حرب ناقلات جديدة.. مشهد يتكرر بعد 30 عاما
الخليج على صفيح ساخن.. ومخاوف من تحوِّل المنطقة إلى ساحة مواجهات
الأجواء محمومة وما شهدناه قبل عقود عندما اصطدمت أمريكا وإيران في مياه الخليج قد يتكرر من جديد.
هذا ملخص ما يجري خلال الأسابيع الماضية في ظل مسلسل التصعيد، الذي تعتمد فيه الأطراف المعنية قواعد سلوك تنذر بمزيد من المخاطر.
ناقلات مشتعلة، وأخرى تُحتجز، وطائرات تسقط، وسفن حربية تستجيب لنداءات استغاثة، وخطاب عدائي واسع.. كل ذلك يثير مخاوف من اندلاع صراع أوسع في منطقة الخليج وخاصة مياهها.
حرب إيران العراق
لقد شكلت حرب الناقلات وسفن الشحن لحظة من التوتر الدولي الشديد في نهاية الحرب الإيرانية العراقية التي استمرت ثمانية أعوام.
فكلا الجانبين كان يهاجم المنشآت النفطية للآخر منذ منتصف الثمانينات.
وسرعان ما تعرضت السفن المحايدة للضرب؛ حيث حاولت الدول المتحاربة ممارسة ضغوط اقتصادية كل ضد الآخر، وكانت ناقلات النفط الكويتية التي تحمل النفط العراقي، على وجه الخصوص، عرضة للخطر.
وحينها، كانت الولايات المتحدة بقيادة “رونالد ريغان” مترددة في المشاركة، لكن الوضع في الخليج أصبح خطيرا بشكل متزايد، خصوصا عندما تعرضت السفينة الحربية الأمريكية “يو إس إس ستارك”، لصواريخ “إكسوسيت” أطلقت من طائرة عراقية، زعم المسؤولون العراقيون لاحقا أن ذلك كان حادثا عرضيا.
وبحلول يوليو 1987م، أضحت السفن الحربية الأمريكية تُرافق ناقلات النفط الكويتية رافعة العلم الأمريكي.
وشهدت الفترة ما بين عامي 1979 و1981م تذمرا أمريكيا كبيرا بسبب العار والذل الذي لحقها نتيجة احتجاز إيران 52 من دبلوماسييها، كرهائن، لمدة 444 يوما.
ورغم أن إيران والعراق كانتا مسؤولتين عن الأزمة، إلا أن حرب الناقلات أصبحت بشكل ملحوظ جزءا من الخلاف الطويل الأمد بين إيران وأمريكا.
وفي 24 يوليو 1987م، اصطدمت ناقلة كويتية تحمل العلم الأمريكي بلغم إيراني في أول قافلة بحرية ترافقها سفن حماية؛ ما دفع بالولايات المتحدة إلى نشر مزيد من القوات والسفن، وجعل الجانبين في مسار تصادم أكثر من ذي قبل.
وفي سبتمبر من العام نفسه، هاجمت مروحيات أمريكية سفينة إيرانية بعد مشاهدتها وهي تزرع الألغام ليلا.
وبعد ذلك بأشهر، تعرضت فرقاطة أمريكية، وسفن أخرى لتفجيرات، دفعت القوات الأمريكية للرد بقوة أكبر من أي وقت مضى، فدمرت قواعد للحرس الثوري وهاجمت سفن حربية إيرانية.
وحينها، قال التقرير الرسمي للحادث إن “الإجهاد وطبيعة المهمة والتضارب غير المقصود للبيانات ربما لعب دورا رئيسيا في وقوع الحادث”.
مشهد يتكرر
ولم يختف هذا النزاع مطلقا، بل عاد ليظهر بشدة مرة أخرى في أعقاب قرار الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني الموقع عام 2015م، وفرض عقوبات مشددة على إيران.
ومرة أخرى، أصبح الممر المائي “مضيق هرمز” ساحة للمواجهات بين طهران من جهة وواشنطن وحلفائها من جهة أخرى.
ولعل احتجاز طهران لناقلة النفط البريطانية في مياه الخليج، الجمعة، حلقة جديدة في مسلسل التصعيد، خاصة أنه يأتي بعد أيام من إظهار طهران قدرتها على إسقاط طائرة مسيرة أمريكية.
جاء هذا الإسقاط -وفق مراقبين- كرسالة أنها لا تخشى أية خطوات أمريكية، لكنه أزعج البيت الأبيض إلى حد بعيد، ودفعه للبحث عن رد مناسب يعيد هيبة الولايات المتحدة المتهاوية أمام إيران.
وجاء تلويح “ترامب” بإمكانية ضرب مواقع عسكرية داخل الأراضي الإيرانية، وقوله إنه تراجع عن هذه الفكرة في آخر لحظة حفاظا على أرواح عشرات الإيرانيين، محاولة لحفظ ماء الوجه وتخويف طهران في آن واحد، لكنها لم تحقق الهدف المنشود.
ووسط خلافات بين صقور وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي و”حمائم” وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، بشأن اختيار الموقف الأنسب من التحركات الإيرانية، عجزت واشنطن عن الاستجابة للتحدي حتى الأربعاء الماضي، عندما أعلن “ترامب” تدمير طائرة مسيرة إيرانية اقتربت من سفينة حربية أمريكية في مياه الخليج.
لكن هذا الرد، الذي كان يراد به الإعلان عن “الاقتصاص”، لم يرق إلى هذا المستوى على الأقل إعلاميا، بعد أن نفت إيران فقدانها أي طائرة مسيرة فوق الخليج، بل وسخرت من الجيش الأمريكي بافتراضها أنه قد يكون أسقط بالخطأ طائرة مسيرة تابعة له.
كما سارعت طهران إلى “دحض” الرواية الأمريكية بنشر تسجيل من كاميرا طائرتها المسيرة قالت إنه يثبت عودة الطائرة إلى قاعدتها بسلام، في حين فشلت “البنتاجون” حتى الآن في إظهار أي دليل على تدمير الطائرة المسيرة الإيرانية.
وفي تصعيد آخر، قررت إيران تثبيت مبدأ التعامل بالندية مع بريطانيا؛ فبعد سلسلة تحذيرات أطلقتها في وجه لندن على خلفية احتجاز سلطات جبل طارق التابعة للمملكة المتحدة ناقلة محملة بالنفط الإيراني قبل نحو أسبوعين، قامت قوات الحرس الثوري باحتجاز ناقلة نفط بريطانية في مضيق هرمز، واقتادتها إلى ميناء على أراضيها.
وتنفي طهران وجود خلفية سياسية لهذا الحادث، لكنها لا تمانع على ما يبدو أن تفسر لندن وحليفتها واشنطن ما جرى على أنه تطبيق لمبدأ “العين بالعين”.
وطالما يبقى الجميع في حالة ترقب بعد تهديد وزير الخارجية البريطاني “جيريمي هانت” لإيران برد بطريقة “مدروسة وقوية” على احتجازها ناقلة النفط البريطانية، تبدو طهران فائزة في هذه الجولة من المواجهة.
لكن الأحداث الأخيرة عززت نزعة خطيرة في مجريات التطورات في الخليج، وحول إيران؛ حيث يعتقد كل طرف أنه في موقع الدفاع، ويرد على “استفزازات” الآخر فقط، ولا يمكن أن يقل الرد قوة عن التحدي.
ومن دواعي القلق أن النتيجة التراكمية لهذا المنطق، وهذا السلوك تنذر بتصعيد سياسي عسكري، بوتائر متسارعة، وأبعاد متعاظمة، قد يخرج عن سيطرة الجميع.
احتمالات مفتوحة
يقول مؤلف كتاب عن حرب الناقلات “مارتن نافياس”: “لقد وسع الجانبان قدراتهما والاحتمالات باتت مفتوحة”.
ويضيف: “أصبحت إيران أكثر قدرة من أي وقت مضى على استخدام الألغام والغواصات والقوارب السريعة لمهاجمة وتدمير السفن العسكرية وسفن الشحن التجارية”.
ويستطرد: “لم تعد مجرد معركة في البحر، إن قدرة إيران على إسقاط طائرة استطلاع أمريكية متطورة يشير إلى معركة أخرى، هناك في الجو”.
لكن المحلل البحري في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية “اي اي إس إس” الأمريكي “نيك تشايلدز”، يقول إن “البيئة التي نعيش فيها اليوم وتبادل المتنافسين للإنذارات الغاضبة على وسائل التواصل الاجتماعي يجعل الأجواء محمومة”.
ويضيف: “لقد طغى فضاء المعلومات، الناس يشعرون بالقلق.. والخطر هو أن كل طرف يسيء قراءة الطرف الآخر”.
مضيق هرمز أخطر نقطة شحن في العالم؟
يربط مضيق “هرمز” غالبية سكان العالم الذين يعيشون على طول شواطئ آسيا وشرق أفريقيا بقلب الشرق الأوسط. وقبل فترة طويلة من اكتشاف النفط، كان المضيق بمثابة “الشريان السباتي” بالنسبة للعالم. ويمر 90 % من النفط المصدر من الخليج، أي نحو 20 % من إمدادات العالم، عبر مضيق “هرمز”. ويتسم الشحن عبر المضيق، الذي يبلغ عرضه 21 ميلا بحريا في أضيق نقطة له، بالكثافة والكثير من المخاطر.
وفي “مسندم”، المحافظة العمانية التي تقع على الجانب الجنوبي من المضيق، يمكنك سماع موجات الراديو الفارسي من إيران كما تسمع الإذاعات باللغة العربية تماما. وعلى طول الشواطئ الصخرية، تنتشر الجزر وأشباه الجزر في الأفق. وتجعل الحرارة والرطوبة والرياح الحارقة المناخ غير مضياف، ورغم ذلك لا تزال العديد من سلاسل الجبال والوديان القريبة من “هرمز” مأهولة بالسكان.