أ. أحمد عبدالله الكحلاني
خلق الله سبحانه هذا الإنسان وسخَّر له ما في السماوات وما في الأرض وأعطاه من القوى والقدرات والطاقات ما يستطيع أن يرتقي به في مدارج الكمال .. ولكن الكثير من بني الإنسان يستغل ما وهبه الله من النعم والقدرات في إشباع رغباته والاستجابة لأهوائه ، ولأن الإنسان يملك الحرية والقدرة على فعل الخير وفعل الشر فقد وضع الله ميزاناً دقيقاً يتعامل من خلاله مع الأشياء من حوله وصراطاً مستقيماً ينجو من سار عليه فيسعد من سلكه ويشقى من تركه ، والله سبحانه لم يخلق الإنسان عبثاً ولم يتركه سدى بل حدد له حدوداً وسن له شرائع وأوضح له الأحكام ودله على الطريق وخلق كل شيء بقدر، فجعل لكل إنسان حقوقاً وواجبات يسير بتوازن بينهما، فلكل واجب مقدار ولكل حق ميزان يجب أن يراعيه هذا الإنسان بلا إفراط ولا تفريط.
وهذا هو الميزان الذي سيحكم هذا الإنسان في كل تعاملاته ولم يخول الله سبحانه الناس أن يحددوه ولم يجعل تبيينه متروكاً للنظريات البشرية بل تولى سبحانه وضعه فقال تعالى :{ وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَان}.. فالذي وضع هذا الميزان هو رب السماوات والأرض الرحمن الرحيم الحكيم العليم الذي يعلم ما يُصلِحُ هذا الإنسان وما يفسده ، ما يسعده وما يشقيه .. فالميزان هنا عبارة عن العدالة والحق في كل الأشياء وَوَضعِ كل أمر في موضعه الصحيح .. فتعاملُ الإنسان مع نفسه يجب أن يكون خاضعاً لميزان العدالة ، وتعامل الراعي مع رعيته يستوجب خضوعه وانقياده لهذا الميزان ، وتعاملُ الولد مع والديه مثلاً يجب أن يخضع لهذا الميزان ، والزوجين في تعاملهما يراعيان هذا الميزان أيضاً ، والتاجر في تجارته ، وكذلك الطبيب ، والمهندس ، والقاضي .. يتعامل الجميع وفق ميزان العدالة والحق؛ وإلا وقع الخلل في كل مناحي هذه الحياة .. فإذا تم تجاوز هذا الميزان سُمِّيَ التجاوز طغياناً ودخل جميع المتجاوزين في الطغيان، ولا فرق عند ذلك بين كبير و صغير .. قال سبحانه :{ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَان، أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَان}.
إن الميزان المذكور في هذه الآية أعم من آلة الوزن في البيع والشراء؛ لأن الملاحظ أن الله ذكره في هذه الآيات بين ذكره للسماء والأرض؛ فهو ميزان يحكم السماوات والأرض {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُون} { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَار} فالميزان رمز للعدالة والأحكام الإلهية التي تضع الأمور في مواضعها ، وقد ذكر المولى جل وعلا أنه أرسل الرسل وأنزل معهم الكتاب والميزان لأجل أن يصل الناس لهذه العدالة الدقيقة فقال جل وعلا:{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ…}الآية.
والطغيان هو تجاوز الحد في أي أمر .. قال سبحانه :{ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة} أي زاد زيادة متجاوزاً حده ، والطغيان ملازم للميزان ، فلا يمكن أن يكون طغيان إلا وقد وُجِدَ ميزانٌ حدد لكل شيء حدوده وبيّن أحكامه ، فمن تجاوز تلك الحدود سمي طاغية لأنه أخلّ بما وضعه الله من الموازين ، فعندما يظلم الراعي رعيته ويتجاوز صلاحياته يسمى طاغية ، وإذا أساء الإنسان تعامله مع والديه سمي طاغية ، وإذا عامل زوجته بتكبرٍ سمي أيضاً طاغية .. ولذا قال المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم في معنى حديثه (قد يحشر المرء مع الفراعنة والجبابرة ولا يملك إلا أهله) .. ولأن الطغيان هو اختلال الموازين السليمة فقد رتب عليه المولى جل وعلا الفساد في الأرض فقال سبحانه: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَد، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَاد} فالفساد في هذه الحياة من الظلم والقتل والغش المستشري وانحطاط القيم وخيانة الأمانة والركون إلى الذين ظلموا وأخذ أموال الناس بالباطل وغير ذلك من مظاهر الفساد .. سبب كل ذلك هو الطغيان.
إن الاستمرار في الطغيان والتمادي فيه عاقبتُهُ وخيمةٌ في الدنيا والآخرة، فقد توعد الله سبحانه بغضبه للطاغين قال سبحانه :{وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} وقال جل وعلا {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا، لِلْطَّاغِينَ مَآبًا).
سبب الطغيان
وسبب طغيان البشر ذكره الله سبحانه في كتابه الكريم؛ بل في أول ما نزل من القرآن فقال جل وعلا: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} فالسبب الرئيسي لوجود الطغيان في نفسية الإنسان هو أن يرى نفسه مستغنياً كما ذكرت الآية الكريمة ؛ فإذا ما رأى الإنسان نفسه مستغنياً طغى وتكبر ولم يلتزم بشيء؛ لأنه يظن أنه غير محتاج لأحد، وأنه يملك ما يسد كلَّ احتياجاته ، وهذا الظن الفاسد هو ما يجعل الإنسان يعيش حالة الغرور والتعالي ، وهذا الوهم السقيم هو ما يغير نفسية هذا الإنسان ويجعله أسيراً لخيالاته الباطلة وغروره المزيف ، فأول الطريق للتخلص من هذا الداء الخطير هو معرفة الإنسان نفسه ، أن يعرف أنه مفتقر إلى الله سبحانه أن يستشعر الحاجة الى خالقه الذي وهبه الحياة وأن يعيش حالة الافتقار إليه في كل أوقاته وأن يقرر في أعماق نفسه أنه يستمد وجوده وحياته وصحته وعقله وسمعه وبصره ورزقه من الله سبحانه الذي يمده بتلك النعم وغيرها في كل وقت.
إن حالةً يصل فيها الإنسان إلى عدم ملاحظة حاجته وافتقاره الى مولاه الذي خلقه ورباه هي حالة خطيرة تجعل من ذلك الإنسان طاغية لا يبالي بشيء ولا يهتم لشيء؛ يعصي خالقه وربه الذي يرعاه في كل شؤونه ويدبر أمره في كل وقت ، ويمده في كل لحظة بالحياة ، والعقل ، والسمع ، والبصر، والصحة ، والرزق ، وغيرها من النعم التي لا يحصيها إلا الباري سبحانه وتعالى ..
من وسائل علاج الطغيان
ذكر الله سبحانه عدة خطوات لكي يتخلص الطاغية من طغيانه يجب أن يسلكها بالترتيب الذي ذكره في كتابه فقال سبحانه {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} في هذه الآية يذكر الباري سبحانه ثلاث خطوات الأولى: التزكية ، والثانية : الهداية ، والثالثة : الخشية.
فهذه الخطوات بهذا الترتيب كفيلة بتخليص الإنسان من طغيانه ، فالأولى وهي التزكية تعني الطهارة والنقاء من المعاصي الظاهرة والباطنة أن يتطهر الإنسان من أوهامه وكبره وغروره ، يتطهر من حقده وغله وحسده ، يتطهر من المال الحرام ، والكلام الحرام ، والقدح في أعراض الناس ، هذه الطهارة والزكاة ضرورية لبداية صحيحة نحو الله سبحانه ؛ لأن الخطوات التالية مترتبة عليها ، فالهداية لا يمكن أن تحل في قلب يملأه الغرور والكبر والأوهام الفاسدة ، هداية الله لا يمكن أن تحل في قلبٍ صاحبُهُ متلطخٌ بمظالم العباد سواءً أعراضهم ، أم دماؤهم ، أم أموالهم .. فهداية الله لا تحل إلا في قلب نظيف طاهر من الآثام الظاهرة والباطنة ، في قلب بدأ يعرف حقيقة نفسه وافتقارها وحاجاتها؛ فإذا حلت الهداية في قلب سارت به نحو الله حتى يعرفه هذا الإنسان ، فإذا عرف الله سبحانه حق المعرفة تولدت في ذلك القلب الخشية منه تعالى ..
إن الخوف والخشية من الله هي الأساس الذي سيجعل الإنسان يمتنع عن طغيانه ويلتزم بالميزان الذي وضعه الله في كل الأمور، ولهذا جعل الله في كتابه الطغيان في مقابلة الخوف منه جل وعلا فقال {فَأَمَّا مَن طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} ومن الملاحظ في هذه الآيات أن الطغيان وإيثار الحياة الدنيا متلازمان ، كما أن الخوف من الباري ونهي النفس عن الهوى متلازمان أيضاً ؛ وذلك لأن الخوف من الله سبحانه يولِّد عند الإنسان الالتزام بميزان الله وهو ما يعني الامتناع عن الأهواء والرغبات ؛ وذلك ما يجعل الإنسان سعيداً في الدنيا فائزاً في الآخرة.