التاريخ يصنع وعينا (21): في مقام الإمام الحسين 1-3
حمود عبدالله الأهنومي
في مقام الإمام الحسين وثورته الخالدة يجدر بهذه الأمة أن تستمع للدروس الرائدة التي استلهمَتْها من كربلاء عبر أثيرها الخالد المتضوِّع بمسك دماء السبط الشهيد سلام الله عليه، والتي يتردّد صداها في كل زمان ومكان؛ إذ يُفْتَرَض أنه حينما يكون هناك ظلم وانحراف فإنه بالضرورة الحسينية يجب أن يكون هناك ثورة، وحيثما يكون هناك يزيد فيجب أن يكون هناك الحسين.
إن الاستفادة من التاريخ عظةٌ قرآنية، وهديٌ إلهي، أما إذا كان استحضار شخصية تاريخية بحجم الإمام الحسين؛ لتأخذ منه الأمةُ ذلك العزمَ والثبات والعزة، وقد ظهر بها وحيدا يتحدّى جحافل الطغيان والجبروت، ليكون أفراد هذه الأمة على شاكلته في قضاياهم المعاصرة، وليكون لنا حسينيون في مواجهة مشاريع الاستكبار والاستبداد – فإن ذلك هو الدرس العميق والأصيل والتليد والخالد والذي يجب أن نهديَ أنفسنا وأجيالنا إلى الاستماع إليه بإنصاتٍ ووقار وحسن استجابة.
الحسين سلام الله عليه وثورته الخالدة دروسٌ لا تنتهي، فكلُّ موقفٍ وقفه يمكن الإفادة منه، وكلُّ كلمة قالها بإمكانها أن تهدي أمما كثيرة، وكل صرخة لوّح بها ضد الظالمين لا تزال تهزِم كلَّ غليظٍ متكبر، وما يحدث في بلدنا من ثبات مجاهديه الحسينيين اليمانيين أكبر دليل وشاهد على ذلك.
مشكلة المسلمين أنه ينقصهم الوعي بالتاريخ، وقُدِّر لهذه الأمة من بنيها مَنْ يجلد ظهرَها بسياط التبديع والتضليل إن احتفت بشهيد، أو احتفلت بعيد، ولعل تحرك المبدِّعين والمضللين لمَنْ يحتفل بأعلام الأمة كان بإيعازٍ من طغاة الأمة؛ حيث هم المتضررون من أي احتفاء واحتفال وتذكّر ذكرى.
منهج الظالمين لا يختلف زمانا عن زمان، ولا مكانا عن مكان، وقوة الحق الجبارة والخالدة لا تقف عند أيِّ منهم، والظالم اليوم الذي تواجهه الأمة تحت أيِّ مسمى هو ذلك الظالم الذي واجهه الحسين، فإما أن نستدعيَ الحسين معلّما يلقّننا مبادئَ العزة والكرامة وأخلاقَ العظماء، وعطاء الشهداء، فندخرَها لمواجهة المستبدين، وتدمير الظالمين، وكسر المتكبرين، وإما أن نذهبَ نحو أساتذة الفراغ، وأعلام اللامبالاة، ورجال اللاموقف، فنكون من أشباههم، ونسخا على منوالهم، يعبث بنا الظالمون كيفما أرادوا، ويتفننون في سحقنا وسحق كرامتنا وعزتنا كما شاؤوا.
ظل الحسين عليه السلام يشكِّل الهوية الحقيقية للإسلام المحمدي الأصيل، حينما أثخن الأمويون الجراح في جسد الإسلام، واستعادوه مصلوبا على أعواد الجاهلية – بعث الحسينُ ومبادئُه وأخلاقُه وثورتُه الحيويةَ المطلوبةَ لاستعادة الدين والإسلام في صورته الناصعة والقوية، كان لا بد إذًا من زلزلةٍ مجتمعية تفضَحُ الفكرَ المهادن للظالمين، والثقافات المغلوطة التي هيّأت الساحات لحكمهم، كان لا بد من صوتٍ عالٍ يُسْكِت كل ذلك الصخَب المنحرف الذي شوّش على صوت الفطرة الإسلامية، وإن كان ثمنه رأس الحسين يتلعّب به سفهاء الأمة من بلد إلى بلد.
اليمنيون اليوم وهم يقفون في ذات المكان الذي وقف فيه الحسين عليه السلام، والأمة المسلمة كل الأمة، وقد أذاقها اليهود والنصارى وأولياؤهم ألوانَ العذاب، ما أحراها أن تصلي في محرابه، وأن تستمع إليه وهو يَخْطب في عزتها، ويستثير نخوتها، ويستنبِت مجدها، ويدلها على خير دينها ودنياها. وإذا كانت مشكلة الأمة وزعاماتها هي فقدان الثقة بذاتها وبحضارتها أمام المستعمرين الجدد، حيث المشكلة تربوية نفسية، بسبب ضعف المناهج الدراسية وهجران القرآن الكريم وتعاليمه فيها، والركون إلى بدائل بشرية، أورثت كل ذلك الضعف والتراجع، وبهذا تنكبت الأمة بعمدِ عامدٍ سبيلَ العظماء أمثالَ الحسين وزيد والنفس الزكية.
جدير بنا اليوم وبكل الأجيال أن نأخذ تلك الدروس اللازمة من ثبات الحسين وكبريائه وعظمته أمام أولئك الطغاة المذنبين، ما أجدر بنا أن نستخرج أولئك العظماء ذوي الثقات العالية ليفيضوا علينا مما آتاهم الله من فضله.
طالما شكّل الإمامُ الحسينُ وأهلُ بيته الثوار الأحرار، وأولهم حفيده الإمام زيد بن علي النهر المتدفق بالعطاء الذي ليس وراءه ولا مثله عطاء، فأصبحوا القدوات لكل الثوار الأحرار في العالم، وكانوا منارات هتاف الحرية ونداء القوة الناصع.
هذا الصوت الحسيني (هيهات منا الذلة) صنَعَ أمما لا يشق لها غبار، وخرج من ظلاله أسودٌ لا يرهبون الطغيان، كان الحسين إمامهم وقدوتهم، وشعاره شعارهم، أعجزوا الاستبداد والاحتلال، ودوّخوا الاستكبار والعمالة، وها هو شعبنا اليمني في صموده وثباته ومواجهته المعجزة لقوى الطغيان في هذا الكون بركة من بركات مدرسة الإمام الحسين عليه السلام.
ما كان الحسين إماما للشيعة، بل هو قبلة لكل الأحرار الثوار المسلمين، بل إنه قبلة كل الذين يريدون تناول النصر من قوة الصبر، ألم يقل زعيم الهند ومحررها (غاندي): “على الهند إذا أرادت أن تنتصر أن تقتدي بالحسين”.
الإمام الحسين في ثورته الخالدة قيمة حضارية كبرى، وتراثٌ إنساني خالد، ومجدٌ عظيم انتصر للحق في كل الأجيال، وانحاز للإنسان في كل المراحل، وهز ويهز الطغيان والاستبداد والانحراف في كل الوجوه؛ لهذا لا غرابة أن بقي الحسين منار الهداية .. ومعلم الحرية .. وأستاذ الأحرار .. وإمام الشهداء وسيدهم في دنيا الأحرار وآخرةِ الأبرار.
التاريخ يصنع وعينا 21/صـــدام عقيـــل /ج6