أ.حمود عبدالله الأهنومي
بداية يمكن القول بأن علاقة تاريخية قوية ومتأصِّلة وضاربة في التاريخ ربطت اليمن بالحجاز، بحكم الجوار، والقرب الجغرافي، هذا سوى علاقة الفرع بالأصل؛ حيث ترجِّحُ كثير من البحوث التاريخية المعاصرة أنه إلى اليمن تعود أصول الشعوب في الحجاز وبعض البلدان الأخرى.
في مكة المكرمة، يذكر الأخباريون أنه كان هناك جرهم الأولى التي تعتبر من العرب البائدة، والتي قضى عليها القحطانيون[1]. ولما وُجِد العماليق في مكة، تغلبت عليهم جرهم القحطانية اليمنية بعد حينٍ[2]، جرهم التي تزوّج فيها نبي الله إسماعيل عليه السلام، وأنجب أولادا كثيرين، وشكّلت تلك الخؤولة أول لقاء حميمي بين الجرهميين اليمانيين وبين أولاد إسماعيل عليه السلام، والتي سيكون لها أثر في تدعيم العلاقات التاريخية بين الفريقين لاحقا، بإتباعها بمزيد من التقارب والتآصر الاجتماعي.
تحوّلت منطقة مكة بوضعِ أول بيت فيها لله مباركا وهدى للعالمين إلى مصدر جاذبية للحجاج، وكان لليمنيين حظ كبير في هذا الحج، ولما انفرط عِقْدُ الدولة السبئية هاجر الحيان الأوس والخزرج اليمانيون إلى يثرب (المدينة المنورة) وقطنوها، وسادت علاقة طيبة بين العدنانيين أولاد إسماعيل وبين اليمانيين أهل يثرب، ونتيجة لذلك وبعد زمن تزوّج سيد بطحاء مكة كلابُ بنُ مرة فاطمةَ بنتَ عوفِ بنِ سعدِ الأزدية[3]، ثم تزوَّج هاشمُ بنُ عبدِ مناف بالعقيلة اليمانية سلمى بنت عمرو، من بني النجار، من الخزرج، من أهل المدينة[4]، ثم تزوّج عبدالمطلب بنجارية أخرى وهي فاطمة بنت عمرو بن عامر من بني النجار، ولَدَت له عبدَالله والد النبي صلى الله عليه وآله وسلم[5].
هذه الأواصر الاجتماعية لاحقا أثمرت أوضاعا إيجابية لأهل مكة، ويتضح لاحقا أن العلاقة الطيِّبة بين البيت الهاشمي العدناني واليمنيين هي التي كُتِبَ لها الاستمرار ربما لقرون مضت، حتى أشرقت شمس الإسلام، وظهرت بمحيا سيد الأولين والآخرين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي كما سلف ينحدر من جدات قحطانيات، ضمن جداته في سلسلة نسبه الشريف.
إسلام أهل اليمن
كانت اليمن هي البلدَ الوحيدَ الذي فكّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالانتقال إليها أملا في نصرة أهلها للإسلام، وهناك حالات كثيرة أسلم فيها أفرادٌ يمنيون منذ وقت مبكر، أي من قبل فتح مكة[6]، ويترجَّح أن باذان الفارسي حاكم صنعاء أسلم في السنة السابعة من الهجرة إثر إرسال صلى الله عليه وآله وسلم رسائل إلى ملوك العالم[7]، ومن المعروف أن اليمن وقتذاك كانت منفرِطةَ العِقد، لا تجمعها حكومة واحدة، وكان لكل قبيلة قَيْلُها، الذي يُدْعَى في كثير من الأحيان بـ(الملك)، وحتى تلك القبائل الكبرى كهمدان[8]، ومذحِج[9]، وكندة[10]، وحمير[11]، والأشاعرة[12]، وقبائل السراة[13]، وقضاعة[14] كانت شذر مذر؛ ولهذا نجد أن من القبيلة الواحدة وفد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفود مختلفة في عام الوفود.
توافدت طلائع القبائل اليمنية على المدينة في السنة التاسعة من الهجرة، وقد أسلم كثير من زعماء حمير، وبعثوا برسالة مع مالك بن مرارة الرهاوي، وأجاب عليهم رسول الله وولاهم على بلدانهم، ومنهم أبو زرعة بن سيف بن ذي يزن وغيره، ثم أرسل إلى ملوك حمير ولاة ومعلمين تحت قيادة معاذ بن جبل وكان ذلك بعد السنة التاسعة، وجعله معلِّما لولاية الجند، التي تتبع (حمير) وعلى تماسٍّ بحدود كندة شرقا، التي تتداخل مع حمير[15].
مبعوث الرسول الخاص إلى أهل اليمن
خص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أهل اليمن بمبعوث خاص، كان أقرب الناس إلى الإسلام، وأكثر اضطلاعا بمهامه، إنه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
تذكر بعض الروايات أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وصل إلى اليمن أربع مرات؛ ثلاثٌ على عهد رسول الله، وواحدة في عهد أبي بكر[16]، لكنه يصعُبُ افتراضُ تاريخ خروجه في هذه الثلاث المرات، وإن ورد في طبقات ابن سعد[17] أن له سريتين إلى اليمن، وإحداها في شهر رمضان من السنة العاشرة للهجرة، بينما بقيت الأخريات من دون تاريخ، ومع ذلك لا يمكن أخذ الأمر على علاته.
لقد ثبت بصورة قاطعة أن عليا عليه السلام كان مع رسول الله في فتح مكة، ثم في حنين في السنة الثامنة، من شهر رمضان حتى آخر السنة، وفي السنة التاسعة في شهر ربيع الأول أرسله صلى الله عليه وآله وسلم إلى طيء لهدم صنم (الفلس)، وفي رجب من نفس السنة تركه صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة حين خرج إلى تبوك، وفي آخر السنة في الحج بعثه لإعلان البراءة من المشركين، أي أن هناك فارقا من الوقت وهو ما بين شهر رجب وآخر ذي القعدة وشهر ذي الحجة، وفي السنة التي تلتها يذكر ابن سعد في الطبقات أنه في السنة العاشرة خرج إلى اليمن، ثم يُجْمِع المؤرخون والفقهاء أنه بقي في اليمن حتى أيام موسم الحج فأمره صلى الله عليه وآله وسلم بموافاته في مكة، وبحسب ابن سعد فإنه عليه السلام إذا كان قد خرج في رمضان فإنه سيحتاج أكثر من 30 يوما للوصول إلى اليمن، أي لن يصل إلا في شوال، ولن يمكنه أن يوافي رسول الله في الموسم إلا قبل يوم عرفة بحوالي أكثر من 20 يوما على الأقل، أي أنه قد ترك اليمن في 20 ذي القعدة، وبهذا تكون مدة بقائه في اليمن قليلة جدا، لا تتناسب والدور التاريخي الذي أوكل إليه عليه السلام.
لقد جاء في الرواية أنه بُعِث قاضيا[18]، وأميرا[19]، وأنه دعا همدان إلى الإسلام وأسلمت في يوم واحد[20]، وأنه جاء نفر من أهل اليمن وطلبوا أن يرسل معهم من يفقِّهُهم في الدين، ويعلِّمهم السنن، ويحكُم فيهم بالكتاب، فبعثه معهم[21]، وأنه دخل صنعاء ونزل على أمِّ سعيد بنتِ بُزُرْج زوجة داذويه الفارسي ومكث أربعين يوما فيها[22]، وفصَلَ في مسائلَ قضائيةٍ، وأرسل إلى رسول الله بعضا مما غنمه، وأرسل إليه أيضا تقريره عن إسلام همدان في يوم واحد، وكان يخْطب في الناس، ويصف لهم رسول الله حتى أنه كما سيأتي أقنع يهوديا بالإسلام، فمكث لديه يعلمه الكتاب والآثار، … إلى آخر الأحداث الثابتة التي لا يمكن أن يفي هذا الزمن المفترض لها.
ترتيب أحداث خروج الإمام علي إلى اليمن بحسب منطقها التاريخي
يجب إذن أن نرتِّب الأحداث التاريخية غير المؤرَّخة بحسب سياقها الموضوعي؛ فمثلا ليس معقولا أن يذهب الإمام علي قاضيا بين الناس وهم لا يزالون في الكفر، بل يفترض أن يدخلوا أولا في الإسلام ثم تأتي مسألة القضاء ثانيا.
ولهذا يترجح أنه عليه السلام خرج إلى اليمن خروجا متعدِّدا، وكان يحمل مهمة مزدوجة عسكرية ودعوية وإرشادية وقضائية، وتذكر رواية الجندي أن له أربع خرجات إلى اليمن، إحداها في أيام أبي بكر[23]، ولكن ما يمكن التحقق منه أنه من الطبيعي أن لا يكون له أي تحرك نحو اليمن إلا بعد فتح مكة؛ لوقوعها جنوبا من المدينة على طريق اليمن، ومن ثم كانت تشكِّل سورا مانعا للمسلمين من التقدُّم نحوَ اليمن، وربما كانت رواية طبقات ابن سعد هي الأقرب من كونه له سريتان إلى اليمن، وإن أخطأ في توقيت الأخيرة بأنه في رمضان.
يبدو إذن أن السرية الأولى كانت في السنة التاسعة ما بين شهر رجب منقلب رسول الله من تبوك، وآخر شهر ذي القعدة التي أمَرَ فيه عليا بتبليغ (براءة)، وكانت موجَّهة ضد بعض قبائل (مذحِج) والتي منها قبيلة (زُبَيْد)[24] قبيلة الفارس المشهور عمرو بن معدي كرب، ورافقه قائد آخر وهو خالد بن سعيد بن العاص على رأسِ سرية أخرى متوجِّهة أيضا إلى (قبيلة) مذحج، وأمِر خالد أنه إذا التقى عليا فعليٌّ هو الأمير، وحدث أن حاول فارس (زُبَيد) التعرض لهما، فلما دنا منهما ناداهما: “أنا أبو ثور، أنا عمرو بن معد يكرب”، وحَسِب أن شهرته ستهيبُهما، لكنهما ابتدراه وكلٌّ منهما يُفَدِّي صاحبه بأمه وأبيه، ويقول: “خلّني وإياه”، فانسحب عمرو بعد أن رأى تسابقهما إليه[25].
وإذا عرفنا أن مساكن زُبَيد المذحِجية تقع في ما يسمى الآن خولان بن عامر بصعدة، فإن بعض المصادر أوردت اسم المكان الذي التقوا فيه، وهو (كشر)[26] المعروفة اليوم والتي تقع ضمن المحيط الجغرافي القريب، ويؤكّد هذا أن رسول الله ولّى خالد بن سعيد بن العاص ما بين نجران ورمع[27]، وهي تشمل المنطقة المذكورة، وهناك رواية تقول: إن عمرو بن معدي كرب لم يُسْلِم إلا في السنة العاشرة[28]، ومع ذلك فقد أسلم عددٌ من زعماء مذحِج مع علي عليه السلام في تلك السرية.
فرح رسول الله (ص) بإسلام قبيلة همدان على يد الإمام علي (ع)
لما أكمل مُهمَّته عليه السلام في السنة التاسعة في الحج أُمِر – كما يترجَّح لي – بالتوجه بعدها إلى اليمن في بداية السنة العاشرة للهجرة، قائدا وأميرا وقاضيا ومُرْشِدا، ومع العلم بأن هناك وفودا من همدان (حاشد وبكيل) أسلمت في السنة التاسعة للهجرة، وهناك استجابة مبكِّرة من قبل بعضِ أفرادِ قبيلة همدان للدخول في الإسلام، إلا أن الأغلب أو القبائل الأقوى لم تشأ الدخول في الإسلام، بل وعاندت القائدَ خالد بن الوليد ومانعته ستة أشهر، فلم يستجيبوا له، حتى إذا جاء علي عليه السلام جمعهم في مكان واحد، وقرأ عليهم كتاب رسول الله فأسلمت همدان جميعُها في يوم واحد؛ الأمر الذي جعل عليا عليه السلام يُرْسِل تقريرَه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإسلام همدان سريعا، فما كان من النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يسجد سجودَ الشكر، ويقول: السلام على همدان ثلاثا[29].
وهي حالة فرح مخصوصة لم تُعْهَد ولم تعرف في حالات أخرى؛ الأمر الذي يجعل الحدث ذا أهمية بالغة في تاريخ الإسلام وتاريخ اليمنيين، ويبين أن هناك علاقة مَّا كانت سببا في هذه الاستجابة العجيبة، تعود لأهلية أمير المؤمنين وقدرته الباهرة في الدعوة، وحنكته في القيادة وسمعته في الأخلاق والقتال، وقربه من رسول الله، ولانتمائه إلى بيت عبدالمطلب الأسرة المعروفة والمحبوبة في اليمن.
لقد مكث عليه السلام في اليمن شهورا كثيرة مكّنته لأن يقوم بالدور المفترَض به والمطلوب منه، وهو تعليم الناس بأحكام الله، وإرشادهم إلى دين الله، وتعليمهم الفرائض والسنن، والقضاء بينهم، وهو الأمر الذي كان قد خاف علي عليه السلام أن لا يُوَفَّق إليه عند إرساله؛ لأنه سيأتي إلى قوم – على حد قوله – “هم أسن مني” كما في بعض الروايات، وفيه إشارة إلى التفوق اليمني في مجال القضاء؛ لخلفيتهم الحضارية حتى أن أمير المؤمنين هاب أن يقضي بينهم، ولهذا دعا له رسول الله بتثبيت قلبه، ونصحه أن لا يحكم للخصم حتى يسمع من الخصم الآخر[30].
ومن قضاياه التي حكم بها في اليمن قضية زُبْية الأسد، والتي يتضح من خلال سياقها التاريخي أنه قضاها في هذه المرة أي في السنة العاشرة؛ لأنهم استأنفوا الحكم لدى رسول الله، حيث أجاز لهم علي عليه السلام ذلك، فلقوه في مكة في حجة الوداع لكنه صلى الله عليه وآله وسلم أيَّد حكمَ مبعوثِه علي عليه السلام[31].
لقد روى عليه السلام أن يهوديا سأله في اليمن عن أوصاف رسول الله فبيَّنها له وهو على المنبر، فوجدها اليهودي مطابقة لما معه من الكتب التي تبشِّر به، فما كان منه إلا أن أعلن إسلامه، ثم كان يأتي عليا عليه السلام فيعلِّمه القرآن، ويخبره بشرائع الإسلام[32].
هذا الدور الإرشادي والقضائي المتميِّز والأداء الجيد حربا ودعوة وقضاء بالإضافة إلى الأخلاق العظيمة التي كان عليها عند الحرب مع أعدائه، حيث كان يرُدُّ ما يأخذه الجيش من أموال أناسٍ مسالمين، ويحفظ حرمتهم[33]، وكان يطبِّق معهم مبادئ الإسلام ومُثُله العليا في أخذ الصدقات والرفق بهم، والإحسان إليهم، أدَّى كل ذلك إلى شغف اليمنيين الذين عرفوه به، بالإضافة إلى ما كانت تربطهم بأسرته الهاشمية من علاقات قديمة.
حضور الإمام علي (ع) في الذاكرة الشعبية اليمنية
سجّلت الذاكرة الشعبية اليمنية حضورا قويا وطاغيا للإمام علي في مناطق مختلفة من اليمن، ولا زال الناس ينسبون مناطق وعيونا وآبارا وآثارا إليه، فمنها مثلا عين علي، وضربة علي[34]، وجميع ما أطلق عليها هذا الاسم (عين علي) تتَّسِم بالخير الوفير، والماء الغزير، والتربة الخصبة، وهي تعكس تبرُّكَ اليمنيين بالإمام علي، واعتبارَه دليلا وعنوانا للخير والبركة والنماء، كما تعكس تسمية (ضربة علي) في مناطق كثيرة، و(دِرج علي – نفق جبلي) في إحدى مناطق محافظة حجة، تعكس خوارق الشجاعة والبطولة التي كان عليها الإمام علي عليه السلام في وعي اليمنيين.
وهناك المعقر في تهامة، حيث الرواية تقول: إنه اعترضه أهلها وعقروا بغلته، رغبة في بقائه لديهم، فسمي الموضع (المعقر)، كما يروى أنه وصل عدن أبين وأنه خطب على منبرها خطبة بليغة[35]، وهي جميعا تعكس الحالة الوجدانية لأهل اليمن تجاه هذه الشخصية التي ولع الناس بها قديما وحديثا، وصارت الأنموذج المتجسد في الشجاعة والقضاء والعدالة والمساواة.
ويبدو أن سمعة الإمام علي عليه السلام وأخلاقه وقيمه انتشرت في أهل اليمن بشكل واسع وعلى النحو الذي كان تمثيلا صحيحا لتعاليم الإسلام الغراء؛ ولهذا كان أحد أسباب تمرد أهل حضرموت على تولي أبي بكر للأمر هو الاعتراض بكون علي عليه السلام هو الأحق بالخلافة، والتساؤل عن سبب إقصائه من الحكم[36].