البداية والنهاية للاحتلال البريطاني لجنوب اليمن
انتهج الاحتلال البريطاني للبقاء إذكاء النعرات الطائفية والمناطقية للتفريق بين الأخوة
إعداد/ عبدالصمد الخولاني
كانت عدن وما حولها من المقاطعات ( ما أطلق عليها البريطانيون اسم مستعمرة عدن والمحميات الشرقية والغربية ) إلى ما قبل 1732م ضمن الوطن الأم , ومن جملة الأجزاء التي تشملها السيادة اليمنية منذ آلاف السنين , وبمعنى أوضح منذ أن عرف التاريخ , احتل جنود البحرية البريطانية عدن بقيادة الكابتن هينس في 3شوال 1254هجرية الموافق 19يناير 1839م , إثر حادث طفيف وقع لسفينة تتبع الرعايا البريطانيين التابعين لشركة الهند الشرقية البريطانية.
وبعد أن تم للبريطانيين احتلال عدن أخذوا يستخدمون سياسية ” فرق تسد ” ونهجوا طريقة تمزيق الجنوب إلى عدة إمارات ومشيخات بغية جذب أعيان البلاد واشتمالهم واحدا تلو الآخر لتوقيع اتفاقيات “الحماية” مقابل دراهم معدودات تصرف للمشائخ شهريا من خزانة عدن على مرأى ومسمع من أفراد الشعب المغلوب على أمره لتحسم بريطانيا لصالحها تنافس الأطماع الدولية وسباق بسط الهيمنة والنفوذ على الملاحة بين أهم قارات العالم ” آسيا وإفريقيا وأوروبا ” والمضيق البحري الرابط بينهما.
بدايات الأطماع الدولية
* البرتغال :
كانت البرتغال أولى الدول الأوروبية التي طمعت في اليمن منذ أواخر القرن الخامس عشر , حيث سعت إلى احتلال الشواطئ اليمنية للسيطرة على الطرق التجارية المارة في المحيط الهندي والخليج العربي والبحرين العربي والأحمر، فاحتلت جزيرة كمران ثم هاجمت عدن عام 1513م , وقد كان هذا النشاط البرتغالي سببا في نشاط مضاد في المنطقة قام به المماليك , ثم العثمانيون لتطهير البحر الأحمر والمحيط الهندي من البرتغاليين.
*هولندا :
بدأ الهولنديون نشاطهم “الاستعماري” في أواخر القرن السادس عشر وأسسوا شركة الهند الشرقية الهولندية عام 1594م التي وجهت عام 1614م أسطولا إلى البحر الأحمر ووصل إلى الموانئ اليمنية في محاولة لإقامة وكالات تجارية هولندية , ولكن لم يفلح إلا في إقامة وكالة بميناء الشحر في حضرموت , وبفشل الهولنديون في منطقة البحر الأحمر أدى إلى إنشاء محطة عند رأس الرجاء الصالح عام 1652م لتزويد سفنهم بما يلزم في رحلاتها الطويلة إلى جزر الهند الشرقية والشرق الأقصى.
* فرنسا :
بدأ نشاط الفرنسيين في الشرق منذ مطلع القرن السابع عشر , وفي عام 1664م تم إنشاء شركة الهند الشرقية الفرنسية , إلا أن اتصال الفرنسيين باليمن لم يتم إلا في عام 1709م حينما قدمت بعثة فرنسية إلى ميناء عدن ومنه أبحرت إلى المخا وتمكنت من عقد معاهدة مع حاكم المخا باسم الإمام المهدي. أعطي الفرنسيون بموجبها الحق في ممارسة الأعمال التجارية في ميناء المخا.
ثم قامت بإرسال بعثة أخرى إلى المخا عام 1711م وعندها تمكن طبيب البعثة من معالجة الإمام من مرض ألم به، فاستفاد الفرنسيون من ذلك في توطيد علاقتهم بالإمام.
وفي عام 1762م غادرت الوكالات التجارية الفرنسية والهولندية اليمن مفسحة بذلك المجال للبريطانيين للانفراد بتجارة التصدير فيها. ولما احتلت فرنسا مصر عام 1798م شكلت بذلك تهديدا مباشرا خطيرا للمصالح البريطانية في المنطقة إلا أن خطر هذا التهديد زال بانسحاب فرنسا من مصر عام 1799م.
وفي عام 1859م عادت المنافسة الفرنسية إلى المنطقة حينما أخذت فرنسا تنشط في سواحل البحر الأحمر وخليج عدن , ومحاولة إيجاد مواقع ثابتة لها على الساحل الإفريقي والساحل العربي.
فاستولت فرنسا عام 1862م على ميناء ( اوبوك) على الساحل الصومالي المواجه لعدن , واتخذت منه منطلقا للتوسع في البلاد الصومالية وأخذت تزاحم بريطانيا في السواحل اليمنية محاولة شراء مناطق فيها كمنطقة الشيخ سعيد غربي عدن , إلا أن وجود بريطانيا في عدن مكنها من مراقبة التحركات الفرنسية في المنطقة وعرقلة مشاريعها التوسعية إلى حد كبير.
وزادت حمى التنافس عندما فتحت قناة السويس عام 1869م على يد الفرنسيين فخشيت بريطانيا ان تقع مصر في قبضتهم وأقدمت على احتلال مصر وبذلك أصبحت بريطانيا تتحكم في مدخل البحر الأحمر في الشمال والجنوب.
* إيطاليا :
بدأ اتصال ايطاليا بسواحل البحر الأحمر عن طريق رجال التبشير ” التنصير” والمستكشفين الجغرافيين الذين حاولوا إقناع بلادهم – قبل الوحدة الايطالية – بإقامة علاقات تجارية وسياسية مع البلاد الواقعة على سواحل البحر الأحمر، ولم تدخل ايطاليا حلبة المنافسة إلا بعد أن توحدت , حيث أخذت تنشط تجاريا وسياسيا في الساحل الإفريقي , وتمكنت من احتلال ميناء عصب الاريتيري.
حاولت ايطاليا السيطرة على جزيرة سقطرى عند مدخل خليج عدن إلا أن بريطانيا أفشلت هذه المحاولة. ثم غيرت بريطانيا موقفها المضاد للنشاط الايطالي وأخذت تشجعه على التوسع وذلك لتضعها في مواجهة النشاط الفرنسي , فتمكنت ايطاليا من بسط نفوذها على المنطقة الممتدة من جنوب سواكن وحتى ميناء ( اوبوك) وأطلقت على هذه المنطقة عام 1890م اسم ” مستعمرة اريتريا “.
* أمريكا :
بدأ الاهتمام الأمريكي باليمن منذ مطلع القرن التاسع عشر، حيث كانت السفن التجارية تصل إلى الموانئ اليمنية خاصة ميناء المخا للحصول على البن الذي تمكن الأمريكيون من احتكاره في وقت قصير , وقد شكل الأمريكيون منافسا خطيرا للنشاط التجاري لشركة الهند الشرقية البريطانية في منطقة البحر الأحمر والمحيط الهندي , فكان هذا واحدا من الأسباب التي دفعت بريطانيا إلى احتلال عدن.
* احتلال عدن :
ترجع أولى المحاولات البريطانية لإيجاد موقع قدم لها في اليمن إلى عام 1609م حينما حاولت شركة الهند الشرقية البريطانية إقامة علاقات تجارية مع اليمن عن طريق عدن ثم عن طريق المخا في العام التالي. وقد فشلت تلك المحاولتان ولم يتمكن البريطانيون من إقامة علاقات تجارية إلا عام 1612م حينما اصدر الوالي العثماني باليمن موافقته للأجانب بحرية التجارة على السواحل اليمنية , كما سمح لهم بشراء كل ما يحتاجونه من المخا. وفي عام 1618م سمحت تركيا للبريطانيين بإقامة وكالة تجارية في المخا تابعة لشركة الهند الشرقية.
وفي عام 1799م احتلت بريطانيا جزيرة بريم ثم تركتها بسبب صعوبة الحصول فيها على الماء،
وفي القرن التاسع عشر تغير موقف بريطانيا بعد أن احتلت فرنسا مصر عام 1798م وظهور المنافسة التجارية الأمريكية وكذلك منافسة دول المنطقة “العثمانيون والمصريون ” التي كانت تعتبر منطقة البحر الأحمر امتدادا شرعيا لها.
أدوات الاحتلال
في 19يناير عام 1839م أقدمت بريطانيا على احتلال عدن بهجوم غادر نفذته أساطيلها البحرية البريطانية الهندية ثم وسعت نفوذها فيما بعد عن طريق عقد معاهدات حماية مع سلاطين وشيوخ ما عرفت بالمحميات الشرقية والمحميات الغربية.
وقد تمكنت بريطانيا من جعل عدن مركزا تجاريا لليمن بأكمله وذلك بإعلانها ميناء حرا عام 1850م وزادت أهمية المنطقة خاصة بعد ظهور النفط فيها وظهور الاتحاد السوفيتي كقوة عالمية عظمى , مما ضاعف من اهتمام الغرب باليمن وزاد من حرصه على إبقائه ضمن دائرة نفوذه.
بدأت بريطانيا بعد ذلك ببسط سيطرتها على المناطق التي احتلتها وأقامت نوعين من السلطة في جنوب الوطن اليمني , فقد اعتبرت مدينة عدن والمناطق الخلفية لها والجزر الهامة المواجهة لسواحلها في البحر العربي مستعمرة , أما المناطق الداخلية الممتدة حتى حضرموت فقد اعتبرت مجرد محميات بريطانية يتمتع فيها السلاطين المحليون بالنفوذ الداخلي , وبشكل تدريجي تحول جنوب اليمن كله إلى شبه مستعمرة بريطانية من الناحية الاقتصادية.
شراء الولاءات
ومن الأساليب الاستعمارية التي مارستها بريطانيا أيضا قيامها بشراء مدينة الشيخ عثمان من سلطان لحج وكذلك شراء قسم من الساحل الواقع بين عدن وشبه جزيرة البريقة ( عدن الصغرى ) عام 1888م وعلى هذا فقد مارست بريطانيا الاحتلال المباشر , أو الضم في حالة مدينة عدن التي أصبحت مستعمرة بريطانية.
ومنذ البداية حاولت بريطانيا أن تكسب احتلالها لجنوب اليمن صفة الشرعية، ومن أجل ذلك سارت في طريقين متوازيتين تكمل كل منهما الأخرى.
الطريق الأولى : توقيع معاهدات مع السلاطين المحليين وقسمت هذه المعاهدات إلى قسمين.
1 – معاهدات الحماية : وكانت أول المعاهدات مع سلطان لحج في يونيو 1839م. وآخر المعاهدات كانت مع السلطان الكثيري في حضرموت عام 1939م , ومع مرور الأيام ازداد ترابط المصالح المشتركة بين السلاطين والاحتلال البريطاني.
2 – معاهدات الاستشارة : وقعت أول هذه الاتفاقيات مع السلطان القعيطي عام 1937م في حضرموت. ووقعت آخر المعاهدات مع سلطان لحج عام 1952م.
قمع شمال اليمن
الطريق الثانية : توقيع معاهدة واتفاقية مع حكومة صنعاء ومن المعروف أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى رفض الإمام يحيى الاعتراف بمعاهدة 1914م كما أنها فشلت في جهود البعثات البريطانية التي توجهت إلى صنعاء لنفس الغرض الأول , والثانية عام 1926م لكن إقحام الإمام في حربين مع آل سعود شمالاً والإدريسي غرباً أرغمه على توقيع المعاهدة.
استخدمت بريطانيا القوة ضد الإمام في سنتي 1926م و1928م بغارات الطائرات إلى جانب محاولات استخدام النعرات الطائفية بين الشوافع والزيود , وفي ظل هذا الواقع التاريخي بوجود الحكم الإمامي في شمال الوطن وقوى الاحتلال البريطاني في الجنوب يغذيان كل ما من شأنه تمزيق وتفتيت القوى الوطنية من جهة ومن جهة أخرى يدفعان بالعناصر المتبنية للنعرات العرقية والطائفية بهدف الوقوف أمام التيار القومي الذي بدأ يتغلغل في نفوس الشباب من جراء ما عكسته عليه حركة الثورة العربية.
ومن هنا نجد أنه إذا كان القرن التاسع عشر قرن الاحتلال الأوروبي الذي انطلق بشراسة ليستولي على معظم أنحاء العمورة , فإن القرن العشرين يعتبر قرن التحرك الثوري للجماهير مما جعل الاستعمار في هذا القرن يبدي تشنجات النزع الأخير لظلمه واستبداده.
وكما أن الضغط يولد الانفجار , فإن الاحتلال والظلم يولدان المقاومة , بل إن الاحتلال الأجنبي يعطي مشروعية لعمل المقاومة بكل الأساليب الممكنة.
المقاومة اليمنية
وفي حالة جنوب الوطن فقد كان الإحساس برفض الاحتلال البريطاني موجودا منذ أول يوم وطأت أقدامه الأرض اليمنية الطاهرة , ولكن وجود السلاطين في الجنوب اليمني ونظام الإمام في شمال الوطن كل ذلك جعل عمل المقاومة غير منظم حيث ظهرت على شكل تمردات قبلية وانتفاضات مباشرة وقطع الطرق.
ولكن تلك الأعمال قد خلقت نوعا من القلق والاضطراب والفوضى لدى الاحتلال , كما أنه قد تكبد خسائر مادية وبشرية كثيرة جراء تلك الأعمال رغم فقدانها للأساليب التنظيمية والقيادة الحكيمة في أول الأمر.
تلك الموجات المتكررة من التحرر كانت اللبنة الأولى للتعبير الحقيقي عما يختلج في نفس الشعب من صدق المقاومة والنضال النابض بصور إنسانية صادقة.
لقد أبدى الشعب اليمني في كل معاركه نضالا مجيدا وأصالة عندما تضافرت القوى الوطنية من القبائل اليمنية في إحداث زعزعة إلى حد كبير في حكم الإمامة في الشمال وكذلك بين سلطات الاحتلال في الجنوب.
الحركة الوطنية
شكلت تلك الأعمال لدى الشعب اليمني النواة الأولى للطلائع المستنيرة من الأدباء والأحرار التي عملت على شكل جماعات سرية تطورت فيما بعد إلى تكوين حركة سياسية عام 1944م أطلق عليها ( حزب الأحرار ) بقيادة احمد محمد نعمان ومحمد محمود الزبيري في عدن , كانت تلك الجماعات والحلقات السياسية السرية تعتبر فروعا للمنظمات في عدن.
الحركة الوطنية عموما كانت رؤيتها واحدة وهي أولا إسقاط الحكم الإمامي في الشمال شرطاً أساسياً في الخلاص والتحرر من الاحتلال في الجنوب وإقامة يمن ديمقراطي موحد , وكانت عدن هي المركز لها كلها.
والمتتبع للوثائق التي صدرت عن الحركة الوطنية منذ الخمسينيات حتى قيام ثورة 26سبتمبر عام 1962م سوف يجد أن النشاط السياسي لها كان يتمحور أساسا حول ثلاثة أهداف رئيسية متمثلة في : التحرر الوطني من الاستعمار البريطاني في الجنوب اليمني , التحرر السياسي من الاستبداد الإمامي في شمال الوطن , وتحقيق الوحدة اليمنية الديمقراطية.
ولقد كان من الواضح منذ بداية المعركة الوطنية ضد الاحتلال أنها معركة كفاح مسلح , عنيد لا لين فيه ولا مهادنة، ومعركة دماء وبطولات لا تراجع فيها ولا مساومة، وأن معركة تحرير وطني بهذا الحجم ليس بالإمكان خوضها إلا بالجسم اليمني كله.
الثورة اليمنية
لقد شكل القضاء على الإمامة وطرد الاحتلال البريطاني من الأرض اليمنية الهدف الأسمى الذي التقى فيه السواد الأعظم من اليمن قاطبة شماله وجنوبه شرقه وغربه لتحقيق ذلك الهدف العظيم.
ومنذ قيام ثورة 26سبتمبر 1962م بالقضاء على الحكم الإمامي كانت نقطة الانطلاق للخلاص من جبروت الاحتلال البريطاني, ولذلك فإن اليمنيين في جنوب الوطن فرحوا بقيام ثورة 26سبتمبر واعتبروها ثورتهم بقولهم ” إن شعبنا في الجنوب رأى في ثورة وجمهورية سبتمبر ثورته وجمهوريته , ورأى في ارتفاع علم الحرية في صنعاء شارة لارتفاع علم الحرية في عدن “.
وانسجاما مع تلك الرؤية اندفع آلاف المواطنين من جنوب الوطن إلى شماله للدفاع عن ثورة 26سبتمبر وانخرطوا في الحرس الوطني الذي تشكل بعد قيام الثورة لهذا الغرض.
وحدة النضال
وقد اشترك اليمنيون جميعا في القتال لحماية جمهورية سبتمبر الوليدة , وعليه كان أول من أطلقوا شرارة ثورة 14أكتوبر 1963م هم ممن اشتركوا في الدفاع عن ثورة سبتمبر وأصبحت ثورة 14أكتوبر 1963م امتدادا طبيعيا لثورة سبتمبر في مرحلة كانت أكثر جذرية بمسار الثورة اليمنية من حيث طموحها ونضالها من أجل اقتلاع الاحتلال البريطاني من الجذور وتحقيق التحرر الوطني الكامل منه ومن ركائز الرجعية في جنوب الوطن.
ومن المؤكد أننا لم نصل إلى مثل هذا اليوم العظيم يوم 30من نوفمبر 1967م إلا عبر كفاح مسلح ونضال وطني كبير وتضحيات وبطولات نادرة تحقق من خلالها طرد آخر جندي بريطاني من الأرض اليمنية الطاهرة إلى الأبد.