محمد علي لقمان.. رائد مسيرة التنوير والتحرر والاستقلال


كان مفكراٍ وقانونياٍ وأديباٍ وإعلامياٍ مناهضاٍ للاستعمار كما يتذكره الوطن مع إطلالة يوبيل أكتوبر الذهبي
• كان على علاقة وطيدة بالثعالبي وشكيب أرسلان ودفع الكثير من أجل زيارة ثائر الفقراء في سجنه المهاتما غاندي
• “فتاة الجزيرة” هي أول صحيفة يومية في شبه الجزيرة العربية مناهضة للاستعمار

عندما يكون الطموح أكبر من الخطر تكون الصعاب هينة أمام العازمين بإصرار الموت إلى مبتغاهم كانت أبلغ مخاطرة لصحفي طموح يفور في دمه عنفوان الشباب الواعي ويتفجر فيه بركان المعرفة والتنوير والتحرر.. رمى بنفسه من الزورق إلى سلم السفينة متجاوزاٍ شارة الخطر والأسلاك والأوامر الأمنية والعسكرية بعدم الاقتراب من سفينة ثائر الفقراء وزعيم أشهر ثورة عالمية تحفها الذكريات ببخور التحية والحرية الإنسانية حين مر من عدن في لحظات لم ينسها التاريخ.. وأنا أقرأ بشغف كبير هذه القصة أتصور اليوم شكل ذلك الشاب الفتي والصحفي المثابر في عام 1930م حين كان عمره يشافه الثانية والثلاثين عاماٍ وهو يتصدر قائمة أشهر صحفيي العالم الذي دخلوا بإبداعهم صفحات “غيتس” الشهيرة–لو قرأتú “غيتس” ميزانه الصحفي فقط-.. فمن هو صاحب السيرة اليمانية الذي يتذكرْه الوطن مع إطلالة اليوبيل الذهبي لثورة الـ(14) من أكتوبر 1963م¿ ولماذا اشترطنا على “غيتس” قراءة ميزانه الصحفي –فقط- ¿ وما الذي تبقى من مِلِكات هذا الشامخ..¿ .. إنه المفكر الموسوعي والأديب الشاعر والإعلامي الإداري محمد علي لقمان مؤسس أول صحيفة يومية في شبه الجزيرة العربية لمناهضة الاستعمار البريطاني جمع بين الصحفي ذي الطموح الواعي والمفكر ذي العقل المستنير والقائد التنويري ذي الإسهام الأصيل والعريق والمناضل ذو الغيرة والخصال القيمية التحررية والشاعر الوطني ذي الهجس الشجون الممتلك لزمام اللغة.. فبكل اعتزاز نقفْ اليوم في هذا التناول- المتواضع- الذي لا تتسع مساحته لإنصاف هذه القامة التي ظْلمت تحت إيقاع انكسار الطموح اليمني إثر الصراع السياسي والسلطوي بين قوى إيجابيتها أنها تحررية وسلبيتها الكبرى أنها حولت الثورة إلى غول يبطج بأبنائه.. فإلى سطور هذه اللقاءات والإعداد التحريري لهذه المادة..
وأنا طالب في الثانوية كنت أطلع على بعض المجلات والكتب التي احصل عليها بالصدِفة النادرة كوني من منطقة ريفية قلما تصل إليها الدوريات وكانت رغبتي في قراءة التاريخ الثوري والتحرري والإنتاج الأدبي أكثر كوني استمعت –حد الولع – للكثير من برامج إذاعة صنعاء وإذاعة عدن.. قرأتْ عن الحركة الوطنية والتحررية في اليمن باهتمام وكان رائد الحركة التنويرية الأستاذ محمد علي لقمان في صدارة قائمة الأسماء والقامات الكبيرة التي اهتممت بمتابعة ما يقال عنها في المذياع وما يكتب عنها إن سنحت لي الفرصة في الحصول على قصاصات تلك الدوريات والكتب.. كما إن لقمان من القامات التي غرِسِت في ذاكرتي صورة ذهنية ناصعة عن رواد الحركة التنويرية في اليمن خصوصا القامات ذات البعد الأدبي – الشعري- والفكري والثقافي والإعلامي.. وفي السنوات الأولى لدراستي الجامعية في جامعة صنعاء كلية الإعلام كنت مهتم بمحاضرات رواد الإعلام اليمني فكان الأكاديمي الكبير الأستاذ الدكتور محمد عبد الجبار سلام – عميد كلية الإعلام السابق وأستاذ الإعلام والصحافة بجامعة صنعاءـ يوصينا كثيراٍ -أثناء المحاضرات وخارجها- بقراءة تاريخ رواد الإعلام والثقافة والأدب اليمنيين الذين أسسوا اللبنات الأولى للصحافة اليمنية التحررية والتنويرية كالمحامي والصحفي محمد علي لقمان ومن بعده أبناؤه وعبدالله عبد الرزاق باذيب والفضول عبد الله عبد الوهاب نعمان وغيرهم لكنه كأكاديمي وصاحب رؤية إدارية مؤسسية كان يكرر -باعتزاز كبير- سيرة الأستاذ محمد علي لقمان رائد الحركة التنويرية وصاحب أول صحيفة في الجزيزة العربية تناهض الاستعمار.. معتبراٍ مرحلة محمد لقمان هي من أنصع مراحل الريادة المهنية على المستوى الصحفي ذي الثراء الثقافي والريادة المؤسسية أيضاٍ على مستوى التكوين المؤسسي لصحافة تدار بانتظام لتحمل رسالتها القيمية لكل أبناء الوطن على إيقاع النِفِس التحرري المحاكي لمعاناتهم وكذلك الريادة التحررية بما حملته الصحافة التي كان يقودها ويديرها لقمان من مضامين قوية أرعبت أقوى امبراطورية في العالم إذ كان يعمل بصبر وروية وتضحية ورؤى قد يخالفه الكثير فيها حتى تأتي ثمارها لينجح في تقويض الصورة الذهنية ذات البعد الوجودي التي استماتت بريطانيا سنوات طوالاٍ لتحفر تلك الصورة في ذاكرة المجتمع اليمني والعربي والدولي وبما يوحي بضرورة وجودها في الجزء الجنوبي من اليمن السعيد..
النشأة المعرفية
ثمة أناس كْثِر تتهيأ لهم الظروف والأسباب التي تشكل القاعدة الصلبة لنجاح مشاريعهم الريادية لكن مداركهم المعرفية وإحساسهم الاجتماعي الضئيل يفوت فرص التقاط هذه الأسباب والظروف التاريخية وهذا هو الفارق الكبير بين أولئك الناس وبين قامة كبيرة كالثائر والمثقف الموسوعي محمد علي لقمان فقد فِقهِ جيداٍ أن الحياة مشوار ولحظات وأسباب فما تهيأ له ظرفَ أو فرصةَ إلا توِجها بالفائدة المعرفية والتحصيل والاطلاع والتواصل مع رموز العلم بالطرق المتاحة.. فلم يضيع مْنِور اليمن محمد علي لقمان فرصة يسر أسرته وأصالتها العريقة فاختار طريق العلم والمعرفة والتنوير والنضال بالكلمة والقلم من طفولته حتى مماته..
في السياق يخلص الأستاذ جبران شمسان مؤلف كتاب (لقمان رمز الوطن الحي.. سيرة رجل وكفاح شعب) من توطئته عن عدن المدينة الإنسانية الجميلة وعن رائد النهضة الفكرية والتنويرية إلى أن 6 نوفمبر 1898م كان هو اليوم الذي شهدت فيه عدن مولد المناضل والمفكر اليمني الكبير محمد علي إبراهيم لقمان من أسرة لقمان التي تعد من أعرق الأسر في الجزيرة العربية قاطبة وأكثرها عطاءٍ في القرن العشرين فكان والده علي إبراهيم لقمان حجِةٍ في الفقه الإسلامي وفي اللغتين العربية والإنجليزية ورائداٍ من رواد الحركة التعليمية في عدن وهو عميد الأسرة وله سبعة من الأولاد أكبرهم محمد وثلاث بنات وقد أحسن تربيتهم وتعليمهم وتثقيفهم جميعاٍ فكانوا مفخرة له وللوطن وهم: رائدنا محمد وحمزة الكاتب والمؤرخ الكبير وخالد الصحافي ومحمود المحامي والصحفي الذي له مواقف مشهودة وعبدالمجيد الكاتب والشاعر صاحب كتاب “اليمن كما عرفتها” وصالح الذي عانى من معتقل الإقامة الجبرية وتحديدها من قبل المستعمر ومنهم أيضاٍ علي شقيق الرائد الذي كان ضمن طاقم صحيفة “فتاة الجزيرة” فكانوا بين رجال أعمال وصحافة وأدب وتاريخ وثقافة وقانون كما كانت بناته “أم السعد وملكي وصفية” بين سيدة جليلة وأم مثالية وتربوية قديرة.
لقمان.. المحامي
الشاعر الكبير الدكتور شهاب غانم يقول -في إحدى مقالاته المطولة والمستعرضة لما كتبه الدكتور أحمد الهمداني –نائب رئيس جامعة عدن عن لقمان-: “كان لقمان أول يمني يحصل على الثانوية العامة (السينير كامبردج) في عدن ثم كان أول من يتخرج في المحاماة وكان ذلك عام 1938 في جامعة بومباي وأقامت الجمعية العربية في بمباي حفلاٍ بتلك المناسبة وألقى فيها عميد كلية الحقوق كلمة جاء فيها: “خلال عشرين عاماٍ تخرج ألفا محام في الكلية ولكن لم يجتز أحدهم الدراسة خلال سنتين فقط كما فعل السيد لقمان” وعمل لقمان محامياٍ بعد ذلك في عدن .
النوادي الثقافية
كان لسعي لقمان في إنشاء النوادي أثر كبير ضرِب بريطانيا في عمق الصورة الذهنية للهالة التي حمت بريطانيا نفسها من خلالها وترويج نفسها بأنها الحامي لمصالح الشرق والغرب وفي عدن وأن تخدم أبناء اليمن والأمة العربية باستعمارها لعدن فبدأ المثقفون من مرتادي هذه النوادي يفهمون جيداٍ بل تشبعوا بطرق غير مباشرة ما معنى أن تعيش في وطنك المحاط بجند وقاعدة استعمارية إنك في وصاية ورقابة مستعمرة أرهقت العالم صراعاٍ على الثروات حركة الملاحة الدولية.. ولم يكن هذا الذكاء والهدف الغامض الذي لم تفهمه النخب والجماهير التي تعارض لقمان غريباٍ على أذهان القادة والرموز التنويرية حينها على المستويين العالمي والعربي فقد كانت النوادي مثار إعجاب الرموز التنويرية والمعرفية والثورية العربية والعالمية وبإشادة شكيب أرسلان وعبد العزيز الثعالبي والمهاتما غاندي الذي كان للقمان معه قصة حوار صحفي شهيرة – نوردها في سياق هذه المادة-.. لكن قبل ذلك يجب التعريج على ما تضمنه مقال الدكتور شهاب محمد عبد غانم حول الدور التنويري الذي لعبه لقمان من خلال هذه النوادي حيث قال: “قاد لقمان حراكاٍ تنويرياٍ وتربوياٍ واجتماعياٍ وسياسياٍ واسعاٍ من خلال النوادي التي أنشأها أو أسهم في إنشائها مثل النادي الأدبي العربي عام 1924 الذي كان لقمان أول سكرتير فخري له ونادي الإصلاح العربي في عدن عام 1930 الذي ترأسه (أما نادي الإصلاح في مدينة التواهي فقد أنشئ عام 1929 وكان أول رئيس له جدي السيد عبده غانم الذي ظل رئيسا له 17 عاما). وأنشأ لقمان مع لفيف من المثقفين عام 1938 مخيم أبي الطيب المتنبي والذي كانت اجتماعاته تعقد في مكتب لقمان في الأسبلانيد في مدينة كريتر في عدن وكان على كل عضو أن يقدم محاضرة.
واستعرض غانم في مقاله سلسلة من عناوين المحاضرات التي عكست جملة من المعالجات ذات البعد المعرفي لكل المشكلات التي تكتنف نسيج المجتمع اليمني والإنساني في عدن على الصعيد السياسي والقيمي والاجتماعي والاقتصادي وأمور أخرى كثيرة جداٍ.. وأضاف غانم: ويمكننا أن نتصور المتاعب التي كان يتعرض لها لقمان في بعض جهوده الاجتماعية من خلال ما ذكر في مذكراته عن بدايات النادي الأدبي العربي حيث يقول: (عقدنا اجتماعا السيد عبدالله علوي الجفري وأنا وشكلنا النادي الأدبي العربي وانضم إلى النادي أكثر من مائتي عضو… كانت الاستجابة مشجعة تماما في البداية ولكن الأحقاد الشخصية والتطلع إلى القيادة والرئاسة أدت إلى انقسام سريع بين الأعضاء…تضاءل عدد الأعضاء بعد أربع سنوات ولم يدفع أحد الاشتراكات ماعدا اثني عشر وأسهم اثنان بكرم شديد في المصروفات الدورية للنادي أحدهما الأمير أحمد فضل بن علي والآخر في حضرموت وهو السيد أبوبكر بن شيخ الكاف وبوصفي سكرتيرا فخريا للنادي أسهمت بانتظام في الكتابة إلى الصحف العربية والهندية… استقبل النادي كثيرا من القادة والمتعلمين العرب الذين قدموا إلى عدن ودعا الشخصيات الكبيرة”.
هكذا تجلت ذهنية لقمان الصافية فإنشاء النوادي كان سبباٍ لم يغفل لقمان من التوظيف الايجابي لها في توسيع دائرة علاقاته الداخلية والخارجية ومع كبار القامات والرموز التحررية والفكرية والعلمية وفي هذا الشأن يقول غانم: “وأنشأ لقمان علاقات مع رجال النهضة في زمنه ومنهم محمد علي الطاهر الذي كان يكتب في صحيفته والأمير شكيب أرسلان الذي أشاد بلقمان في بعض مقالته ومقدمة كتاب لقمان (بماذا تقدم الغربيون) بقلمه ورجل التنوير التونسي عبدالعزيز الثعالبي الذي شجع لقمان على إنشاء النوادى الأدبية ومحمد كرد علي والزعيم المغربي عبدالكريم الخطابي والقائد العسكري العراقي جميل جمال والزعيم الفلسطيني أمين الحسيني والزعيم الهندي الأشهر المهاتما غاندي كما تعرف لقمان في مرحلة لاحقة على الفيلسوف البريطاني برتراند رسل وحاوره.
تأصيل واهتمام
اللافت للانتباه- قبل الولوج إلى عوالم لقمان- إن نائب رئيس جامعة عدن الدكتور أحمد علي الهمداني أبلى بلاء حسناٍ في أبحاثه وتناولاته المهتمة بإنتاج ومذكرات وأدوار لقمان فقد أصدر آخر كتاب في العام 2010م تحت عنوان (محمد علي لقمان رائد حركة التنوير في اليمن) سجل من خلاله محطات هامة أصلت بأسلوب بحثي مواهب وملكات ومطامح رائد التحرر والتنوير في اليمن محمد علي لقمان.. هذا الاهتمام جعلنا نتواصل مع الدكتور الهمداني للحصول على صورة مختزلة لعطاءات لقمان الفكرية والإعلامية والسياسية وغيرها.. وفي معرض تناوله السريع لتلك المحطات قال الهمداني: ولد محمد علي لقمان في السادس من نوفمبر من عام 1898م في مدينة عدن.. وفي الأعوام 1907م – 1911م كان تلميذا في المدرسة الابتدائية الحكومية في عدن, ليجتاز الصف السادس في المدرسة الابتدائية عام 1911م ويرسله والده إلى مدرسة الإخوان ميرست بالتواهي . ويجتاز لقمان في العام 1912م المستوى الثالث من التعليم الثانوي , وأصبح يتحدث الإنجليزية بطلاقة . وفي نهاية العام 1915م يجتاز لقمان المستوى السادس إنجليزي الذي كان في ذلك الزمن أعلى صف في النظام التعليمي في عدن . وفي العام 1922م يجتاز لقمان اختبار ” سينير كامبردج ” وقد أعده لذلك الأستاذ عطا حسين. حصل لقمان على دبلوم المعلمين وجلس لتأدية امتحانات جامعة لندن في اللغات الشرقيـــة (اللغة العربية). في منتصف عام 1924م عرض على لقمان منصب مدير الثانوية الحكومية وظل مديرا لها لمدة خمسة أعوام. وفي العام 1925م أحرز لقمان شهادة في التربية من جامعة ليدز وحصل على دبلوم المعلمين . وفي العامين 1929م – 1930م يسهم لقمان في إنشاء نوادي الإصلاح العربية الإسلامية في عدن. في الأعوام 1930م – 1935م يعيش لقمان ويعمل في أرض الصومال, ويصبح مدير فرع شركة أنتونان بس في بربرة والفروع الأخرى في هرجيسة وبرعو.
وأضاف الهمداني : التحق لقمان بفصول القانون في بومباي في الأسبوع الأخير من نوفمبر في العام 1936م ويجتاز في مارس من العام 1937م الجزء الأول من امتحان الحقوق ويقوم بمحاولة إكمال الدورة كلها في أغسطس من العام نفسه . كان لقمان أول عربي يحمل شهادة الحقوق من المجلس الأعلى للمحامين والمحكمة العليا في ولاية بومباي . وقد نال الشهادة العليا في القانون , وكان الأول بين ألفي محام خلال عشرين سنة تخطى الاختبار في أقصى مدة لا تتعدى سنتين . وفي مايو من العام 1938م بدأ لقمان ممارسة المحاماة في عدن , ويقيد اسمه كمترافع ومحام أمام المحاكم العليا في أرض الصومال البريطانية..
لقمان .. مؤسس الصحافة المهنية
وأنا أعد هذه المادة كإسهام متواضع في تذكر رائد مسيرة التنوير والتحرر وروح الشجاعة والنضال محمد علي لقمان – رحمه الله- راق لي أن أستعيد لحظات من سنوات الدراسة في الحديث عن هذه القامة فتواصلت مع الأستاذ الدكتور محمد عبد الجبار السلام – الذي تقاعد الآن ويعكف على الإشراف المتواصل على رسائل الدكتوراه والماجستير لطلاب الإعلام في الداخل وبعض الطلاب في الخارج حيث لا يتوانى عن مساعدة أي طالب –قمت بزيارته إلى منزله جرى بيننا حديث طويل عن محمد علي لقمان – رائداٍ ومؤسساٍ ومفكراٍ وشاعراٍ وصحفياٍ بارعاٍ- وتناقشنا حول تاريخ عدن والصراع السياسي ومعارك طرد المستعمر وعن عبدالله عبدالرزاق باذيب ومحمد عبده غانم وغيرهم..
ففي مستهل حديثه عبر سلِام عن ألمه العميق لما يلحق بالرموز الوطنية الريادية من ظلم وإجحاف ونكران كالأستاذ الجليل والقدير محمد علي لقمان الذي انتصر على ظلم المستعمر وتغلب على كل ما لحق به من أضرار ومطاردات من قبل السلطات البريطانية وهو يكافح بأقوى سلاح متمثل في العقل والفكر والقلم والدعم لنسيج الأحرار اليمنيين شمالاٍ وجنوباٍ سواء أثناء النضال السلمي أو الكفاح المسلح حيث ظل حاضراٍ معبراٍ -ليس عن اليمن فحسب بل عن الضمير والروح العربية- في المحافل الأممية والدولية عن الأمة بخطاب مستنير وبرقي مكانتها وكانت له مواقفه الشهيرة إزاء القضايا المصيرية للأمة العربية والإسلامية.. كما أنه تعرض للظلم حتى بعد الاستقلال أثناء دوامة صراع القوى السياسية التي أنستها السلطة قيم النضال والتضحية التي كان يحملها ويبذلها لقمان بنكران ذات فصادرت السلطات البريطانية وبعدها القوى الوطنية المتصارعة ما يملكه لقمان من نواد ودور نشر ومطابع وصحف ومكتبات وغيرها.. ووصل الحد بالخصوم إلى اجتزاء الرؤى والمشاريع الوطنية التي تبناها لقمان تجاه قضايا أبناء عدن فحملوا- مثلاٍ- ما كان يْسمي بـ”الجمعية العدنية ” من الدلالات ما عرضت لقمان للظلم معتبرين أن شعار هذه الجمعية عنصري أو مناطقي وكأن هذه القوى هي الوحدوية وحدها وكانت القضية برمتها ترتبط بمواجهة لقمان لسياسة المستعمر الذي كان يوظف الهنود في مناصب إدارية في عدن تاركاٍ أبناء عدن يعيشون على الفتات.. ولو كان محمد علي لقمان كما يتصور البعض من خصومه -الذين تراجعوا كثيرا عن أحكامهم مع تصاعد الصراع السياسي وحدوث ما حدث بين تلك القوى- فماذا نسمي دعمه للأحرار اليمنيين المناهضين للإمامة كالزبيري والنعمان ودعمه اللامحدود وتأييده –بل تبنيه- لنشأة حزب الأحرار الذي كان نواة لثورة 48م وزيارته لصنعاء وكلمته التي ألقاها عبر إذاعة صنعاء قبل أن تفشل ثورة 48م ملقية بظل سلبي كبير على لقمان وعلى الحركة الوطنية كلها.. وكذلك دعمه اللامحدود لثورة السادس والعشرين من سبتمبر وماذا نسمي إنتاجه وخطابه المعبر عن الروح اليمنية الواحدة في النوادي والمحافل الدولية..
واعتبر عميد كلية الإعلام جامعة صنعاء -السابق- الدكتور سلام أن المفكر القانوني والمحامي والصحفي والشاعر محمد علي لقمان كان بالنسبة لكل المناضلين اليمنيين والعقول المستنيرة في طول البلاد وعرضها رمزاٍ للحرية وملاذاٍ آمناٍ لثلة الأحرار المناضلين الهاربين من بطش الإمامة في صنعاء وحجة والحديدة كالزبيري والنعمان وغيرهم.. وكان على علاقة وطيدة بالرموز العربية والعالمية من المفكرين والباحثين وأدباء الرحلات والتقى بقامات كبيرة وقيادات عربية عسكرية وسياسية وفكرية.. مؤكداٍ أن هذا الحضور يدل على إن محمد علي لقمان لم يكن رائداٍ تنويرياٍ وإعلامياٍ فحسب بل كان وجهة تؤم رموز التحرر والنضال الوطني من كل خارطة اليمن وعلى المستوى الدولي كان حلقة وصل مهمة تتسق مع سلسلة كبيرة من رموز الحركة التنويرية العربية والدولية.. وكانت أدواره تنطلق من قاعدة الإيمان المطلق أن المجتمع لن يرى النور والحرية إلا بالعلم والمعرفة والثقافة فقد بدأ حياته معلماٍ وتنقل في الأعمال ذات البعد الفكري والمعرفي وتميز بإنتاج أدبي وفكري وصحفي غزير لا تتسع لذكره مقامات الحديث في مناسبة مختصرة بيوم العيد الذهبي لثورة الرابع عشر من أكتوبر 1967م..
محطات ناصعة
وحول أهم محطات عمل محمد علي لقمان الثقافي والصحفي الذي ارتبط بدعم الأحرار اليمنيين وخدم تنوير المجتمع يقول الدكتور أحمد الهمداني: أنشأ لقمان في أواخر الثلاثينيات ومطلع الأربعينيات ” مجلس عدن الثقافي “وفي العام 1939م “مخيم أبي الطيب المتنبي” وكان قبل ذلك عام 1924م قد أنشأ ” نادي الأدب العربــي ” , وفي العام 1939م يتقدم لقمان بطلب نشر وطبع أول صحيفة عربية أسبوعيـة ” فتاة الجزيرة ” وكان لقمان قد حصل على رخصة سابقة عام 1928م . غير أنها لم تعد صالحة. يحصل لقمان على الرد على طلبه في ديسمبر من العام 1939م , وينال الإذن بإصدار صحيفته ” فتاة الجزيرة “. صدر العدد الأول في الأول من يناير عام 1940م ويتسلم الترخيص بعد شهر من ذلك.
ويواصل الهمداني مْسِلúسلاٍ محطات الإسهام التحرري للقمان: “في يونيو من العام 1944م حضر لقمان افتتاح “حزب الأحرار اليمني” في التواهـي. في العامين 1945م – 1946م يضع لقمان برنامجاٍ للإصلاحات في البلاد لحكومة اليمن تحت اسم مستعار هو “اليمني الشريد” في صحيفته “فتاة الجزيرة” , وفي فبراير من العام 1948م يغادر لقمان إلى تعز مرافقا سيف الحق إبراهيم والشيخ أحمد نعمـان. ليصل لقمان بعدها إلى صنعاء ويقضي أسبوعاٍ في أواخر شهر فبراير وأوائل شهر مارس من عام 1948م . ويفر إلى عدن قبل سقوط ثورة 1948م على متن طائرة الخطوط الجوية الإثيوبية , وينجو بنفسه من الإعدام . وفي السابع والعشرين من أبريل من العام 1949م ينشئ لقمان ” الجمعية العدنية “. وفي 18 سبتمبر من العام 1962م يرحل لقمان إلى نيويورك على نفقته الخاصة ويشرح أمام لجنة تصفية الاستعمار قضية الوطن المغلوب على أمره وينادي بتصفية قواعد الاستعمار وإعلان الاستقلال التام.. وفي نوفمبر من العام 1962م زار لقمان صنعاء مؤيداٍ ومباركاٍ قيام الثورة والجمهورية وفي أكتوبر من العام 1963م يلتقي في تعز السلال وعبدالحكيم عامر وأنور السادات ومحمد عبدالواحد..
قصة الصحفي لقمان مع غاندي
عوداٍ على بدء المقدمة التي حضر فيها المهاتما غاندي زعيم الهند الكبير وثائر الفقراء الذي دحر بريطانيا من الهند.. وفي هذا السياق وعن علاقة الصحفي محمد علي لقمان بالمهاتما غاندي يقول الدكتور أحمد علي أحمد الهمداني -نائب رئيس جامعة عدن في كتابه: (لقمان رائد حركة التنوير في اليمن) الصادر عن المطبعة العصرية- بيروت 2010م تعود محاولات لقمان للاتصال بغاندي إلى 1923م عندما حاول جاهدا زيارته في السجن في مدينة أحمد أباد في الهند ولكن قيل له إنه كان قد نقل إلى سجن في بونا. ويذكر لقمان كيف أنه في تنقلاته في الهند اضطر إلى بيع سترته لشراء تذكرة القطار ومواصلة الرحلة لزيارة غاندي في سجنه وهذه لها قصة مطولة لا يتسع المقام هنا لذكرها… وفي حادثة مقابلة الشاب والصحفي والمحامي – حينها – محمد علي لقمان لهذا الزعيم يقول المؤلف جبران شمسان في كتابه (لقمان رمز الوطن الحي.. سيرة رجل وتاريخ شعب) معرفاٍ بمكانة غاندي:” كرس الزعيم الهندي غاندي حياته لنشر سياسة المقاومة السلمية أي اللاعنف واستمر على مدى خمسين عاماٍ يبشر بها وفي سنواته الأخيرة زاد اهتمامه بالدفاع عن حقوق الأقلية المسلمة بهذه الصفة صار غاندي أبرز زعماء العالم التاريخيين كما يشير المؤلف جبران شمسان في هوامش قصة الزيارة التاريخية التي قام بها غاندي إلى عدن وكان للرائد التحرري الصحفي والمحامي لقمان قصة مخاطرة شهيرة في الالتقاء بهذا الزعيم.
يقول المؤلف شمسان نقلاٍ من مصادره الموثقة: “في عام 1930م مر بعدن زعيم الهند غاندي وقد كان لهذا الحدث التاريخي مكانة عند الأستاذ لقمان حيث أجرى مقابلة صحفية مع هذه الشخصية العالمية وقد احتفظ بها الأستاذ لقمان في مذكراته الخاصة الموسومة (الحقيقة السياسية) ويعود تاريخ المقابلة إلى 3/9/1930م ونظراٍ لأهميتها الموضوعية ننشرها حفاظاٍ على إرث الرائد:
(اضطررت للمبيت في مطعم الهند في التواهي لأنهض باكراٍ إذ كان من المقرر أن تصل الباخرة التي تقل زعيم الملايين عند انبثاق الفجر وذهبت إلى الرصيف وكان السيد (حسين بهاي لا لجي) قد استأجر زورقاٍ بخارياٍ وهو على أهبة الخروج فقفزت إلى الزورق بين دهشة الحاضرين لأن البوليس كان حريصاٍ على أن لا يجتمع أحد بالزعيم الهندي. فلما وصل الزورق إلى الباخرة أمر رجل البوليس ملاحيه بأن يبتعدوا ووجدت أن الفرصة فاتتني فانتهزت غفلة أصحابي وقفزت من الزورق وتعلقت بسلِم الباخرة حتى ابتعد الزورق ورآني أصحابي بين السماء والماء وحاولوا أن يرجعوا لينقلوني معهم ولكني أشرت إليهم ألا يفعلوا وصعدت إلى الباخرة فتوهِم المسؤولون أن معي إذناٍ بذلك وتركوا سبيلي حتى وقفت أمام الهندي الفقير الذي كان عاري الجسد إلا من إزار من الململ الخفيف وساعة معلقة في سلسلة بخصره الناحل ونظِارة عريضة على عينيه النافذتين وفي قدميه (شنبل هندي) أي نعل مطاطي وفي الحال التفت الزعيم الهندي إلي وقال:
– أراك جازفت وخالفت أوامر البوليس.
فقلت له: لأن هذه الأوامر تقيد الحرية يا زعيم الحرية.
فقال لي: يسرْني أن أراك مرة أخرى فأين كانت المقابلة الأولى¿
قلت: في سجن يارودا يا مستر غاندي وأنني أحد المعجبين بك.
قال: ولمِ¿
قلت: لأن الذين سجنوك يطلبون منك الآن أن تجلس في دائرة مستديرة يجلس عليها كبار دولتهم.
فقالت الشاعرة الهندية (ساروجيني نايدو): حقيقة إنك عظيم يا غاندي.
فضحك غاندي ببراءة والتفت إلي قائلاٍ: أشكرك على مجيئك.
قلت: أنا جئت أمثل العرب في هذه البلاد.
فظهر عليه الاهتمام وقال: إذن العرب بعثوك لتقابلني¿
قلت: نعم.
فسْر جداٍ ودار حديث قصير بيننا جاء عقبه (المستر مالويا) وحدثه.
فقلت: إن عدن كلها مستعدة لمقابلتكم فمتى تنزلون¿
فقال: إنني رفضت النزول لأن حكومة عدن رفضت أن يخفق علم المؤتمر الهندي إلى جانب العلم البريطاني في مكان الاحتفال بي.
قلت: هل أصبح المؤتمر الهندي حكومة¿
فابتسم ابتسامة الرضا والاطمئنان وبعد برهة جاء القبول بخفق علم المؤتمر الهندي ونزلت برفقته إلى رصيف التواهي نزلنا لوحدنا تقريباٍ ولكن ما كادت تطأ قدماه الأرض حتى تعالت أصوات الجماهير: غاندي.. فليحيا غاندي.. فلتحيا الحرية والاستقلال.
وقبل مغادرته لعدن اجتمعت مرة أخرى بالزعيم في (بيت قهوجي) فدعاني إلى قربه وكان قد أشار في خطبته في معهد الفرس إلى استقبالي له وسألني:
ماذا عملتم يا لقمان في عدن¿
قلت: أسسنا بعض النوادي.
قال بابتسام: “You have clubbed in Aden”.
فأدركت التورية في كلمته لأن معنى club عصا كبيرة ومعنى clubbed أدى كل ما عليه من النفقات والواجبات (ومعناها يضرب بهراوة ومعناها ناد – أي ضربتم ضربتكم بالنوادي).
فقلت: نعم فعلنا ذلك.
فضحك وقال: يتحتِم عليكم أن تسيروا رويداٍ نحو أهدافكم لأنكم في مستعمرة أو في قلعة من قلاع بريطانيا.
قلت: ولكننا نريد حقوقاٍ لم ننل شيئاٍ منها.
قال: اسعوا لذلك.
قلت: إن تعاليمك خير مرشد لطلاب الحقوق.
فالتفت إلى الشاعرة الهندية مفاخراٍ ثم قال:
– إن لكم في القرآن هداية ورشاداٍ.
قلت: وهل تحبون القرآن¿
قال: نعم لأنه كلام الله.
كان قد وصلني إنذار بألا أقابل غاندي بعد عودته من لندن ولكن غاندي حين قابل سعادة الوالي (الكولونيل رايلي) سأله قائلاٍ:
– أين صديقي لقمان¿!
وقابلت الوالي بعد أيام من المقابلة في المدرسة الحكومية في عدن فسألني سعادته:
– أحقاٍ أن غاندي صديقك¿
قلت: إن غاندي يريد أن يلبسني ثوباٍ أفاخر به الناس.
فابتسم سعادة الوالي وقال لي بسؤال غاندي عني.
لقمان مفكراٍ
حول هذا المحور يقول الدكتور أحمد علي الهمداني في معرض رده على استفساراتنا حول رائد الحركة التنويرية في اليمن: شكل المحامي محمد علي لقمان على امتداد نصف قرن من الزمن مدرسة فكرية – ثقافية وسياسية – اجتماعية تخرج فيها عدد كبير من الموهوبين في مختلف جوانب الحياة المعروفة , أصبح هذا العدني – اليمني – العربي – المسلم أبا روحيا لكثير من الأدباء والكتاب وكثير من السياسيين ورجالات الفكر والمجتمع اليمني في عدن وغيرها من المناطق في اليمن والجزيرة والصومال , والهند وباكستان وغيرها . فقد كان رجلا كبيرا من رجالات التنوير , وعلما عظيما من أعلام الثقافة والسياسة في عصر أخذ فيه كل شيء بالتشكل , وكان هو الأساس الذي قامت عليه البدايات الأولى للنهضة الشاملة والذي استندت إليه هذه النهضة في معانيها المختلفة , وفي تطورها وتقدمها فيما بعد .
وقال الهمداني أيضاٍ: أضف إلى ذلك أن لقمان كان رائدا من رواد الحركة الوطنية اليمنية , تجلى ذلك في مواقفه الوطنية المتعددة في مختلف مراحل حياته الإبداعية والوطنية , وكان داعية كبيرا من دعاة الثورة والوحدة , ظهر ذلك في نضاله الجهل والفقر , وفي دعوته إلى قلب الأنظمة السياسية والاجتماعية في وطنه اليمن , ومشاركته النخبة قولا وفعلا في صنع التغيير المطلوب والتحول المنشود.
التنكر للقمان
حول تنكر السياسة الشمولية لأدوار لقمان التنويرية قال الدكتور شهاب غانم: (وبعد استقلال الجنوب تنكر الحكام الشموليون للقمان ولمعظم الأحرار الذين قادوا حركة التنوير فأزالوا اسم لقمان من على الشارع الرئيسي الذي كان يحمل اسمه (وقبل ذلك كان يحمل اسم الاسبلانيد ثم شارع الصحافة) ولكن في نوفمبر/ تشرين الثاني 2006 أقيمت ندوة حافلة في جامعة عدن تحت عنوان “محمد علي لقمان رائد حركة التنوير في اليمن” وأعيد الاعتبار لهذا الرمز الوطني وأعيد تسمية الشارع باسمه بقرار رئاسي كما سميت القاعة الرئيسية في جامعة عدن باسمه”..
مع تباين الرؤى والمواقف بين الحركة الوطنية التي تتوزع في جبهات ومنظمات وجمعيات لكل منه أهدافه التي ربما تختلف عن الأخرى وبعض هذه الحركات أخذت مواقف ذات بعد جدلي كان نواة الصراع السياسي وما رافقه من إقصاءات طالت الرموز الوطنية إلا أن المحك الأخطر الذي جاء بمثابة الاختبار الحقيقي لوطنية الرموز الفكرية والثقافية والتحررية رغم تبايناتها في الرؤى هو محاولة الانجليز طمس الهوية الوطنية اليمنية بإنشاء اتحاد الجنوب العربي ليعزل عدن عن بقية المحافظات في جنوب الوطن ويفصل هذه المحافظات عن بقية المحافظات في شمال الوطن ورغم المغازل السياسية التي كان يلعبها المستعمر والتي كانت تبدو أكثر غموضاٍ وبعداٍ عن بديهة رواد التنوير اليمني الذين كانوا قد ارتادوا مواقف مغايرة ربما خدمت الانجليز بشكل أو بآخر.. كالجمعية العدنية والقبول بتعدد السلطنات التي مزِقتú النسيج الوطني إلا أن إعلان المستعمر البريطاني إنشاء هذا الكيان في 54م تقريباٍ كشف الكثير من اعوجاج مسارات العمل التحرري فاستدركت القوى الوطنية كثيراٍ من المواقف فخرجت المظاهرات العارمة وأعلنت الأقلام الفكرية والتحررية رفضها الشديد للتجزئة والشتات..
هذا ما لفت إليه الخبير الإداري والاقتصادي الدكتور عبدالعزيز محسن الترب- وهو أحد أعضاء الجبهة القومية التي كانت تتصارع مع منظمة التحرير- معتبراٍ تلك المظاهرات أولى المواجهات التي خاضها عمال اليمن ومثقفوها دفاعاٍ عن الهوية اليمنية رغم التباينات التي كانت تسري بين مكونات الطيف اليمني إلا إن الهدف صار برمته واحداٍ هو الدفاع عن اليمن حتى ما كان يسمى بجمعية عدن للعدنيين وكان على رأسها الأستاذ والمناضل الكبير محمد علي لقمان ونخبة من أبناء عدن أخذت موقفاٍ رافضاٍ ووحدوياٍ على عكس ما كان يشاع عنها..
وتفنيداٍ للمآخذ التي وظفتها القوى السياسية أثناء الصراع تجاه الجمعية العدنية قدِم الترب تأصيلاٍ موضوعياٍ لأبعاد الصراع السياسي -سواء أثناء الكفاح المسلح أو فيما بعد الاستقلال واحتدام المواجهات – الذي طال رمز الوطن الحي المفكر محمد علي لقمان وأسرته من أنجاله النجباء والقامات الكبيرة ورموز وطنية كثيرة ظلمتهم الثورة وهم من غزلوا نسيجها الواعي حيث قال الترب حول تلك المرحلة: للحقيقة والتاريخ والإنصاف لم يكن لتسمية الجمعية العدنية أي مغزى للمناطقية ولم يذهب هذا الشعار بحد ذاته في تلك الفترة للعنصرية أو التشرذم بل كان منطلقاٍ مطلبياٍ لأبناء عدن يتعلق بالوظائف.. حيث تكون الوظيفة لابن عدن وليس لمن تأتي به بريطانيا من الهند أو من الصين أو من الأفارقة أو حتى من البريطانيين.. والدليل على ذلك وعلى وطنية لقمان والنخبة التي كانت تقف في صفه.. تجسدت في علاقة لقمان بالأحرار الوطنيين مثل الزبيري والنعمان والشامي وغيرهم من فجروا ثورة 48م التي فشلت ودوره الداعم للمناضلين في عدن وهم من أبناء كل المحافظات اليمنية فكان الهدف الوطني الأولي في البداية هو التخلص من حكم الإمامة في الشمال.. وحتى الجانب الوظيفي ليس فيه استهداف لأبناء المحافظات اليمنية سواء الشمالية أو الوسطى أو الجنوبية – من غير عدن- بدليل أن اليمنيين المتواجدين في موانئ عدن كانوا يشكلون ثلاثة أرباع عمال الميناء وهم من كل خارطة اليمن.. فعندما تقيس هذا الشعار ستجد أنه كان برأس ماله.. بمعنى إنهم يريدون الوظيفة من كبار الكتبة إلى عند الشْفير من أبناء عدن أما الأعمال فكانت مفتوحة لكل اليمنيين بل لكل الأجناس.. إضافة إلى ذلك كانت عدن محوراٍ تجارياٍ وعاصمة كبرى لكل اليمنيين -إبان الحكم الإمامي المغلق أبواب شمال الوطن وعاصمته صنعاء أمام العالم- وبالتالي كانت عدن في الشعار رمزية لليمن ككل وليس لعدن فقط.. كما كانت عدن ملتقى للتحرر والحراك الثقافي الإعلامي اليمني المعاصر حيث بدأت فيها الصحف والمنشورات والشعارات والتنظيمات السياسية والثقافية والإعلامية التي تتنوع في إطار نسيج اجتماعي يمني عربي يؤمن بالوحدة اليمنية كمنطلق للوحدة العربية حينها.. كما تجدر الإشارة إلى إن صحيفة “فتاة الجزيرة” كانت لا تعبر عن الوحدة اليمنية فحسب بل وعن الوحدة العربية ككل فكانت منبراٍ لكل المثقفين اليمنيين والعرب خصوصاٍ شبه الجزيرة العربية.. ومن يراجع مقالاته وافتتاحية “فتاة الجزيرة” يلحظ ذلك…
لقمان.. شاعراٍ ومؤلفاٍ
أخيراٍ لا يتسع المقام هنا للطرح الوافي عن ما أبدعه لقمان وما أثرى به المكتبة الوطنية والذاكرة الثقافية من الإنتاج الأدبي والشعري والفكري لذا سنكتفي بما قدمه الدكتور أحمد الهمداني من إشارة لإنتاجه الأدبي حيث يقول الهمداني: “ترك المجاهد محمد علي لقمان المحامي مجموعة كبيرة من الأعمال الفكرية – السياسية والاجتماعية – التاريخية التي تشكل تراثه الإبداعي في مختلف مجالات الحياة. ومنها (Is This A scrap Of paper- هل هي قصاصة ورق ¿ 1923م- بماذا تقدم الغربيون ¿ 1932م- جولة في بلاد الصومال والحبشة 1934م- رسالة رجب – سعيد “رواية” 1939م – الشعب البريطاني تاريخه وأخلاقه 1940م- في أرض الظاهر – 1945م- كملا ديفي أو آلام شعب وآماله “رواية” 1947م- انتصار الفكر في الثورة الفرنسية الكبرى 1947م – قصة الدستور اللحجي1952م- عدن تطلب الحكم الذاتي1954م- قصة الثورة اليمنية 1962م – شاركه في التأليف فاروق لقمان-).
وقال الهمداني أيضاٍ: أضف إلى ذلك يملك لقمان المحامي عددا كبيرا من الافتتاحيات والمقالات والمذكرات التي كان ينشرها تباعا في صحيفتي ” فتاة الجزيرة ” و ” Aden Chronicle “..
وفاة لقمان -رحمه الله
لقصة وفاة رائد الحركة التنويرية في اليمن المناضل والمفكر والمثقف الموسوعي محمد علي لقمان منحى روحاني صوفي يتسق كثيرا بخاتمةُ مرضيةُ تعد من أبرز سمات الصالحين هو ما ألمح إليه الدكتور شهاب محمد غانم في إحدى مقالاته قائلاٍ: توفي رائد الحركة التنويرية في اليمن في 24 مارس من العام 1966م في الأراضي المقدسة وقد صلى عليه الحْجاج في الكعبة وشيِع نعشه عشرات الألوف إلى مرقده الأخير بمقبرة السيدة خديجة المسماة المعلاة في مكة المكرمة.. وأورد في مقالته نصاٍ شعرياٍ من أجمل المراثي التي قيلت في وفاة لقمان للشاعر اليمني الكبير محمد سعيد جرادة يقول فيها:(صنعاء تشهد أن الثورة انطلقت / على يديك انطلاق السيل في الوادي// نصرتها أنت والأقدام راجفة/ والخوف يلقي أكفا فوق أكباد// حرية الشعب أسمى ما هتفت به/ في حاضر من بلاد العرب أو باد// مؤلفاتك في الإصلاح ما برحت/ لسان صدق وعدل بين أشهاد// لا يبعدن أبو الأحرار إن له/ صوتا كما كان حيا يملأ النادي)..
** الهوامش والمراجع :
1- ملاحظة: المادة بقدر ما هي نتاج بحث مرجعي من الكتب والإرشيف الالكتروني فيها ثلاثة لقاءات مع الدكتور احمد الهمداني-نائب رئيس جامعة عدن والدكتور محمد عبد الجبار سلام –عميد كلية الإعلام السابق بجامعة صنعاء – والسياسي والاقتصادي عبد العزيز محسن الترب- عضو الجبهة القومية إبان الصراع السياسي قبل وبعد الاستقلال.
2- لقمان ( محمد علي ) : الأعمال المختارة , المطبعة العصرية , بيـروت 2005م . جمع وإعداد ودراسة أ . د . أحمد علي الهمداني .
3- الهمداني ( أحمد علي ) : لقمان رائد حركة التنوير في اليمن , المطبعة العصرية , بيروت 2010م .
4- مقالة مطولة لشهاب غانم تحت عنوان: (محمد علي لقمان رائد الحركة التنويرية في اليمن) https://www.14october.com/news.aspx?newsno=37657.
5- كتاب (لقمان رمز الوطن الحي – سيرة رجل تاريخ شعب) لمؤلفه جبران شمسان.

قد يعجبك ايضا