في سجون العذاب ، وينضم الأسرى المحررون إلى اكثر من 7000أسير محرر من الطرفين خلال 300عملية تبادل بحسب رئيس اللجنة الوطنية لشؤون الأسرى عبدالقادر المرتضى.
ويتمنى محمد الريمي لكل الأسرى الحرية ويؤمن بأن الأمراض المزمنة التي لحقت به من هشاشة عظام وتحسس في الصدر وآلام المفاصل والفك لا تؤلمه مثل وحشة السجن ووحشية السجان التي تلازمه كوابيس في نومه وتطارده ذكريات مزعجة في يومياته الهادئة .
مازال هناك فصل أخير في حكاية محمد الشاب الخلوق الذي سيتزوج قريباً ، والأسير العنيد العائد لضجيج المعارك في الجبهات ، والمقاتل الجسور صاحب القرار الذي يؤمن بأنه لن يعود لاغلال الأسر مرة أخرى.
روى محمد حكاية الأسرى أبطال الانتظار وحفر التاريخ بدمه ذكريات في جدار السجن عندما كان حساب وتدوين الوقت والأيام والزمن مهمة محمد الوحيدة لرصد مواعيد العذاب والأمل.