النضال الوطني التحرري سلسلة متصلة لا يمكن أن نفصل بين حدث من أحداثه بمنأى عن ما سبقه
المجتمع اليمني مجتمع يمتاز بـ”الفرادة في نضاله الوطني” فما من شعب خاض حروب تحرر كما فعل اليمنيون
إعداد/ عبدالله كمال
مثلت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، نقطة الضوء الأكثر بهاء في تاريخ الشعب اليمني الحافل بالنضالات، التي كانت في مجملها تتمحور حول تحقيق الذات اليمنية للوطن أرضا وإنساناً، فالشعب اليمني الذي ظل رهين ذلك الحكم الاستبدادي البغيض، لم يكن ليستكين ويرضخ، فقد خاض مسيرة نضال طويلة، تكللت بنجاح الثورة اليمنية، وإعلان النظام الجمهوري، وتقويض عهد الظلم والجهل والتخلف والعزلة.
عندما تقاس الثورات فإنها تقاس بالنظر إلى الدوافع أو العوامل التي كانت المحرك الأساس لقيام هذه الثورات أولا، ثم بالنظر إلى الأهداف التي قامت هذه الثورة أو تلك من أجل تحقيقها.. ومن هنا فإن المتأمل في كل من العوامل والدوافع التي وقفت وراء انطلاق ثورة السادس والعشرين من سبتمبر المجيدة، والأهداف التي رسمت لها، سيخلص إلى أنها لم تكن إلا تتويجا لسلسلة من نضالات الشعب اليمني التي امتدت لعقود طويلة، فكما يقول شاعر اليمن ومفكرها عبدالله البردوني في كتابه (اليمن الجمهوري)، في مسألة ما أسماه الخطوط التي تدفق منها سبتمبر: ” وإذا التفتنا إلى مستهل الطريق، فسنجده موصولا بآخر طريق، ولا تخرجه نقطة التحول عن السياق التاريخي العام، ذلك لأن الانقطاع الكلي غير وارد في المسلسل الأحداثي والمسلسل الفكري رغم تغاير الوجوه بين حدث وآخر بفعل التأثير التطوري”.
فثورة السادس والعشرين من سبتمبر لم تكن وليدة لحظتها أو طفرة منقطعة عن طبيعة مجتمعها، بل كانت بمثابة الطلع الذي بشَّر بموسم مغدق، فالمجتمع اليمني هو مجتمع يمتاز بـ”الفرادة في نضاله الوطني” فما من شعب خاض حروب تحرر كما فعل اليمنيون، ولكي لا نذهب بعيدا عن تحديد الروافد التي تدفق منها يوم السادس والعشرين من سبتمبر، ذلك النهر الجارف الذي اغتسلت به اليمن من أدران عقود من الظلم والاستبداد والجهل والتخلف والفقر والمرض.
حركة 48.. بداية المخاض
لا شك أن ذلك اليوم كان الوليد المنتظر لمخاضات سابقة، لطالما بذلت فيها التضحيات الجسيمة التي قدمها الشعب من دمه وكل غال ونفيس يملكه، فلم يكن نضال الشعب اليمني ضد الأتراك إلا صورة من صور ذلك النضال الوطني الذي يتجلى فيه رفض الشعب اليمني للخنوع والاستكانة وتطلعه إلى حياة الحرية والعدالة، فهو شعب ثائر بالفطرة، لا فسحة لديه ولا مساومة في قضاياه المصيرية كالوطن والعيش الكريم فيه.. ومثلما رفض الخضوع للأتراك الذين تقبلتهم شعوب أخرى بالاستسلام، فقد رفض الخضوع للتسلط والقهر وحكم الفرد المنبعث من القرون الوسطى بثالوثه المأساوي (الجهل والفقر والمرض)، ذلك الحكم الكهنوتي الذي ظل جاثما على صدر الشعب اليمني طيلة عقود، إلا أن ذلك لم يكن استسلاما منه بقدر ما كان تململا للانقضاض على ذلك الواقع البغيض، والانطلاق نحو واقع الشعب هو صانعه ومريده، وبهذا فإن ثورة السادس والعشرين من سبتمبر التي نبعت وانبثقت من ضمير هذا الشعب، – كما أسلفنا – لم تكن حدثا طارئا جاء نتيجة ظروف ومهيِّئات سطحية، كما أنها ليست وليدة العام 1962م وحده، بل “سبقتها موجات من الإرهاصات الثورية طوال عهود طويلة من العذاب والألم عاشتها البلاد تحت وطأة الحكم الرجعي المتهالك، وتمثلت هذه الإرهاصات في عدة انتفاضات وحركات ثورية قام بها الشعب اليمني قبل ذلك، ولكنها انتكست نتيجة تحالف قوى الرجعية الاستعمارية ضدها”.. ومن تلك الانتفاضات والحركات ثورة أو انقلاب فبراير 1948م، الذي أطاح بالإمام يحيى حميد الدين، بعد أربعين عاما رزح خلالها اليمنيون تحت وطأة حكم فردي اعتمد في ترسيخ حكمه المتسلط الموغل في التجهيل على إثارة الفتن بين فئات الشعب والتخلص من قيادات القوى الشعبية بالنفي والاضطهاد والاغتيال، إلا أن تلك الثورة لم يكتب لها النجاح، حيث لم تصمد أكثر من 25 يوما، حيث أنها لم تستطع التخلص من الأمير أحمد بن الإمام يحيى الذي بادر بالتحرك إلى حجة ونجح في جمع بعض القبائل حوله وحرضها على المقاومة، وتمكن بعدها من دخول صنعاء والقبض على رجال الثورة الذين سيقوا إلى ميادين الاستشهاد، كما زج بالبعض في ظلمات السجون.
انتكست ثورة 48، وكان وراء انتكاستها جملة من الأسباب لعل من أهمها افتقار تلك الثورة إلى استراتيجية دقيقة وتكتيك دقيق، ففي حين نجح جناح الثورة المتواجد في صنعاء في تنفيذ مهمته باغتيال الإمام يحيى، نجد الجناح الآخر الموكلة إليه مهمة القضاء على الأمير أحمد في تعز قد فشل في تنفيذ مهمته، كما أنها لم تكن قد أخذت في الحسبان احتمالات المقاومة المضادة.. وكل ذلك مثل أهم ثغرة استطاع الأمير أحمد بن يحيى التسلل منها وإفشال الحركة، ليعقبها انتشار حملات القتل والدمار والنهب والتشريد. إلا أن تلك الانتكاسة لم تكن تعني في أحال من الأحوال أن ثورة 48 لم يكن لها أي آثار مستقبلية في العمل الوطني، مثلت هذه الحركة وما تبعها من أحداث وحروب ضد الدستوريين شرارة أولى، بل لقد كانت – بحسب توصيف الرائي البردوني- بمثابة تدريب للانفجارات الوطنية، فمن مطلع الخمسينيات انتقل التمرد من الجبال إلى ثكنات الجيش، فتوالت الأخبار عن تمرد (بلك القناصة) في إب، و(بلك داحش) في ريمة، وكانت هذه – والكلام للبردوني- الجمرات الصغيرة أول الحريق الكبير الذي تنامت عوامل اتقاده حتى أوصلت إلى حركة الجيش بتعز، عام 1955م.
حركة 55 وما صاحبها من تحولات
في ظل ما أعقب ثورة 48 من تنكيل بالثوار وقتل وسجن، وما شهدته المدن من تخريب ودمار، ولا سيما صنعاء، خبت الحركة الوطنية حينا، لكنها لم تمت، ولم يخمد أوارها المتأجج، بل ظلت قيادات الحركة الوطنية التي نجت من بطش الإمام أحمد، تترصد أي فرصة قادمة، وكانت أول فرصة هي العمل على استغلال الأمير عبدالله للقيام بحركة تطيح بالإمام أحمد، ” حيث كان التوجه العام لمسيرة الحركة الوطنية، في تلك المرحلة، ينطلق من مبدأ إمام بإمام حتى الوصول إلى الغاية المنشودة، حسب ما أوضحته بعض المصادر التاريخية، وربما تولدت الرغبة لدى الحركة الوطنية، في أن يستغلوا طموح الأمير عبدالله مرحليا، إذ أنه لن تكون له شخصية أخيه أحمد المهيبة” وتم فعلا اللقاء بين الأمير عبدالله وبين عدد من رجال الجيش وفي مقدمتهم المقدم أحمد الثلايا، وآخرين من الضباط وبعض المدنيين من رجال الحركة الوطنية، وانتهز هؤلاء حادث اصطدام جنود من الجيش بقبائل في منطقة الحوبان، فبادروا بتنفيذ خطتهم وإقناع باقي الجيش بضرورة القيام بالثورة، وتم تنفيذ المخطط المرسوم، حيث اضطر الإمام أحمد إلى التنازل كتابة عن الإمامة لأخيه عبدالله، وفرضت على الإمام أحمد العزلة والحصار، إلا أن الحركة باءت بالفشل واستطاع الإمام أحمد استعادة عرشه بعد ثلاثة أيام، وسارع بعدها بإعدام قادة الحركة وفي مقدمتهم المقدم أحمد الثلايا، وشقيقيه الأميرين عبد الله والعباس، دون محاكمة.
لقد مثل النضال الوطني، ضد حكم الإمامة، سلسلة متصلة لا يمكن أن نفصل بين حدث من أحداثه بمنأى عن ما سبقه وما تبعه من أحداث، ونحن هنا حين نورد أهم تلك الأحداث في هذه السلسلة لا بد أن نشير إلى بعض المتغيرات التي أحاطت بكل من تلك الأحداث والحركات، كما نشير إلى تلك الخطوط المشتركة بينها، وبنظرة مقارنة بين حركتي 48 و 55، نجد أن ثمة أوجه شبه بينها، تمثلت في أن “كليهما كانت ترمي إلى استبدال إمام بإمام، كما أن كليهما شابها الكثير من القصور في الإعداد والتنظيم، كما تشابهتا من حيث ظروف قيام كل منهما، حيث كان يتم التحرك في ظروف اضطرارية، قبل وضع برنامج خاص ذي ملامح اقتصادية واجتماعية وسياسية معينة”.
لقد تضمنت حركة 1955م تحولا في مسيرة الحركة الوطنية، من عدة نواح، أهمها تميزها عن حركة 48 بكونها حركة يمنية خالصة، خلت من أي عناصر غير يمنية كما في حركة 48، التي كان ضمن قياداتها الفضيل الورتلاني وجمال جميل العراقي، وعبدالحكيم عابدين، ومصطفى الشكعة الذين اشتركوا في الحركة بشكل فعال.. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فقد برز تحول آخر، إذ “تحول الجيش من آلة في يد السلطة إلى بداية ثورة ضد هذه السلطة، وهنا أرادت السلطة الإمامية أن تعكس الآية، وتجعل من الشجاعة العشائرية أداة فتك ضد الجيش بعد أن كان الجيش أداة لقمع المواطن”.
الحركة الشعبية 59
لقد كانت حركة 1955م، نقطة تحول في تاريخ النضال الوطني، سيما وأنه منذ العام 55، كما يقول البردوني: “اجتاحت اليقظة الوطنية كل قطاعات الشعب، وبالأخص في المدن التي تزايد إليها هجرة الفلاحين، وكان الجيش أقرب إلى التأثر بالمدنية، فبعد أربع سنوات من إخماد الجيش، حاول أن يقتلع السلطة التي قَمعت به، ثم قمعته بمثله، فكانت انتفاضة الجنود عام 1959م، ثورة نقصتها القيادة العليا والبيانات الإذاعية، وهنا استعادت السلطة نفس أسلوبها في منتصف الخمسينيات، ولكن بشكل أوسع، فاستدعى محمد البدر رؤساء العشائر لإخماد ثورة الجنود، وكان الإمام أحمد يستشفي في روما، وعند رجوعه اشتم مؤامرة قبلية ضد الجيش، وكانت تريد أن تحول الإمامة إلى سلطنات على غرار وضع الجنوب”.
لقد كان الأمر هنا كما يصفه اللواء الركن ناجي علي الأشول، في كتابه (الجيش والحركة الوطنية في اليمن 1919- 1969م) حركة شعبية بدأت تتلامع شرارتها في الأفق يقودها الشيخ حسين بن ناصر مبخوت، ومجموعة من مشايخ “ذو محمد وذو حسين” وخولان ونهم وبعض مشايخ اليمن الأسفل، حتى عاد الإمام أحمد من روما في أغسطس 59، يعلن عن اعتزامه توجيه ضربة لا هوادة فيها ضد كل المطالبين بالإصلاح، وأنه ليس معه لهم إلا السيف، و”من كذَّب جرَّب”. وهنا تفجر الوضع وخرج المشايخ من صنعاء وقد أجمعوا على أن يستولوا على المراكز الحكومية في مناطقهم ويعلنوها ثورة شعبية، إلا أن الإمام أحمد بدهائه ومخاتلته استطاع السيطرة على ذلك التحرك الشعبي بالقوة حينا وحينا بالمهادنة حتى تمكن من القبض على زعامات ذلك التحرك من المشايخ القبليين، كالشيخ حسين بن ناصر مبخوت وابنه حميد والشيخ علي ابن ناجي الشايف، وأعمل الإمام الخراب والدمار في قبائلهم، بداية بقبيلة حاشد ثم برط ثم خولان الطيال، حيث عصف بتلك المناطق دونما رحمة.. وعلى الصعيد العسكري أمر الإمام باعتقال كل من حمود الجائفي والنقيب علي سيف الخولاني، والنقيب عبدالله المقبلي، والنقيب هاشم الحوثي، والنقيب شرف المروني وعدد كبير من أفراد وجنود سرية القناصة.
لم يخضع رجال النضال الوطني بعد حملة القمع التي شنها الإمام أحمد عليهم، بل أخذوا يفكرون بالرد الإيجابي على تلك الحملة البشعة، فكان التخلص من الإمام الذي أمعن في قمعهم، وكان الملازم عبدالله اللقية قد عزم على القيام بالمهمة، وقد هيأت له الأقدار الفرصة بعد انتقاله للعمل في ميناء الحديدة حيث التقى هناك بزميليه الملازم محمد عبدالله العلفي، والملازم محسن الهندوانة، اللذين عقدا العزم معه على التنفيذ، وقد سنحت لهم الفرصة بزيارة الإمام أحمد لمستشفى الحديدة، في مارس عام 1961م، وما إن توجه الإمام لزيارة قسم الحريم حتى انهالت عليه الرصاصات، ليسقط مضرجا بدمه، فاعتقد الضباط الثلاثة أنه قد مات، بينما كان لا يزال على قيد الحياة، وتم إسعافه في الحال، وجرى القبض على الهندوانة واللقية، أما العلفي فيقال أنه قاوم حتى استشهد.
التنظيم السري، وحرب المنشورات
تكوَّن التنظيم السري للضباط الأحرار، الذي كان، رغم عمره القصير الذي لم يتجاوز عاما، نواة تأسيسية، يقوم عليها تنظيم واسع تشترك فيه جميع العناصر الثورية من المدنيين والعسكريين بعد قيام الثورة، حتى يشكل القاعدة الشعبية لحماية الثورة ضد أي اختراق فكري أو سياسي، وقد اشتمل على أربع خلايا رئيسية هي: خلية صنعاء، وخلية تعز، وخلية الحديدة، وخلية عدن، وقد تشكلت خلية صنعاء من الشباب المتحمس الواعي ومن ضباط الجيش الأحرار، وعلى رأسهم المقدم عبدالله جزيلان، مدير الكلية الحربية، وقد صاحب تشكل هذا التنظيم ما أُطلق عليه “حرب المنشورات” حيث كانت تلك المنشورات موجهة لكشف مؤامرات الإمام وجرائمه ضد الشعب اليمني وفضح مخططاته السرية، ولا يستهان بالدور الذي لعبته هذه المنشورات في التهيئة النفسية للشعب نحو الثورة، وكان المناضل المرحوم عبدالله جزيلان يكتب تلك المنشورات في مكتبه في الكلية الحربية، أو في بيت المناضل محمد علي عثمان وزير المالية في حكومة الإمام، ويتولى عبدالله جزيلان توزيعها بنفسه.
الانفجار العظيم
لقد مثلت تلك الأحداث الثورية المخاض الطويل الذي افضى إلى ولادة يوم السادس والعشرين من سبتمبر، فكما يقول الرائي البردوني: “من هذا المنسرب المتعرج تدفق سبتمبر السلاح وفي يمينه مدفع وفي يساره بندقية، فسبتمبر القتال ينتسب إلى هذه التحولات الاعتراكية على مدى ستين عاما وأسلافها من التاريخ، وهذا هو الخط الأول لسبتمبر العظيم، وهو لم ينفصل عن غيره من الخطوط”.
لقد كانت طلقات المدافع التي انطلقت ليلة السادس والعشرين من سبتمبر، كما يقول المناضل المرحوم عبدالله جزيلان “لم تكن تهدف إلى خلع إمام أو تغيير حاكم، إنما كانت موجهة إلى نظام فاسد عاش بيننا عشرات السنين وفرض علينا التخلف والعزلة والإرهاب”.
إنه سبتمبر العظيم، ذلك اليوم الذي رفع الشعب اليمني رأسه بالإيمان والعزة، وأدار ظهره نهائيا لكل الأوضاع البالية، التي كانت تبدد قواه الإيجابية، وداس بأقدامه كل مخلفات العهد الغارق في الظلم والاستبداد، مؤكدا المضي في طريق الثورة، عاقدا العزم على بناء حياته من جديد بالكفاية والعدل وبالمحبة والسلام، وحق للشاعر الخالد عبد الله البردوني أن يصدح يومها:
“فولّى زمان ، كعرض البغي ** وأشرق عهد ، كقلب النبّي”