العالم بلغ حافة الهاوية ولم يتراجع
د.حبيب الرميمه
” العالم بلغ حافة الهاوية ثم تراجع ” هذا ما عنونه تقرير مؤتمر الأمن والدفاع الدولي المنعقد في ميونخ في دورته ألـ 54(16-18فبراير 2018) وقبل الإجابة هل فعلاً تراجع العالم عن حافة الهاوية، لابد أن نشير إلى مجموعة من المعطيات أبرزها أن النظام الدولي الجديد لم يعد يرتكز على نظام آحادي القطبية وإنما على نظام متعدد القطبية. أيضا أن التحالفات الدولية لم تعد ترتكز على تحالفات تقليدية أساسها القوة العسكرية . إذ أن التهديدات غير التقليدية والتي تعني التهديدات العابرة للحدود من فواعل غير الدول سواء كانت منظمات إرهابية أو التهديدات البيئية أو تهديدات الفضاء الالكتروني المتمثل في الإعلام الفضائي عابر القارات وشبكات التواصل الاجتماعي والتي تستهدف مجتمع الدول ، كل ذلك أصبح الهاجس الأكبر للدول التي لازالت تشكل المحور الرئيسي فيما يعرف بالمجتمع الدولي -باعتبارها وحدات سياسية ذات سيادة -.
هذه التهديدات غير التقليدية وما يقابلها من عوائق تقف أمام وجود إصلاح حقيقي لمنظمة الأمم المتحدة التي تأسست في منتصف القرن الماضي والتي لازالت في جوهرها تمثل مواجهة التهديدات التقليدية بما يظهر عجزها في تحقيق أهم مقاصد ميثاقها (حفظ السلم والأمن الدولي ) كل هذه العوامل يجعلنا أمام سمو منطق النظام الدولي المرتكز على استغلال دولة أو مجموعة من الدول ما تملكه من عناصر القوة على حساب مبادئ قواعد قانون التنظيم الدولي والمتمثل فيما يعرف ( بالشرعية الدولية) .
وهو ما يوصلنا كنتيجة منطقية إلى أن العالم على حافة الهاوية وأنه لم يتراجع كما عنون تقرير مؤتمر ميونخ. فالكلام عن التراجع هو من باب التطمين وعدم التخويف كجانب دبلوماسي . وإلا ماذا تغير أو ما هو الطارئ الذي جعل العالم يتراجع!! خصوصاً أن المخاطر والتهديدات تزداد حدة? والتحالفات الدولية تزداد التفافاً حول بعضها?وصفقات بيع الأسلحة تتزايد حتى أنه تم إبرامها على هامش انعقاد المؤتمر نفسه! ما يجعل نُذر اندلاع حرب دولية أو إقليمية متوقعاً في أي وقت. ولايمكن قياس ما يحصل بين الأقطاب الدولية في النظام الدولي الجديد كما هو الحال أثناء الحرب الباردة بين القطبيين الدوليين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ، إذ أن الأمر هنا يختلف فالصراع ليس بين أيدلوجيتين سياسيتين (الرأسمالية والاشتراكية ) وكل منهما يسعى إلى إضفاء الصفة الأخلاقية لأيدلوجيته ويتستر على قبحها.
فالنظام الدولي الحالي يتسم بميزتين:
أولاهما: المنهجية الرأسمالية، إذ تكاد أن تكون جميع الأقطاب الدولية تنهج ( النظام الرأسمالي ) بما في ذلك روسيا والصين. وهذا النظام بحد ذاته هو نظام اقتصادي يعلي من شأن النزعة الفردية والمصالح الآنية بحيث أصبحت جميع تلك الدول تنظر إلى علاقتها بالآخر بمقدار الربح والخسارة كل ذلك على حساب ما تقرره قواعد قانون التنظيم الدولي التي تعلي من شأن المصلحة المشتركة بين الدول بما يحقق التضامن والتعاون فيما بينها بهدف حفظ الأمن والسلم الدوليين. بمعنى آخر أن حكومة الأقطاب الدولية أضحت تنظر إلى وظيفة الدولة كوحدة اقتصادية أكثر منها وحدة سياسية (شركات عملاقة عابرة القارات ) .
ثانيهما: أن هذا المفهوم الاقتصادي ليس مفهوما اقتصاديا بحتاً؛ فإلى جانب السيطرة على أماكن الطاقة والثروات يبرز الجانب العقائدي الديني? وهو ما يفسر أن تتركز معظم الصراعات العالمية في الوقت الحاضر في منطقة الشرق الأوسط والتي يعبر عنها ( قلب العالم حسب نظرة ماكندر – وهي المنطقة التي تمتد من نهر النيل غرباً إلى ما وراء نهر الفرات شرقاً، ومن سفوح جبال طوروس شمالاً حتى خليج عدن جنوبا حسب نظرته ) فالصراعات التي تشهدها هذه المنطقة لها أبعاد عقائدية دينية مختلطة بما يعرف ( حروب الطاقة). وهذا هو الجزء الأخطر في الصراع الحالي ? فإذا كانت الولايات المتحدة استخدمت الجانب العقائدي أثناء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي بدعمها ما يعرف بـ(المجاهدين الأفغان) وبدعم من السعودية آنذاك والتي شكلت حرب استنزاف للسوفيت وكانت أحد أسباب انهياره ، فإن فشل الولايات المتحدة لتكرار هذه اللعبة في سوريا والعراق وسقوط ما يسمى الدولة الإسلامية في العراق والشام(داعش) بما أسهم في قوة المحور المناهض للمشروع الصهيوأمريكي في المنطقة ( محور المقاومة) له أبعاده التي لن تقتصر على انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة كما انسحبت السوفيت من أفغانستان لان القضية هنا لها ارتباط بالأسطورة العقائدية لتأسيس الولايات المتحدة الأمريكية والتي أطلق عليها الآباء المؤسسون ( إسرائيل الجديدة أو أرض كنعان) فالأسطورة العقائدية حاضرة في خضم النظام الدولي الجديد وبقوة? ولايمكن للولايات المتحدة أن تتقبل الانسحاب من المنطقة بطريقة سلسة لأن أمن إسرائيل بالنسبة لها لايقتصر على تبادل منافع سياسية واقتصادية وإنما مرتبط بجانب عقائدي ديني. هذه الأسطورة العقائدية لم تعد قاصرة عليها وإنما أصبحت المحرك الأساس في الصراع بالمنطقة ? فولي العهد السعودي أفصح في إحدى مقابلاته أن عِداءه مع إيران له بُعد عقائدي باعتبار أن عقيدة الجمهورية الإسلامية في إيران تقوم منذ تاسيسها كدولة ممهدة للمهدي المنتظر? ولايختلف الامر فيما يعرف (العقيدة القيامية التي تؤمن بها الكنيسة الإنجيلية ومذهب البروتستانت الذي يعتنقه معظم الأمريكيين) إذ أن عودة اليهود وقيام دولة يهودية لهم في فلسطين هي الممهدة لنزول المسيح. لذلك كان الرئيس الأمريكي ريغان يفسر ما ورد في سفر دانيال (أن الرب سيحرق أعداء إسرائيل بالنار والكبريت… ) فيعطي لها جانباً عقائدياً حول امتلاك أمريكا للسلاح النووي باعتباره منحة من الله وأن هذا السلاح هو المقصود به (النار والكبريت ) حتى ان البعض يرى في صناعة الإرهاب واتخاذ داعش الرايات السود هي صناعة صهيوأمريكية بامتياز تصب من ضمنها بالتشكيك بعقيدة كثير من المسلمين الذين ينتظرون أصحاب الرايات السود الممهدة للمخلص ( المهدي) بحيث أن ما ترتكبه هذه الجماعة أصحاب الرايات السود حاليا تجعل من هذه الرايات “رايات شيطانية” تذكر بمآسي وجرائم فظيعة فتسلخ ما يعتقدون به من أساسه.
خلاصة القول جميع الأقطاب الدولية يلعبون في قلب العالم (الشرق الأوسط) هذا الشرق المعقد الذي يختلط فيه أكثر من عامل ابتداء من الأسطورة العقائدية إلى العامل الجيوسياسي إلى العامل الكوزموبوليتاكي، وهو ما يحعل نذر حرب دولية أكثر كارثية قادمة دون شك ، وهو ما يلقي بمسؤولية كبيرة على جميع الفلاسفة والمنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان ومراكز السلام الدولي بضرورة المطالبة بإيجاد إصلاحات حقيقية في منظمة الأمم المتحدة بحيث يعاد صياغة ميثاق المنظمة بما يتناسب مع التهديدات التقليدية وغير التقليدية ميثاق يكرس مبدأ التضامن والتعاون الدولي على أسس السلام النابع من صميم العقيدة للكتب السماوية الثلاث إذ أن تجاهل المبادئ والقواعد المشتركة التي نادت بها الكتب السماوية والأنبياء والمصلحين(أن الأصل في العلاقة بين الشعوب هو السلام ) هي تراث فكري مشترك في مسيرة الإنسانية المشتركة وهي الأساس الأمثل لقيام نظام أمن جماعي عالمي بعد أن عجزت الصيغة العلمانية التي قام عليها ميثاق الأمم المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية -حسب رأينا – إذ أن من مميزات القواعد العالمية الدينية أن لها جزائين أحدهما دنيوي والآخر أخروي و أكثر تأثيرا من الناحية الأخلاقية من القواعد الوضعية.
إن تجاهل هذه القواعد وتزايد النزعة الدينية في النظام الدولي الجديد يجعل من الحروب القادمة هي حروباً دينية بامتياز ? وهل يصحو ضمير المنظمات الدولية غير الحكومية ومراكز السلام والأمن الدولي وكافة النخب المؤثرة والمعبرة عن تطلعات وآمال الشعوب الحرة للعيش في جو فسيح من الحرية والمساواة واحترام حقوق الانسان ليرفعوا الصوت عاليا بوقف “اللعب في قلب العالم” وضرورة أن تسمو قواعد قانون التنظيم الدولي فوق رغبات ومصالح الاقطاب الدولية (النظام الدولي الجديد) وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وذلك بمطالبتها بالكف عن استخدام أدوات تقليدية ممثلة بدول ملكية مطلقة لاتقيم لشعوبها وزنا ولاتحتكم في قرارها إلى أي عمل مؤسسي يكبح جماح حكامها (مملكة آل سعود ) ودعمها تنظيمات غير تقليدية (تنظيمات إرهابية ) تزعزع أمن واستقرار الدول والاعتداء على سيادتها ووحدة أراضيها كما هو حاصل في اليمن وسوريا.