«موطن الكلمات.. أرض الحميمية»، هو عنوان حوار مطوّل باللُّغة الفرنسية أجرته الصحفية الإيطالية لورا راشيل قوبي مع الروائي واسيني الأعرج وأصدرته المؤسسة الوطنية للنشر والإشهار بالجزائر في كتاب، ويستعرض الكتاب الكثير من الجوانب التي أثّرت في تشكيل الخلفية الروائية لواسيني الأعرج صاحب الروايات المترجمة إلى لغات عالمية عدة، والمتوّج بالعديد من الجوائز الأدبية الدولية.
وبحسب المقدمة التي أوردتها الصحفية الإيطالية فإنّ فكرة هذا الحوار جاءت إثر اللّقاء الذي جمعها بصاحب «كتاب الأمير» بميلانو بمناسبة صدور ترجمة روايته «حارسة الظلال» إلى الإيطالية، وهي المناسبة التي زار فيها الأعرج العديد من المدن والمكتبات الإيطالية للتعريف بروايته، وكانت ترافقه المترجمة والجامعية الإيطالية كوستانزا فريني.
وعلى مائدة العشاء تقول الصحفية الإيطالية: «اندهشتُ لأنّني اكتشفت واسيني الإنسان فضلاً عن واسيني الكاتب والمحاضر الجامعي، وحينها لم أكن قرأتُ إلا مقتطفات من بعض أعماله الروائية». وقد أُنجز الحوار بين مدينتي باريس الفرنسية وميلانو الإيطالية في الفترة ما بين مارس 2003 ويونيو 2004، وكان
«أشبه بسفر يكشف أنّنا لا نولد كتّاباً وإنّما نصير كذلك، وأنّ الكتابة ليست مجرد حكاية وإنّما هي سعادة..، إنّها استحقاق». في البداية سألت الصحفية الإيطالية لورا راشيل واسيني الأعرج عن حقيقة وجود فضاء أو أرض يشعر فيها بالطمأنينة والانسجام مع نفسه، فأجاب بالقول: «طبعا..، فضاء من دون شرطة حدود، ومن دون محظورات دينية أو سياسية. فضاءٌ يُشبه أرض الأحلام، إنّه هو الحلم في حدّ ذاته.
إذن في هذه الحالة هل يوجد بلد ثالث أو رابع بالنسبة للكاتب؟ السؤال ليس جديدًا.. ، والكاتب لا يتحدّد هوياتيا فقط نسبة للأرض وإنّما نسبة لعصر بكلّ تناقضاته وتحوُّلاته وفضاء بسماء مفتوحة ثقافيا ودون جدران مرئية..، وبهذا المعنى فالكاتب لا يعترف بماهية الأمكنة، أي إنّه يقف في فضاء متعدّد وغير محدّد ليس له سوى مسمّى واحد هو الكتابة». في هذا الحوار الطويل جدا والممتع في آن تأخذنا الصحفية الإيطالية بمعيّة واسيني الأعرج في رحلة تقتفي فيها الآثار البعيدة التي أثّثت المتن الروائي عند واسيني بدءا بالطفولة التي عاشها بمدينة تلمسان التي امتزجت فيها حكايا الجدّات ببطولات الأمير عبد القادر الجزائري ذلك البطل المقاوم والصوفيّ الشاعر الذي وقف مدافعًا عن بلده سنوات طويلة، وكان بحقّ الأب المؤسّس للدولة الجزائرية الحديثة.
كما يسترجع واسيني عبر فصول الحوار تلك الطبيعة الساحرة التي ترعرع فيها وشكّلت الخضرة وينابيع المياه المتدفّقة أهمّ تفاصيلها بمنطقة سيدي بوجنان بولاية تلمسان.
ويعود واسيني أيضًا إلى بعض القصص المثيرة التي ميّزت طفولته المشاغبة، حيث يروي كيف استطاع الحصول على نسخة من كتاب «ألف ليلة وليلة» بسرقتها من خزانة المدرسة القرآنية التي كان يتعلّم فيها أصول قراءة اللُّغة العربية وكتابتها، وهي الخطوة التي يؤكد واسيني أنّها حرّرته من فكرة كانت لديه مفادها أنّ «اللُّغة العربية هي لغة المقدّس فقط»، مشيرًا إلى أن كتاب «ألف ليلة وليلة» بمواضيعه التي تسبح في المحظور جعله يُغيّر رأيه، ولم يكن يومها قد تجاوز الثامنة من العمر.
ومن المحطات التي يقف عندها واسيني الأعرج ليلة 6 فبراير 1976، التي وطأت فيها أقدامه للمرة الأولى أرض دمشق السورية، وممّا أثارته ليلتها رائحة المازوت التي استغربها وراح يُخبر بها أصدقاءه الذين جاؤوا لاستقباله، فنصحوه بالصمت وأن يزن ألفاظه؛ لأنّهم في دمشق يتدفؤون بالمازوت وليس أمامهم سوى ذلك.
كانت تلك، يؤكد واسيني، أولى ردّات فعله وأولى لحظات صمته وهو ينزل بدمشق للمرة الأولى، كما أنّه فهم بسرعة فحوى الرسالة التي أراد مستقبلوه أن يفهمها ويحفظها. من هنا بدأت المغامرة التي عاشها واسيني الأعرج طالبا بدمشق، حيث قبل العمل في وظيفة غاسل صحون بأحد الفنادق الدمشقية ليحفظ كرامته وماء وجهه.
ويروي واسيني كذلك بداية مغامراته الأولى مع الكتابة بين دمشق وبيروت خلال ثمانينات القرن الماضي والأثر الطيّب الذي تركته بعض أعماله.
وممّا يرويه صاحب «كتاب الأمير» عبر تضاعيف هذا الحوار المطوّل تلك العلاقة التي نشأت بينه وبين قارئه في الجزائر، بخاصة بعد أعماله التي تناولت الأزمة الدموية العاصفة التي عاشتها الجزائر في تسعينات القرن الماضي. يُمكن عدّ هذا الحوار الذي نُشر في كتاب من 200 صفحة حزمة مفاتيح لا غنى عنها لأيّ قارئ أو ناقد يريد أن ينفذ إلى عوالم واسيني الأعرج الروائية ليُفكّك رموزها، خاصة وأنّ الصحفية الإيطالية لورا راشيل قوبي فضّلت أن تستنطق فضاءات الظل والعتمة في حياة هذا الروائي الذي يعدُّ، فضلا عن كونه مدرّسا للأدب بجامعة السوربون الفرنسية، من خيرة الروائيين العرب الذين سطّروا الفتوحات الروائية من عام لآخر من دون كلل أو ملل.
Next Post