أحمد محمود أبو زيد
شهد شهر رمضان على طول التاريخ الإسلامي مَجموعَةً من الغزوات والمعارك الحربية، التي وقعت بين المسلمين وغيرهم من أهل الكفر، وكان النَّصْر فيها حليفَ المسلمين، ومن هذه الغزوات والمعارك: غزوةُ بدر الكبري، وفتْحُ مكَّة، وموقعة عين جالوت، وحَرْبُ العاشر من رمضان بين العرب وإسرائيل.
وانتصار المسلمين في هذه الغزوات والمعارك، التي وقعت في رمضان وهم صائمون – ليس من قبيل المصادفة، بل إنَّ لذلك دلالةً عظيمة، ترتبط بمعني الصيام وحقيقته، وما يُحدِثُه في نفس المسلم من تغيير.
فالشائع بين عامَّة المسلمين اليوم أنَّ الصيام مدعاةٌ للكسل والتراخي، والقعود عن العمل، وعدم إجهاد النفس والجسد؛ حتى لا يتأثر بالصيام، الذي يُمْسك فيه الإنسان عن الطعام والشراب والشهوة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ ولذلك نَجد أن إنتاج المسلمين في شهر رمضان يَقِلُّ عنه في الشهور الأخري، وأن بعض الحكومات في الدول الإسلامية تتجه إلى تخفيض ساعات العمل الرسميِّ في شهر رمضان؛ لتخفيف عبء العمل عن الصائمين، وهذا كلُّه يتنافى مع حقيقة الصيام كعبادة فرضها الله على عباده المؤمنين.
ولو كان هذا المفهوم عن الصوم قد ساد بين المسلمين الأوائل، لَمَا فَكَّروا في غَزو الغزوات، وخوض المعارك الحربية في شهر رمضان، ولكنَّهم فَهِمُوا حقيقة الصيام، ودوْرَه في تربية الإرادة، وتقوية العزيمة، ومساعدة المسلم على التحمل والصبر على الشدائد، والانتصار على الشهوات، فخاضوا الغزوات والمعارك الحربية وهم صائمون، واستطاعوا إحراز النصر في هذه الغزوات والمعارك، ولم يدفعهم صيامهم إلى تأجيلِ غَزْوَة أو معركة، بل على العكس من ذلك كان دافعًا لهم نَحْوَ خوض المعارك، وساعدهم على التحمل والصبر على الشدائد، ورَبَّى فيهم قوة الإرادة نحو النصر والظفر على العدو، مهما كان حَجْمُ قُوَّاته وقوة عتاده.
تقوية الروح الحربية
وبالنظر إلى معاني الصيام، ندرك كيف أنه وسيلة من وسائل تقوية الروح الحربية والقتالية لدى المسلم؟ وكيف أنَّه كان من العوامل التي ساعدت المسلمين على إحراز النصر في الغزوات والمعارك، التي خاضوها في شهر رمضان؟
فالصيام هو إمساك عن الطعام والشراب والجماع، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذه الأشياء التي يُمْسك عنها المسلم تشبع في الإنسان شهوتَيْن من أقوى الشهوات والغرائز، وهما شهوتا البَطْن والفرج، وكَبْحُ هاتين الشهوتين في الإنسان، وعدمُ إشباعهما فتراتٍ محدودةً من اليوم ليس بالأمر السهل على النفس، ولكنَّه أمرٌ شاقٌّ، ويحتاج إلى عزيمة قوِيَّة، وإرادة صلبة؛ لكبح النفس ومجاهدة شهواتها، فإذا صَبَر الإنسان على شهواته، كنتيجة من نتائج الصيام، تعوَّد على هذا الصبر، وقويت عزيمته وإرادته، وقوَّةُ العزيمة والإرادة لدى المسلم من عوامل انتصاره وتغلبه على كل ما يواجهه من تحديات، وليس هناك تَحَدٍّ أقوى من الحرب والمعارك القتاليَّة، التي يخوضها الإنسان المسلم؛ دفاعًا عن الحق، ودحضًا للباطل.
أول معركة في الإسلام
ولنا أن ننظر في بعض المعارك الرمضانيَّة التي دخلها المسلمون وهم صائمون؛ لندرك كيف كان النصر حليفهم؟ وكيف تفوقوا في هذه المعارك على عدوهم، فقد كان أول هذه الغزوات والمعارك غزوة بدر الكبرى، التي وقعت في رمضان من العام الثاني للهجرة، وهو العام الذي فُرض فيه الصيام، وكانت أوَّل معركة في الإسلام بين الحق والباطل، ولم يكن الهدف منها قطع الطريق على قافلة قريش التجارية، وإنما كان هدفها ضرب اقتصاديات العدو، واخْتِبار قدرات المسلمين القتاليَّة لأول مرة، وامتحانَهم للتعرف على مدى استعدادهم عمليًّا للجهاد بالنفس والنفيس.
وفي بدر كانت موازين القوي في صالح المشركين، على أساس الحسابات المعمول بها في العلوم العسكرية؛ فقد كان عدد جيش المسلمين 300 جنديٍّ، وجيش العدو يزيد على ألف جندي، هذا إلى جانب التفوق في السلاح والعتاد، ولو عرضنا هذه الموازين على مُحَلِّلٍ عسكري، خبير بفنون الحرب والقتال، لَتَوَقَّع انتصار الكفار على المسلمين.
ولكنَّ هناك أمرًا واحدًا قلب هذه الموازين، وجعلها في صالح المسلمين، وهو الإيمان والعقيدة، فالمؤمن في بدر كان يقاتل؛ دفاعًا عن دينه وعقيدته، ولا ينتظر إلاَّ أحَدَ أمرين: النصر أو الشهادة؛ لذلك كان الواحد منهم بمثابة عشرة من الذين لا يؤمنون؛ قال – تعالي -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65].
وأمام قوة الإيمان والعقيدة، استطاع المسلمون الصائمون أن يحرزوا النصر العظيم، على العدو المتفوق في العدد والعتاد والسلاح، واستشهد منهم أربعةَ عشرَ رجلاً، بينما قُتل من المشركين سبعون رجلاً، وأُسِر سبعون آخرون، ولم تستغرق المعركة أكثرَ من يوم واحد.
Prev Post
Next Post