د. ابتســـــام الـمتـــوكل
برحيل المثقف هشام علي بن علي يتوارى عن المشهد الثقافي اليمني فارس من آخر رجالاته المحترمين.
لا يرحل أمثال هشام علي إلا بتلك الطريقة الهادئة التي لم تثر ضجيجاً، لكنها خلّفت فجيعةً في كل قلب عرفه خصوصا نحن الذين اقتربنا منه في الفترة الأخيرة قبل رحيله المباغت الأليم!
في برنامج الفعاليات المصاحبة لمعرض وقفية عبادي الثقافية كان من أكثر المتحمسين للوقفية وبرامجها، وقد شارك بـمحاضرة قيمة عن القراءة في زمن متغيِّر ولم يتذمَّر من أنه لم يكن منفرداً، وهو الجدير بالفرادة والانفراد، يومها قدَّم كعادته درساً كبيراً في تواضع الكبار، وأرانا فضيلة الإصغاء لكل صوت، حتى لو كان مغموراً، وحين أخبرناه عن فعالية مقبلة تخص الشاعر الأنبل محمد حسين هيثم، أعلن مشاركته في التفاتة وفاء لا تصدر إلا من عظماء بحجم هشام علي، في تلك العشية استضأنا بذكرى ميلاد الشاعر الاستثنائي البديع محمد حسين هيثم، ولم نصدق أعيننا حين أتى محتفياً الأستاذ هشام علي!
يومها كان في كامل تجليه ضاحكاً ومستحضراً لجوانب من إنجازات هيثم النقابية المتميزة، ولم يدر بخلد أي منا أنه كان يحتفي بـمن سيلتقيه عما قريب، وأن حفل الميلاد كان أيضاً حفل وداع للأستاذ هشام علي!
هشام ذلك الكائن المترع بالتواضع على عمق لا يـمتلكه كثيرون، ذلك الإنسان الذي يـمشي على الأرض هوناً، حتى لا تكاد وقع خطواته تحس، لكن وقع كلماته ومواقفه وكتاباته تعيد الاعتبار لحضوره الوازن في مشهد ظلم كثيرين رغم فرادتهم ونبوغهم ومنهم الكاتب والمفكر الأستاذ هشام علي بن علي.
كأني أراه قادماً من عدن إلى صنعاء، في زمنٍ تسعيني ملون بأحلام المثقفين ومنصاع لنبوءاتهم بتوحُّد جسد ما كان يجب أن ينشطر في الأصل؛ قادماً من شغف البحر ليقع في غرام الجبل، ولهذا لم يفارق الجبل الذي سحره، ولم يتخلَّ عن محبة البحر أيضاً !
هشام علي جاء إلى صنعاء في مفتتح زمنٍ يـمني جديد، لكنه جاء وقد أنجز لاسـمه كتابة يجدر بها أن تقدمه واحداً من أسـماء قليلة تحفر في فلسفة الثقافة وتفكِّك بنياتها وتعيد قراءتها بوعي فردي حر؛ فمنذ 1984م كان قد أصدر كتابه (الثقافة في مجتمع متغير)، ومع مستهل وجوده في صنعاء أصدر كتابه (فكر المغايرة 1990م) ولم ينصرم العقد التسعيني إلا وقد أصدر كتاباً بعنوان (الخطاب الروائي اليمني 1994م)، ومع أنه توقف عن الإصدار مدة ثـمان سنوات بعد ذلك إلا أنه قضى تلك السنوات في اشتغالٍ ثقافي دؤوب ظهر أثره في عام 2002م الذي أصدر فيه (السرد والتاريخ في كتابات زيد دمّاج) و(عبدالله محيرز، وثلاثية عدن)، وفي العام الموالي 2003م أصدر كتابين جديدين هما: (المثقفون اليمنيُّون والنهضة) و(مجازات القراءة)، وكتاب (المثقفون اليمنيُّون والنهضة) كان مشروعاً فكرياً بحد ذاته، أو هو كما قال عنه الأستاذ هشام نفسه: (كان أمامي، على طاولة الكتابة منذ نحو عشرة أعوام تقريبًا، وبعد أن انتهيت من الكتابة عن فكر إدوارد سعيد، مشروع مواصلة كتابي عن “المثقف اليمني والنهضة”.. الكتاب الذي أهتم فيه بدراسة التطور الفكري والسياسي منذ بدايات القرن العشرين، وأهتم على نحو خاص بدور المثقف في الحركة الوطنية حتى مشارف الثورة، وقد وضعتُ مخططًا للجزء الثاني من الكتاب، يستأنف المرحلة الثانية من الجمهورية إلى الوحدة.. ولا يتوقف الكتاب عند تحقيق الوحدة، بل يستأنف إلى اليوم.)
لم ينسَ هشام علي بن علي، وهو يتفانى في العمل الإداري، أن يعبر بتميز لافت عن قدرة المثقف الحق على وضع المسافة اللازمة بين الوظيفة والانتماء الثقافي، وابتعد كما يليق بـمثقف يحترم فكره عن دهاليز التسييس وبيع الكلمة أو رهن الموقف؛ فكان الموظف الوحيد على حد علمي بدرجة وكيل وزارة الذي غادر الوزارة حين تعرضت روايةٌ وناشرها لمحاكمة قمعية غير ثقافية أو إبداعية؛ وحده هشام علي من ترك كرسي الوزارة وامتنع عن مزاولة عمله انتصاراً لحق الروائي في الكتابة والحياة؛ فكان أن خلده هذا الموقف الذي لم يطلبه منه سوى ضميره بوصفه مثقفاً ملتزماً باحترام نفسه واشتغالاته الثقافية والانتماء لها وحدها.
إن هذه المسافة هي عينها التي سـمحت له أن يرى بوضوح ويقول بخشية: (وأخشى أن أقول إن الثقافة لم تشكل عبئًا على الدولة، بل إن الدولة، بـما فرضته من قيود أمام حرية الفكر، هي التي وضعت الأعباء على الثقافة والمثقفين، وحالت دون النهضة الثقافية).
هشام علي بن علي ظل هو نفسه المثقف والكاتب الذي أحب اليمن وانتمى لها حتى الرمق الأخير، لم يغادر صنعاء ولم تغادره عدن ولم يرتدِ قناعاً كما فعل كثيرون منذ اشتعلت الحرب وهبت عاصفة العدوان، زمن صعب وتحولات مأساوية أو كما يقول الأستاذ هشام: (في هذا الزمن الصعب، زمن الحرب والتنازع والتفكك والعدوان، زمن اختلاط الأوراق وتبادل الأدوار، فالحرب تبدو كأنها حفلة تنكرية).. تلك الحرب التي احترقت فيها أقنعة كثير من المحسوبين على المثقفين ونبتت لهم وجوه غير وجوههم على سبيل التنكر للثقافة وللوطن لم تطل الوجه اليمني النبيل لهشام علي بن علي الذي رحل تاركاً لنا شرق رامبو لنتدبره ونخرجه للنور وتاركاً فينا يـمناً لم يخن شـماله ولم يبع جنوبه فاستحق أن يكون مثقفاً يـمنياً بصبغة عالمية.