أ.الحسين بن أحمد السراجي
بعيداً عن الضجيج الذي يصاحب ذكرى الهجرة النبوية المباركة ولا أحسبه ضجيجاً لكونه إحياءً للمناسبة بل لأن المناسبة تعني الكثير من الإمتثال والسلوك والتأسي الحقيقي الذي يمثل الأنموذج الحق للمسلم الملتزم بدينه المقتدي بنبيه صلوات الله عليه وعلى آله ” وإن تطيعوه تهتدوا ” وبالتالي فالهجرة ليست مناسبات ولا ضجيج مُفرغ من الإلتزام الديني والقيم السلوكية التي باتت المطلب الذي يجب على المسلمين استيعابه لتصحيح المسار وتقويم الإعوجاج .
لم أنظر في هذا الموضوع للهجرة من الزاوية الروتينية المألوفة ولم أتحدث عنها كواقع سردي قصصي ولكني سلطت الضوء على ما بدأت الموضوع به.
الهجرة في زمن الأعراب :
مع أفول كل عام وهبوب رياح العام الجديد نعيش أجواء الهجرة المباركة , الهجرة ذات المعاني السامقة والدروس البليغة والمواقف الجليلة والعبر الفياضة !! إنها ليست حدثاً عادياً بل موقف وُلِدت معه الأمة وبُعثت فيها الروح من جديد !! دروس الهجرة عظيمة كعظمتها والمسلم من يتعلم من الهجرة .
لو قسنا الحاضر بالماضي فما حال المسلمين اليوم بحال النبي صلوات الله عليه وعلى آله وسلم وحال أصحابه في ذلك الوقت ؟ وماذا قدَّموا للإسلام مقابل ما قدَّموا ؟
لا وجه للمقارنة فأين الثريا وأين الثرى ؟
– هم رفعوا منارة وشأن الإسلام، ومسلمو اليوم هدموها .
– ضحَّوا في سبيل الإسلام بمُهج النفوس وحافظ مسلمو اليوم على حياتهم بكل وسيلة حتى لو كانت على حساب الدين والعقيدة .
– رفعوا لا إله إلا الله ،ومسلمو الإنبطاح والعمالة خفضوها واحتقروها وأهانوها .
– أعزوا الإسلام، ومسلمو العمالة والوهن والخنوع أهانوه وشوَّهوا صورته .
– جاهدوا في سبيله ،ومسلمو الإنجراف أماتوا الجهاد وحاربوه .
– قدَّموا الإسلام في أروع صُوَرِه حتى دخل الناس فيه أفواجاً رغبة لا رهبة , ومسلمو دين ترامب والصهيونية شوَّهوا الصورة الناصعة وأساءوا إليه وجنوا عليه حتى صار الخارجون من الإسلام أكثر من الداخلين فيه والمرتدون والمتشككون يفوقون المؤمنين الموقنين واسألوا الأحمدية والبهائية وحركات الإلحاد والعلمنة ووو إلخ .
سنتجاوز الحساب لنتوقف عند دروس وعبر ومعاني الهجرة المباركة لنستلهم منها الصبر والثبات والصمود والإيمان واليقين :
الهجرة درس خالد في الصبر على البلاء ونحن نعلم ما لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه وكم صبروا وكم تحملوا .
الهجرة درس عظيم في الثبات على الحق , في الإيمان والتسليم والإنقياد والطاعة واليقين .
الهجرة درس فريد في الصلابة لمواجهة الباطل وعدم التنازل والمراوغة .
الهجرة درس متميز في التضحية والبذل وكلنا على علم بتضحيات رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه وبذلهم .
الهجرة درس لا نظير له في الفداء والجهاد والسلوك والعدالة والمساواة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الهجرة درس بالغ المعاني في النصرة والإيثار , فما قدَّمه الأنصار الذين آووا ونصروا لإخوانهم المهاجرين يفوق معاني الوصف بعد أن بلغ أسماها نصرة لدين الله وإعلاءً لشأنه .
الهجرة درس بليغ في مواجهة الظلم والإستكبار والبغي والعدوان ومقارعة الإستبداد .
الهجرة درس لا مثيل له في الفطنة والذكاء والتخطيط والتمويه والمناورة لله وفي سبيله .
الهجرة أعظم دروس التربية والتهذيب لسلوك الأعراب الأشد كفراً ونفاقاً .
الأعراب :
الأعراب دوماً يؤثرون المصالح الخاصة على العامة – كما هو حال أعراب اليوم – والإسلام هذَّب سلوك الأعراب وزكَّى نفوسهم .
لو نظرنا في واقعنا لوجدنا الحال أعراباً قساة يؤثرون الخاص على العام , ونحن بحاجة ماسة لروحانية تُربي نفوسنا وتزكيها وتسمو بها من أعرابية إلى إيمان وإحسان.
نحن اليوم في تعاملنا مع الدين أعراباً , وفي معاملتنا لبعضنا البعض أعراباً . وفي قيادتنا أعراباً .
نحن اليوم في أمسّ الحاجة لدروس الهجرة وتجسيدها في الواقع العملي ليعود الإسلام كما كان , ونعيش كما عاش أسلافنا بعزة وهيبة وكرامة .
ذلك لن يتأتى ما لم نعد لكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم .
فيما مضى من عقود القرن الماضي لم نكن – اليمنيون – في مقابلة ذلك شيئاً ولكننا والحمدلله في السنوات الأخيرة – سنوات التحرر والإنعتاق التي برز فيها الإستكبار بعدوانه – صرنا نمثل دين الله وعدنا إليه وتأسينا برسول الله وتشرَّبنا من ثقافة القرآن وبذلنا الروح والنفس والنفيس وواجهنا الإستكبار بطاغوته وقوته ونجاساته وهذه من النعم التي امتن الله بها علينا لتصحيح المسار وتقويم الإعوجاج .
وما أدراك ما الهجرة ؟
إن الهجرة ليست مجرد الإنتقال من بلد إلى آخر فقط , إنها تعني هجرة ما نهى الله ورسوله عنه حتى يكون الدين كله لله فهي :
– هجرةٌ من الذنوب والسيئات .
– هجرةٌ من الشهوات والشبهات .
– هجرةٌ من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة .
– هجرةٌ من التحريض والتآمر وزرع العداء والكراهية .
– هجرةٌ من سموم العصبيات والخلافات الفكرية والمذهبية والعمالة والإرتزاق .
– هجرةٌ من معاداة المناسبات الدينية والشعائر الإسلامية .
– هجرةٌ من أذى الناس والتعرض لهم وقطع أرزاقهم .
– هجرةٌ من ضيق الصدور إلى سعتها ورحابتها .
– هجرةٌ من الرضا باستباحة السيادة الوطنية .
– هجرة رفض الوصاية الغربية والتدخلات الأمريكية .
– هجرة التخلص من العُقد وأمراض الباطن .
– هجرةٌ للصرخة في وجه الإستكبار والمستكبرين .
– هجرة موالاة أولياء الله تعالى ومعاداة أعدائه .
حين ننظر للهجرة كدروس عملية نرى تجليات الحق والإخلاص المطلق لله عز وجل , تجليات الصبر والثبات واليقين على طريق النصر والتمكين . ” إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ” .
في الهجرة تجلَّى درس التوكل على الله تعالى والإعتصام بحبله ” إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا ” .
فالزم يديك بحبل الله معتصماً *** فإنه الركن إن خانتك أركان .
تتجلى الهجرة بتاريخها الذي فرَّطنا به فصرنا نحفظ التاريخ الميلادي أكثر من الهجري بكثير , بل ربما أجزم بأن غالب الناس لا يعلمون التاريخ الهجري إلا بالمناسبات .
التاريخ الهجري الذي يعني الأصالة والإعتزاز اللَّذين تخلينا عنهما فصرنا بلا عزة ولا كرامة , ها هي معظم الدول العربية بسكانها قد هجروا التاريخ الهجري ولم يعد الكثير يعلمونه سوى بدخول رمضان أو حلول موسم الحج !!
لقد تجلت الهجرة في ثمرة التربية المحمدية , التربية القرآنية , الفكرية , الثقافية , الجهادية التي كانت الوسيلة والأساس الذي بنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجاله وهذَّب أرواحهم وبالتالي فالهجرة سلوك واجب ومستمر وهي أخلاق وقيم .
بطولة الفداء :
رَوَاحُ عام وحلول آخر يحط بنا في مناسبة من أغلى المناسبات الدينية وأعظمها في تاريخ الإسلام .
تمحور هدف النبي صلى الله عليه وعلى آله بالهجرة الإنتقال بالرسالة الخاتمة من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة .. مرحلة الدعوة في مكة ومرحلة الدولة في المدينة وبين المرحلتين فرقٌ هذا بيانه :
في مكة كان الهدف تربية الفرد المسلم وفي المدينة كان الهدف تكوين المجتمع المسلم .
في مكة كانت الدعوة مجرد عقيدة وفكر وفي المدينة صارت شريعة ودولة .
في مكة كانت الدعوة محدودة الآثار وفي المدينة صارت عالمية الأهداف .
في مكة كان الأتباع قلة مستضعفة وفي المدينة أصبحوا قادة وسادة .
في مكة واجه النبي وأصحابه الطغيان والعنت والحصار وعندها بدأ التفكير في موطئ قدم تنعم فيه الدعوة وأتباعها بالأمن والإستقرار منطلقة شرقاً وغرباً , شمالاً وجنوباً في أجواء أمِنَ المسلمون فيها على أرواحهم وحياتهم والفتنة في دينهم .
في مكة أثبت النبي وأصحابه أن منظومة الحياة المبنية على المحبة والسلام والثبات على العقيدة هي أمضى سلاح في وجه الجاهلية القبيح .
هاجر النبي وقد ربَّى رجالاً ألَّف قلوبهم وصهر أفئدتهم بالمحبة والتضحية فكانت الهجرة بداية الإمتحان وأوان قطف الثمار :
أخبر النبي صلى الله عليه وآله أهله بأمر الله فكان التسليم والإستعداد والتأييد والمباركة.
زفَّ البشرى للقلة المستضعفة من الصحب الكرام فبكوا من شدة الفرح .
كانت كل اللحظات التي عاشها النبي صلى الله عليه وآله وهو يودع مكة ممزوجة بالفرح والألم , كان فرحاً بنجاة دينه ورسالته من كيد الكافرين ومكر المتآمرين ومتألماً لفراق موطنه : ” والله إنك لأحب البقاع إلى الله ، ووالله إنك لأحب البقاع إليّ ، ولولا أنّ قومك أخرجوني ما خرجت ”
كان سعيداً بمغادرة أنصاره من دار كفر تُعبد فيها الأصنام والأوثان ويُستقسم فيها بالأزلام من دون الله إلى مُتَّسعٍ من أرض فيها الترحيب بدين لا يُعبد فيها سوى الله .
كان حزيناً إذ سيفارق أطهر وأحب وأقدس البقاع في أرض الله .
تلقى الحبيب أمر الهجرة ومع الأمر بدأ الإمتحان : إمتحان الأهل , إمتحان الصحب , ومع كل ذلك كان هناك ما يقلق النبي :
من سينام في فراشه ؟
من سيقبل مهمة كهذه المحفوفة بالمخاطر التي قد تكون الروح ثمنها ؟
من سيقوم بإرجاع الودائع والأمانات لأهلها ؟
قريش مجتمعة في دار الندوة وقد أجمعت على قتله والتخلص منه ومن دعوته , جلس النبي صلى الله عليه وآله يفكر إنه بحاجة لفدائي ينام على فراشه , على من يعرض المهمة ؟
وفجأة جاء الجواب : هذه المهمة ما لها إلا علي .
استدعى علياً وعرض عليه المهمة وأخبره بما أبرمته قريش من قتله وأنه قد يدفع الثمن لذلك , كان الاختيار صائباً فعلي قبل المهمة بطيب خاطر قرر أن يفتدي النبي ولو كان الثمن روحه , إن لم يكن هو فمن ذا سيكون ؟
عليٌ الراعي اليقظ , الحارس الأمين , الصدِّيق الأكبر , فتى مكة وبطل الإسلام وحامي حمى بيضة الدين .
إمتحان صعب ومصيري بالنسبة للإسلام وقد نجح فيه فدائي رسول الله بامتياز مع مرتبة الشرف الدنيوية والأخروية .. وبالعودة للهجرة فالنبي صلى الله عليه وآله يُعيِّن مصعب بن عمير سفيراً في يثرب , أبوبكر رفيق السفر , دليل الطريق عبدالله بن أريقط , علي إن نجا سيُلحِق أهله , كان التأييد الإلهي واضح المعالم .
النبي صلى الله عليه وآله يغادر مكة سراً رفقة أبي بكر وقريش شربت المقلب , مفاجأة من العيار الثقيل , النائم لم يكن محمداً وإنما فدائي اسمه علي بن أبي طالب .
قريش تبحث عن الهدف , ترصد الجوائز المغرية الثمينة لمن يأتي برسول الله حياً أو ميتاً , ويأبى الله فالعناية الربانية كانت معه تحميه وتحوطه في الغار وفي الطريق وخلال الرحلة المباركة , تحول بينه ووصول سراقة بن مالك أول العاثرين عليه إليه , ملائكة الله تحرسه حتى وصل يثرب .
وهناك كان الإستقبال الحاشد والمهرجان الفرائحي , الأنصار الذين تبوؤوا الدار والإيمان يحبون من هاجر إليهم ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم حاجة .