الصومال في الاستراتيجية الاسرائيلية: من الحضن العربي إلى الحضن الإرهابي (1 – 2)
محمد محمود مرتضى
تعتبر الصومال بوابة للقرن الإفريقي ومن العناصر الرئيسة المكوِّنة لتلك المنطقة، ومن هنا فإنها تُمثل أهميةً قصوى في التوجه العام للسياسة الخارجية الإسرائيلية تجاه إفريقيا.
واذا تأملنا في الخصائص الاستراتيجية لتلك المنطقة سنجدها فريدة، فإضافة الى تقاطعها مع مناطق جيوـ استراتيجية عدة، فهي تتمتع بأهمية جيوبوليتيكية كونها تطل على خليج عدن والمحيط الهندي، وتشرف على مدخل باب المندب الجنوبي، والطريق الى البحر الأحمر، وقناة السويس، وتقترب من حقول النفط بالشرق الأوسط.
لجميع هذه العناصر، أولى الكيان الإسرائيلي اهتماماً خاصاً وبالغاً للصومال، وأعطاها زخماً كبيراً في سبيل محاولات التغلغل فيها.
حاول الكيان عدة مرات تأسيس علاقات دبلوماسية مع الصومال، وتطبيع العلاقات معها في مختلف المجالات، الا أن المتغيرات الأمنية المتصلة بتنامي ظاهرة القرصنة أمام السواحل الصومالية وتهديدها لحركة التجارة العالمية من جهة، ونشاط حركة الشباب الصومالية المصنفة “إسرائيلياً” حركة إرهابية من جهة أخرى؛ جعلت من الصومال الغائب الحاضر في العديد من الاتفاقيات والمحادثات الأمنية بين “إسرائيل” ودول المنطقة، وفي مقدمتها كينيا وإثيوبيا. وقد جعل ذلك الصومال هدفًا للتغلغل الإسرائيلي، لا سيما خلال السنوات القليلة الماضية.
* “اسرائيل” والصومال في عهد الحضن العربي
اتجهت “إسرائيل” في سياستها تجاه إفريقيا إلى محاولة تطبيق استراتيجية استباقية كمقدمة لإيجاد قاعدة لها في وقت مبكر، وقد أُقِرَّتْ هذه الاستراتيجية على نحو رسمي في 14 يناير من العام 1958م، حينما اجتمعت وزيرة الخارجية الصهيونية غولدا مائير بكبار المسؤولين في وزارتها، وأقرت استراتيجية تقوم على استغلال أية فرصة للولوج في إفريقيا، خاصةً تلك الدول الافريقية التي كانت تقترب من الحصول على الاستقلال. واتجه الكيان الاسرائيلي قبيل استقلال الصومال بعدة أشهر، إلى التمهيد لإقامة علاقات معه؛ حيث التقت مائير شخصياً بالدكتور محمد جيو (أحد قادة حركة المقاومة الصومالية) في أواخر عام 1959م، خلال وجوده في ليبيريا وعرضت عليه مساعدة إسرائيلية اقتصادية للصومال بعد الاستقلال.
وفي 6 / يونيو من العام 1960، قام راحاميم تيمور، مسؤول وحدة تشغيل العملاء في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، والقنصل الأسبق في أديس أبابا؛ بزيارة مقديشيو، حيث اتصل هناك بكلٍّ من عبد الله عيسى (رئيس وزراء الصومال)، ومحمد جيو (الذي أصبح وزيرًا للدستور)، وأعاد تقديم العرض الذي قدمته مائير.
وفي الثلاثين من شهر / يونيو عام 1960م، بعث الرئيس الصهيوني إسحاق بن زئيفي ببرقية تهنئة للرئيس الصومالي بمناسبة استقلال بلاده، أعلن فيها اعتراف “تل أبيب” بالدولة الصومالية الجديدة، إلا أن الحكومة الصومالية تجاهلت البرقية.
وفي المقابل تبنَّت الصومال خطًّاً قوميًّا معاديًا للكيان الإسرائيلي، وانضمت إلى جامعة الدول العربية، أي: أصبحت دولة عربية، وباتت الصومال تُعِدُّ نفسها في حالة حرب مع الكيان، بحكم انتمائها للعالم العربي؛ وبذلك قطعت الطريق أمام محاولاته تأسيس علاقات دبلوماسية معها؛ الامر الذي كون قناعة في “تل أبيب” بضرورة توثيق علاقاتها بأديس أبابا ضد هذه الدولة الجديدة.
لم تكن نشأة الصومال الحديثة خالية من المتاعب، فقد واجهت منذ استقلالها مشكلة حدودية تاريخية بينها وبين إثيوبيا حول إقليم “أوجادين” (أرض الصومال الغربي)، وهي الأرض التي تنازلت عنها بريطانيا لإثيوبيا في الرابع والعشرين من شهر / سبتمبر عام 1948م. هذه المشكلة الجديدة ترتب عليها تدهور شديد في العلاقات مع إثيوبيا منذ الشهور الأولى للاستقلال، في الوقت الذي تقاربت فيه الصومال مع مصر التي دعمت المطالب الصومالية في أوجادين. هذه العلاقة مع مصر اثارت قلقًا في أديس أبابا التي وثقت بدورها العلاقة مع إسرائيل، وصولا لقيام الإمبراطور الاثيوبي “هيلا سيلاسي” بطلب المعونة العسكرية من الإسرائيليين الذين استجابوا لطلبه.
لقد كان واضحا أن ثمة استراتيجية إسرائيلية تتبلور بسرعة وهي استراتيجية مناهضة للصومال وذلك في وقتٍ مبكِّرٍ نسبيًّا، من خلال الاستقرار على رأي بدعم إثيوبيا أمنيًّا وعسكريًّا، وقد ظهرت تجليات هذه الاستراتيجية إبَّان الزيارة التي قام بها “إسحاق رابين” نائب رئيس أركان الجيش الصهيوني ـ آنذاك ـ إلى أديس أبابا أواخر شهر أبريل ومطلع شهر / مايو من العام1961 م؛ حيث التقى بالإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي، وتركز اللقاء حول الوضع الأمني المتوتر على الحدود مع الصومال وأظهر الكيان الاسرائيلي تأييدًا كبيراً للموقف الإثيوبي ضد الصومال.
كان شهر / يناير من عام 1964 موعداً لانفجار أول حرب على الحدود بين إثيوبيا والصومال ولم تتوقف إلا بعد تدخُّل منظمة الوحدة الإفريقية ودعوتها طرفي النزاع إلى وقف إطلاق النار بينهما في منتصف شهر فبراير من العام نفسه (1964). لقد اظهرت الحرب اداء غير مقنع للقوات الإثيوبية وهو ما ادى للمزيد من الارتماء في الاحضان الاسرائيلية، ودفع بــ”إسرائيل” لإعطاء الأولية لتدريب قوات حرس الحدود الإثيوبية.
وبعد أكثر من عشر سنوات، أي عام 1976م؛ اشتعلت الأوضاع في إقليم “أوجادين” حيث كثَّفت قوات جبهة تحرير الصومال الغربي ـ التي تشكلت في عام 1963 للمطالبة بحق تقرير مصير الإقليم ـ من عملياتها العسكرية ضد نظام الدرج (المجلس العسكري الإداري المؤقت) الذي تولى السلطة في إثيوبيا بعد الاطاحة بهيلا سيلاسي في سبتمبر 1974.
عندما نشب نزاع مسلح بين إثيوبيا والصومال بين عامي -1977 1978 م حول إقليم أوجادين؛ كان ثمة اعتقاد إسرائيلي أن أوجادين اذا ما استقلت فإنها ستنضم إلى الصومال، ما يعني توسع الحدود الصومالية على حساب إثيوبيا، وهذا ما وصفته إسرائيل بالخطر عليها، على اعتبار أن الصومال يمثل أحد أطراف صراعها مع العرب، وأن أية زيادة في قوتها ـ أي الصومال ـ تعني مزيدًا من القوة “للعدو”. وقد عبَّر رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، عن رؤية تل أبيب للصراع بين إثيوبيا والصومال، عندما اعتبر أن “إسرائيل” لديها اهتمام بالغ بعدم رؤية البحر الأحمر والقرن الإفريقي خاضعًا لهيمنة العرب، وخاصة مِن قِبَل مَن أسماهم بالعرب “المتطرفين”.
وقد ظهر هذا الدعم عندما تدهور وضع الجيش الإثيوبي إبَّان الحرب، حيث أرسل “بيغن” خطابًا إلى الرئيس الأمريكي جيمي كارتر يحثُّه فيا على مساعدة إثيوبيا في مواجهة الصومال، الا ان الادارة الاميركية رفضت ذلك.
الا أن الغريب ان الحرب الصومالية الاثيوبية اسفرت عن ظهور محور وصفته الصومال “بالخسيس” يتألف من: “موسكوـ تل أبيب ـ هافانا ـ أديس أبابا”، يهدف إلى اغتيال حق تقرير المصير الوطني الصومالي.
ولم تكد تنهي هذه المرحلة حتى دخلت الصومال في مرحلة الحرب الاهلية التي أدت لتفكك الدولة ودخولها في صراع داخلي مرير سيؤدي في مراحل لاحقة الى ظهور