عبدالوهاب سنين
في ليلة من ليالي الشتاء الباردة, امتطت أناملي يراعي, لأنثر ما تجيش به خواطري, لكن ذلك القلم كان عصياً تمتام لا ينصاع, وراودته وداورته قائلاً: أيها القلمُ أما تعلم أنك لساني ومستودع أسراري, وبك أنثر أفكاري, ثم ألست من يجمل أوراقي ويخط كلماتي, فمالي أراك اليوم خلاف ما عهدتك بل وجدتك عيّيّ لا تجود بحبرك, كي أدون بك رحلتي.
قال القلمُ : سيدي لقد سئمت الانتظار, وأنت تداعب الكتابَ, وتقلب أوراقه دون أن يعتريك ملل من أنيسك كما تزعم, وهأنذا أُعلن خصامي للكتاب.
قلت : أيها القلمُ الغيور أتغار من الكتاب وأنتما صنوان لا يفترقان.
قال القلمُ : ومن يكون الكتاب حتى أغارُ منه, لولا حبري لكان مجرد مجموعة من الأوراقِ البالية لا لون فيها ولا حياة, سيدي أما تعلم أني أشرب الدُّجى وألفظ نوراً يستضاء به, أما تعلم أني إكسير حياة لتلك الأوراق المبعثرة, التي أمدها بحياةٍ سرمديةٍ تتحف القراء.
قلت : بلى , وفجأة صاح الكتابُ قائلاً : سيدي دعني أخاطب هذا المغرور.
قال الكتابُ : لا تنسى أيها القلمُ الجامح السادرُ في غلوائه, أني أنيسٌ في الخلوة يبحث عني من يهوى عباراتي, ويسعد من يتنزه في بستاني, وينال من قطوفي الدانية المُلح والنوادر, أما تعلم أيها القلم لولا أوراقي التي تسخرُ منها, لظللت أسيراً في جدران المحابر تغوص في ظلمات بعضها فوق بعض, ومع ذلك أنت الصديق الذي لا أستغني عنه مهما لدَّ بك الخصام, وهأنا أخبرك أنك سوف تذهب مع سيدي في رحلة أدبية, في رواق من أروقة الخيال, حتى تصلا بسلام, وتنزلا في ديار شاعر الحب والفلوات, وهو شاعر ذائع الصيت عذب الإشارة جميل الشارة.
قال القلم : أحقاً سنمضي إلى غيلان بن عقبة بن مسعود
قال الكتاب : نعم ستصحب سيدي إلى ذي الرُّمَّة.
قلت : أفٍ لكما فما أنتما إلا شن وافق طبقة, وذهبت إلى مهجعي وخلدت إلى النوم.
وفي الفجر الأبلج صليت فرضي, وجمعت أوراقي وحملت يراعي, وأعددت رواقي ووجهته صوب بني عدي بن عبد مناة مسقط رأس شاعر الحب والفلوات, وعند وصولي إلى تلك الديار البدوية سألت عن ذي الرُّمَّة, وقام أحدهم وأرشدني إلى مكان جلسته, وامتطيت راحلتي, حتى وصلت إلى وادي النخيل, واقتحمت على ذي الرُّمة خلوته, ورأيت أمامي شاعراً نحيل الجسم أخذ منه البيّنُ مأخذه, وكان شارداً يتأمل الطبيعة البدوية التي تمازج معها وأظهرها في شعره.
فقلت : السلام عليك يا ذا الرُّمَّة, فنظر إليَّ بعينين غائرتين ووجه شاحب منهك , تقرأ في عينيه العاطفة الملتهبة وكأنهما تنطقان باسم محبوبته ميّ بنت عاصم, وهي من أخلبت قلبه وسلبت عقله, وكان كالكروان يشدو الفلوات ويخبرها عن الحب المتضرم في لفائف قلبه المسلوب النابض بأحرف ميّ.
فقال ذو الرُّمَّة : بعد السلام من أنت أيها الفتى, هيئتك غريبة ورائحة عِطرك زكية, لم أستنشق مثلها قط, هلاَّ أخبرتني أي عِطر هذا.
قلت : أيها الشاعر العظيم خذ هذه الزجاجة, فشعرك مثل هذا العِطر يأسرني ويجذبني, وكيف لا أدمج العِطر بالعِطر.
قال : ولكن يابني, كما ترى حالي رثُّ الثياب, وتنعتي بالعطر هذا كرم منك يا فتى, ولكن أخبرني من أي أرضٍ أتيت, وما هو اسمك؟
قلت : أنا من اليمن النازفة جروح الأسى تلك التربة الحزينة المثخنة بالجراح, واسمي عبدالوهاب , وأتمنى مرافقتك في رحلتي هذه.
قال ذو الرُّمَّة : أيها المكلوم على وطنه, أرى الحزن قد أسبل ظله الكئيب عليك, ودمع عينيك يكادُ ينسكبُ, لا تأسى عما قريب سيعم بلاد الإيمان والحكمة السلام طالما وأنت تحمل هذا الحب لبلدك الأسيف, وتئن مثل ترابه وجباله, وأشجاره, لا تأسى يا بني, فقد آلمتني وزدت من همي, وأوجاعي.
قلت : يا ذا الرُّمَّة, لقد فقدت وطني وغاب بين ركام الحروب الضارية, أرى وطني يشيخ رويداً رويداً, ومع ذلك سأهواك يا وطني , وسأظل أضمد جراحاتك يا وجعي, نحن العرب أيها الشاعر القريب من القلب مازلنا في تناحر, واسمح لي أن أُلقي عليك شعراً, لم تسمع مثله قط, وهو شعرُ حر حديث قاله شاعر من عصرنا.
قال ذو الرُّمَّة : أسمعني يا عبدالوهاب, قلت : قال نزار :
لم تزل عقليّةُ العشيرَةْ
في دمنا كما هيَهْ
حوارُنا اليوميُّ بالخناجر
أفكارُنا أشبهُ بالأظافر
ولا تزال لفظةُ العروبَهْ
كزهرةٍ حزينةٍ في آنيَهْ
كطفلةٍ , جائعةٍ . . وعاريَهْ
نصلُبُها . . على جدار الحقد والكراهيَهْ
قال ذو الرُّمَّة : ما أبلغ هذه العبارات التي تسكن في أغوار النفوس , هي كما قال ناثركم, بل شاعركم نزار أحقادنا لا زالت كما هيَهْ, لغتنا الشقاق, والفرقة, والشتات, هيا يا بني, ألست تريد رفقتي ؟
قلت : هو ما أصبو إليه أيها الشاعر الرائق شعره الذائع صيته, فشعرك كما قال الإمام الشافعي ثلث اللغة العربية, وأقول لك أيها الشاعر العظيم أن صاحب (لسان العرب) ابن منظور استشهد بشعرك في كتابه في مواضع منثورة في ثنايا سِّفره, والتي بلغت ( 1043 ) موضعاً , وأما صاحب( التاج) فقد أورد من شعرك نحواً من (900) شاهد , وكلاهما أتى بعدك بعدة قرون غابرة.
قال ذو الرُّمَّة : يا بني, لك أن ترافقني, ولكن من أي عصر أتيت, وكيف استطعت لقائي؟
قلت : أنا من القرن الواحد والعشرين, وأتيت إليك عبر رواقي السابح في الخيال, وبه أتنقل بين العصور كما يحلو لي.
قال شاعر الحب والفلوات : هنيئاً لك يا بني هذا الرواق, هل ترافقني إلى الكوفة عبر رواقك؟
قلت : هذا فضل منك أيها الشاعر أن تأخذني معك وأعددت رواقي بصحبة إمام الشعراء وشيخ البلغاء غيلان بن عقبة بن مسعود, ومضينا باتجاه الكوفة, وفي الطريق سألني ذو الرُّمَّة قائلاً : يا عبدالوهاب أتحفظ شيئاً من شعري؟
قلت : أحمق من وقف عند بستانك ولم يلج إليه ويأكل من ثماره, فما أراه إلا أحمقَ حُرم خيراً كثيراً, وما شعرك إلا قلائد العقيان يكتب بماء الذهب, وبه نتذوق كلام العرب .
قال ذو الرُّمَّة : ما هذه الرق الذي تحمله يا عبدالوهاب؟
قلت : أحمل أعذب لحن دونه يراعك , أحمل أبياتاً تعتلج في النفوس , وترتكض في القلوب, أحمل ذكراك لميَّ, وفيها الألحان السواجع التي ما زلت ترددها أيها الشاعر المرهف.
قال : أسمعني يا فتى اليمن؟ قلت : أقول قولك الباكي :
لِميَّةَ أطلاَلٌ بحُزوى دَوَائِرُ
عَفَتْها السَّوَافي بَعْدَنَا والمَوَاطِرُ
كأنّ فُؤَادِي هَاضَ عِرفَانُ رَبْعِها
بِهِ وَعْيَ سَاقٍ أسلَمَتْها الجبائرُ
عشِيَّةَ مَسْعُودٌ يَقُولُ وقَدْ جَرَى
على لِحيتي مِنْ غَبْرةِ العَينِ قَاطِرُ
أفي الدَّار تَبْكي أنْ تَفرَّقَ أهلُها
وَأنْتَ امرؤٌ قَدْ حَلَّمَتْكَ العشائرُ
فَلا ضَيْرَ أنْ تَسْتَعْبِرَ العَيْنُ إنَّني
على ذاكَ إلا جَوْلةَ الدَّمْعِ صَابِرُ
فَيَا مَيُّ هَلْ يُجزَى بُكَائي بِمِثْلِهِ
مِراراً وأنْفَاسِي إليكِ الزَّوافِرُ
وَأنّي, مَتَى أُشْرِفْ على الجَانِبِ الَّذِي
بِهِ أنْتِ, مِنْ بَيْنِ الجَوانبِ نَاظِرُ
وَأنْ لا يَني يَا ميُّ مِنْ دُونِ صُحْبَتي
لَكِ الدَّهرَ مِنْ أُحْدُوثَةِ النَّفْسِ ذَاكِرُ
وَأنْ لا يَنَالَ الرَّكبُ تَهويمَ وَقْعَةٍ
مِنْ اللَّيلِ إلا اعتادَني مِنْكِ زائرُ
فَإنْ تَكُ مَيٌّ حَالَ بَيْني وبينَها
تَشَائي النَّوى والعَادِيَات الشَّواجِرُ
فَقَدْ طَالَما رَجَّيْتُ مَيّاً وَشَاقَني
رَسِيسُ الهَوَى مِنْهُ دَخِيلٌ وظَاهِرُ
وفي يوم من الأيام الصائفة, كنت بصحبة شاعر الحب والفلوات, ورأيت ظلاً يقترب نحونا, فإذا به الفرزدق, وكان ذو الرُّمَّة يُنشِد :
أمنْزِ ِلَتَيْ مّيٍّ سَلاَمٌ عليكُمَا
هَلِ الأزْمُنُ الَّلائي مَضَيْنَ رَواجِعُ
فوقف حتى فَرغَ مِنْها فقال : كيفَ ترى يا أبا فراسٍ؟ قال : أرى خيراً, فقال ذو الرُّمَّة : فما لي لا أُعدُّ في الفُحول؟ قال : يمنعُك عن ذلك صِفةُ الصَّحاري وأبعارُ الإبل))
فقال : ذو الرُّمة بصوت يشوبه الحزن : أسمعت يا عبد الوهاب قول الفرزدق؟
قلت : أيها الشاعر الآسر لا يضيرك قول الفرزدق في شيء , فقد وهبك الله قريحةً يتمناها أكابر الشعراء, ويكفيك أيها الشاعر العاشق فخراً وسموقاً, أن الفرزدق نفسه أغار على أبيات سمعك وأنت تُنشِدها, ومن أجلها سال لعابه, واهتدمها عليك ومنها قولك :
أحين أعاذت بي تميمٌ نساءها
وجُرِّدتُ تجريدَ اليماني من الغِمْدِ
ومَدَّت بضَبْعَيَّ الرَّباب ومالِكٌ
وعمروٌ وشالتْ مِن ورائي بنو سعدِ
وما أن سمعها الفرزدق, حتى قال: لا تعودنَّ فيها, فأنا أحقُّ بها منك.
ياذا الرُّمَّة ما أنت إلا شاعرٌ مُلهم استقامت له البحور, ولانت له اللغة, ولك أن تقلب حروفها كيفما تشاء لا ما شأت اللغة, ولقد شهد لك الفرزدق ومثله جرير عند أحد الخلفاء الأمويين بعلو منزلتك في الشعر, فقال لهما ذلك الخليفة طالما وقد شهدتما على شاعريته فهو أشعر منكما. أيها الشاعر الأسيف , ما أنت إلا وعاءً مليء بالجواهر النفيس, ومن ذلك الوعاء تمنى جرير بن عطية, أن تنسب له جوهرتك البائية الرائقة, والتي مطلعها :
(ما بالُ عَيْنِكَ مِنْهَا الماءُ يَنْسَكِبُ)
هلاَّ أسمعتني يا ذا الرُّمة تلك الخَريدة التي تمناها جرير وهو شاعر مجيد, إلا أن تكون أنت بحق أشعر من جرير والفرزدق.
قال ذو الرُّمَّة : أعرني سمعك يا عبدالوهاب أقول :
ما بالُ عَيْنِكَ مِنْهَا الماءُ يَنْسَكِبُ
كأنّهُ مِنْ كُلّى مَفْرِيَّةٍ سَرَبُ ( )
وَفراءَ غَرْفيَّةٍ أثأى خَوارِزُها
مُشَلْشِلٌ ضيَّعَتهُ بينَها الكُتَبُ
أَسْتَحدَثَ الركْبُ مِنْ أشياعِهمْ خَبَراً
أمْ رَاجعَ القلبَ مِنْ أَطرابِه طَرَبُ
ديَارُ مَيَّةَ إذْ مَيٌّ تُسَاعِفُنا
وَلايَرى مِثْلَهَا عُجْمٌ ولا عَرَبُ
بَرَاقةُ الجيدِ واللبّاتِ واضحةٌ
كأنّها ظبيةٌ أفضى بها لَبَبُ
بَيْنَ النَّهارِ وبينَ اللّيلِ مِنْ عَقِدٍ
على جوانبِهِ الأسْباطُ والهَدَبُ
عَجْزَاءُ ممْكُورةٌ خُمْصَانَةٌ قَلِقٌ
عَنْهَا الوِشَاحُ وَتَمَّ الجِسمُ والقَصَبُ ( )
ومنها :
لمياءُ في شفَتيْها حُوَّةٌ لَعَسٌ
وفي اللِّثاتِ وفي أنْيابِها شَنَبُ ( )
كَحلاءُ في بَرَجٍ صّفراءُ في نَعَجٍ
كأنها فضَّةٌ قد مسَّها ذهبُ ( )
تللك الفتاةُ التي عُلِّقتُها عَرَضاً
إن الكريمَ وذا الإسلامِ يُخْتَلَبُ ( )
لا أحسبُ الدَّهرَ يُبْلي جِدَّةً أبداً
ولاتَقسَّمُ شَعْباً واحداً شُعَبُ
زارَ الخيالُ لميٍّ هاجعاً لَعِبتْ
به التَّنائِفُ والمَهْرِيَّةُ النُّجُبُ ( )
ورأيت ذا الرُّمة وقد شَحب لونه وسال دمعه, وأردت إخراجه من حزنه وكمده, فقلت : لقد أثقلت عليك أيها الشاعر الذائع صيته, وأخبرك أني رأيتُ مياً في رواقي وقد أسنّتْ وبلغت من العمر عتيا, وكان محمد بن الحجاج الأسيدي الشاب يخاطبها قائلاً : ((يا ميَّة ما أرى ذا الرُّمَّة إلا قد ضيَّع فِيكِ قولهُ حيثُ يقول :
أما أنْتَ عن ذِكراك مَيَّةَ مُقْصِرُ
ولا أنْتَ ناسي العَهْدِ منها فتذكُرُ
تَهيمُ بها ماتستفيقُ ودُونها
حِجابٌ وأبوابٌ وسِتْرٌ مُسَتَّرُ
قال : فضحكت, وقالت : رأيتَني يا ابنَ أخي وقد وليتُ وذهبت محاسِني, ويرحم اللهُ غَيْلان , فلقد قال هذا فيَّ وأنا أحسنُ من النار الموقدة في الليلة القرَّة في عين المقرور, ولن تبرحَ حتى أُقيمَ عندك عُذره, ثم صاحت : يا أسماء, اخرجي, فخرجت جاريةٌ كالمهاةِ ما رأيتُ مثلها, فقالت : أمّا لمن شبّب بهذه وهويها عُذِر؟ فقلت : بلى, فقالت : والله لقد كنتُ أزمان كنت مثلها أحسنَ منها, ولو رأيتَني يومئذٍ لازْدَرَيْتَ هذه ازدراءك إياي اليوم, انصرف راشداً)) ( )
فضحك ذو الرُّمَّة وقال : يا عبدالوهاب رأيت مياً وقد أسنّتْ, فاذهب إلى ديارها وسترى أنها الشمس المتوهجة, والبدر المكتمل في كبد السماء تحرسه النجوم, عندها سترى كيف سال لها شعري وتغنى بها وجداني, إن ميَّا يا عبدالوهاب غِبُّ الندى الساكنة لفائف فؤادي, الساطعة في بنيات أفكاري, وبعد يوم حافل استأذنت شاعر الحب والفلوات, ومضيت في رحلة قصيرة إلى البصرة, وطوحت برواقي طوائح الزمن, حتى دخلت أحد أنديتها ورأيت حلْقةً عظيمة, وسمعت رجلاً يذم ذا الرُّمَّة وشعره, وتعالت الأصوات في ذلك المنتدى, وصاح شيخٌ عليه وقار الأدباء وحذق البلغاء فإذا به حماد الراوية فقال : قدِم علينا ذو الرُّمَّة الكوفة فلم نَرَ أحسنَ ولا أفصحَ ولا أعلمَ بغريبٍ منه, فغم ذلك كثيراً من أهل المدينة))( ) وذهب حماد الراوية إلى سبيله, ولكن ذلك الرجل لا زال يستنقص من ذي الرُّمَّة, وقال : لا أراه إلا راوية الراعي, فقلت : اسمع أيها الرجل قول من أردت إلصاق النقص فيه, وعن هذا الأمر قال ذو الرُّمَّة : (( أمَا والله لئن قيل ذاك ما مثَلي ومَثَله إلا شابٌّ صحِب شيخاً, فسلك به طُرقاً ثم فارقه, فسلك الشابُّ بعده شعاباً وأودية لم يسلكها الشيخ قط))( ) هل اكتفيت أيها السادر في غلوائه وتركت ذم من دانت بشعره العرب والعجم؟
قال الرجل : من أنت أيها الفتى المتغطرس, وكيف دخلت نادينا وتنافح عن ذي الرُّمَّة, ونحن أعلم به منك أيها الغريب, أذهب قبل أن أسيل شعري في هجائك؟
قلت : أنا صاحب الرواق القادم من اليمن, وكنت بصحبة ذي الرُّمَّة في بني عدي, وهأنذا في ناديكم, أسمع هذيانك , ونعتك لذي الرُّمَّة بما ليس فيه من مثالب, والذي أراه أنك أتيت بها من بضاعتك المزجاة, وإنك إيها الرجل تدعي أكثر مما تعي.
قال الرجل : أيها الفتى اليماني سأجعلك أضحوكةً بين الناس يتندرون بها, وترقب قريباً قصيدةً تجعل منك شذر مذر.
قلت : أما هجاؤك لي فلن يضيرني بشيء, ولن يسمع ذلك الهجاء سواي, وأنا كما ترى في رواق من أروقة الخيال, واعلم أن شعركَ لا تسيغه الأسماع, و ليس تحته طائل, وأما غيلان بن عقبة بن مسعود, فهو أحد سدنة الشعر, وشعره سامق سموق الجبال الرواسي, ولكن لصغر سنه وبدويته, قدمتم عليه جرير والفرزدق, ولكن من عرف قدره وشرب نقيع شعره فهو(( من جرير والفرزدق بمنزلة قتادة من الحسن وابن سيرين وكان يروي عنهما وعن الصحابة, وكذلك ذو الرُّمَّة, هو دونهما ويساويهما في بعض شعره))( ) وأُفحِمَ ذلك الرجل وغادر النادي وقام من مجلسه كأنما نقره ديك, وخرجت أيضاً من النادي, وذهبت إلى بغداد والتقيت بصديقي الوراق, ومكثت عنده كعادتي أُقلب في أسفاره, وأخبرته عن رحلتي إلى ذي الرُّمَّة, و قبل رحيلي أهداني ديوان ذي الرُّمَّة, وقفلت راجعاً برواقي إلى بني عدي وهناك وجدت شاعر الحب والفلوات مريضاً.
وفي أخر أيامه قال :
ياربّ قد أشرفَتْ نَفْسِي وقد عَلِمَتْ
عِلْماً يقيناً لقد أَحصيْتَ آثاري
يا مُخرجَ الرّوح من جسمي إذا احْتُضِرَت
وفارجَ الكَرْبِ زَحْزحْني عن النارِ
ومات غيلان بن عقبة عن أربعين عاماً, وهأنذا بعد رحلة رائقة بصحبة ذي الرُّمَّة, أعود برواقي إلى أحضان أمي الجريحة اليمن.