إسلام أبو العز
عشية الذكرى الخامسة عشر لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، يصدق الكونجرس الأمريكي بأغلبية ساحقة على مشروع قانون يسمح لذوي ضحايا الهجمات الإرهابية بمقاضاة الحكومة السعودية وأفراد من الأسرة الحاكمة في الرياض، وذلك أمام محاكم أمريكية بخصوص اتهام بعض رموز الحكم في المملكة بدعم وتسهيل منفذي هجمات سبتمبر 2001م.
وشهد العام الماضي والجاري أيضاً تصاعدا غير مسبوق فيما يخص اتهام أمراء سعوديين بمساعدة منفذي الهجمات الإرهابية، وهي المسألة التي طرحت بعد أسابيع من الهجمات قبل 15 عاماً، ولكن تم إحاطتها بالكتمان والتعتيم إلى أن صدر تقرير «لجنة تقصي حقائق أحداث 11سبتمبر» عام 2003م، بعد بتر 28 صفحة منه قيل وقتها أنها تمس أسماء مسؤولين سعوديين رفيعي المستوى، لتبدأ من وقتها طلبات من ذوي الضحايا بكشف دور الرياض في مساعدة منفذي الهجمات التي سقط فيها حوالي 3 آلاف مواطن أمريكي.
وشكلت شهادة المتهم رقم 20 في قائمة المتهمين بتنفيذ هجمات 11/9، زكريا الموسوي، الحجر الذي أُلقيَ في ماء اتهام الرياض بالتورط في الهجمات منذ 2003،م والتي أفاد بها أمام قاضي فيدرالي ولجنة من وزارة العدل في أكتوبر 2014م، والتي قال فيها الموسوي -الذي يقضي حكما بالسجن مدى الحياة- إن مسؤولين سعوديين على رأسهم الأمير بندر بن سلطان، سفير المملكة الأسبق في واشنطن، وكذا الأمير تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق ، والأمير الوليد بن طلال، بالإضافة إلى عدد من المسؤولين الحكوميين خارج الأسرة المالكة أبرزهم وزير الخارجية الحالي والسفير السابق في الولايات المتحدة، عادل الجبير، والذي كان يشغل منصباً دبلوماسياً في السفارة السعودية في واشنطن في العقد الأول من الألفين، والذي أكد الموسوي أنه قابل الجبير وتسلم منه مبلغاً مالياً استخدم في تسجيل منفذي الهجمات في مدارس تعليم الطيران والملاحة الجوية التي كانوا قد التحقوا بها للتدرب على قيادة الطائرات التي استخدموها في استهداف برجي التجارة ومبنى البنتاجون.
وذكر الموسوي في شهادته الموثقة في وثيقة فيدرالية من مائة صفحة ضُمت إلى تقرير اللجنة الوطنية المختصة بالتحقيق في هجمات سبتمبر، أن أمراء سعوديين قدموا دعماً مالياً لتنظيم القاعدة بصفتهم المباشرة أو عن طريق وسطاء التقى معهم بصفته رسول بن لادن الشخصي، وهم الأمير بندر بن سلطان، والأمير تركي الفيصل، والأمير وليد بن طلال رجل الأعمال الشهير، بالإضافة إلى عدد من رجال الدين السعوديين، وذلك حسب ما نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية في فبراير من العام الماضي. وذكرت الصحيفة أن شهادة الموسوي تضمنت أيضاً تكليفه من قِبل أسامة بن لادن في 1999م بإعداد قاعدة بيانات للممولين لتنظيم القاعدة، وأنه بشخصه أستلم ما يتراوح ما بين 2 إلى 3 ملايين دولار في هذه الفترة من شخصيات من البيت السعودي الحاكم. وأشار الموسوي في شهادته إلى أنه حصل على أموال من قبل جهات نافذة في آل سعود لتسهيل دخول مجموعة من مختطفي الطائرات المستخدمة في الهجمات إلى الولايات المتحدة وتدريبهم، وأنه ناقش مع موظف بارز في السفارة السعودية بواشنطن مسألة استخدام صواريخ ستنجر المضادة للطائرات في عملية تهدف لاستهداف طائرة الرئاسة الأمريكية.
وكانت شهادة الموسوي قد أتت في وقت نجح فيه عدد من ذوي ضحايا ومصابي هجمات في إقامة دعوة قضائية أمام محكمة فيدرالية في نيويورك من أجل مقاضاة الحكومة السعودية، وذلك تحت بند أن 15 من إجمالي 19 منفذاً للهجمات سعوديي الجنسية. إلا أن شهادة الموسوي وجهت الدعوة إلى مسار أكثر حساسية، وهو ليس فقط مقاضاة السعودية كون أن معظم منفذي الهجمات سعوديين، ولكن مقاضاة مسؤولين في الحكومة السعودية وأمراء نافذين تورطوا في مساعدة منفذي الهجمات بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو ما استلزم تشريعاً جديداً يسمح بهذا الأمر أمام القضاء الأمريكي.
وبالإضافة إلى السابق، فإن شهادة الموسوي أدت إلى إحياء مطالب بالإفراج عن 28 صفحة المبتورين من تقرير تقصي الحقائق سابق الذكر، وشهد العام الماضي تصاعد مطالب نشر هذه الصفحات من قبل مشرعي الكونجرس، وهو ما حدث بالفعل في يوليو الماضي، ليتضح أن أسماء من العائلة المالكة السعودية والسفارة السعودية في واشنطن قد مدوا المتهمين في تنفيذ هجمات سبتمبر بدعم مالي وافر مكنهم من تنفيذ مخططهم.
وشهدت الفترة ما بين شهادة الموسوي إلى الإفراج عن الصفحات الثمانية والعشرين خلافاً بين كل من واشنطن والرياض وصل إلى حد التهديد العلني من قِبل الأخيرة بسحب احتياطي النقد والأصول والذهب البالغ 900 مليار دولار من بنوك الأولى، وكذلك أدخل العلاقات بين الدولتين إلى منحنى صعب في ظل مناخ يشهد توتراً وخلافات في السنوات الأخيرة.
ولكن على الرغم من التجاذب السابق بين واشنطن والرياض، فإنه بقى في حيز التصريحات الإعلامية، التي كان من ضمنها تبرئة رئيسي لجنة تقصي الحقائق السابق ذكرها للسعودية بأن ليس لها دور قاطع في التخطيط أو دعم منفذي الهجمات الإرهابية، ولم يمتد إلى إجراء سياسي من جانب الإدارة الأمريكية أو النظام السعودي، بل أنه يمكن القول إن كل من الطرفين قد أوكل المسألة برمتها إلى تفاعل طلبات الأمريكيين من ذوي ضحايا الحادث أمام المحاكم الفيدرالية الأمريكية.
ولكن السابق لم يمنع الكونجرس الأمريكي من سن تشريعات تسمح بمحاكمة أمراء ومسؤولين سعوديين وكذلك سن قانون يسمح بالإفراج عن الـ(28) ورقة السابقة الذكر، والتي أتضح أنها (29) بعد الإفراج عنها، ويرجح المعظم من ذوي الشأن والمحللين أن حجبها طيلة الثلاث عشرة سنة الماضية جاء منعاً لإحراج حليف للولايات المتحدة كالسعودية، فيما يرمي البعض إلى أن إخفاء هذه الصفحات جاء مجاملة من إدارة الرئيس السابق جورج. دبليو بوش، والذي ارتبط هو وعائلته بعلاقات شخصية واقتصادية بالعائلة المالكة السعودية، وهو ما استمر بالقصور الذاتي في سنوات إدارة أوباما بجانب عدم الحاجة إلى تأزم الموقف مع الرياض، والذي بدا مؤخراً لا حاجة له في ظل الخلافات التي سادت بين الإدارة الأمريكية وآل سعود إلى حد الانتقاد العلني المتبادل الذي لخص انتهاء حاجة واشنطن الاستراتيجية من المملكة وعلى رأسها النفط.
وكان الرئيس الأمريكي باراك أوباما قد تعهد في وقت سابق باستخدام حق نقض القانون حال موافقة الكونجرس عليه طبقاً لصلاحيات الرئيس في الدستور الأمريكي، والذي يتيح أيضاً إبطال حق الرئيس السابق حال تصويت الكونجرس عليه بأغلبي الثلثين، ونظراً للأغلبية الساحقة التي وافقت على مشروع القانون في كل من مجلس الشيوخ ومجلس النواب، فإنه من المتوقع أن يحظى القانون نفسه بنسبة موافقة تقارب النسبة التي حدثت أمس.
وعلى الرغم من تصريحات الرياض ومسؤوليها المطمئنة لما جاء في الصفحات الـ (28) على عكس كل منطق وبديهية، حيث أن هذه الصفحات تعد الوثيقة الرسمية الأولى من نوعها التي تثبت كل ما جاء في الدعاوى القضائية المرفوعة ضد المملكة من قِبل ذوي ضحايا الحادي عشر من سبتمبر، فأنه الآن وبعد توفر وثيقة تشير بدلالات قوية إلى فرضية تورط الرياض بطريق مباشر أو غير مباشر في دعم الهجمات الإرهابية، فإن ذلك لا يعني فقط صمود هذه الدعاوى القضائية وتقوية مسار الإدانة فيها، ولكن أيضاً سن قوانين تشريعية جديدة من قبل الكونجرس تجبر المسؤولين الأمريكيين وخاصة في الاستخبارات والمباحث الفيدرالية بالإدلاء بشهاداتهم حول الأمر نفسه. وبالتالي يمكن القول بعد تمرير مشروع القانون الأخير أمس أن ملف تورط السعودية في هجمات سبتمبر لن يغلق بسهولة كما روج المسؤولون السعوديون وبعض الأمريكيين مؤخراً.
وبعيداً عن مآلات المسار القانوني الخاصة بالسابق، فإن الترجمة السياسية لتداعيات هذا الأمر تمثل قنبلة موقوتة في العلاقات بين واشنطن والرياض، وخاصة في ظل مناخ التوتر السائد بين المملكة والولايات بسبب ملفات عديدة منها تخفيض سعر النفط من جانب المملكة لإفشال صناعة النفط الصخري الأمريكية، كذلك ملفات إقليمية مثل الوضع في سوريا واليمن وموقف السعودية من الاتفاق النووي مع إيران وتداعياته. أضف إلى السابق الفترة الحرجة في الداخل في كل من البلدين –الانتخابات الأمريكية والصراع على الحكم في السعودية- والتي جعلت التصريحات المتبادلة تصل إلى حد التهديدات –وإن كانت جوفاء- ولكن يبقى الحسم في هذه المسألة رهن المسار القضائي والتشريعي وكيفية إدارته في الداخل الأمريكي ومدى استطاعة الرياض بعلاقاتها ونفوذها التأثير عليه ومدى تفاعل الإدارة الأمريكية القادمة مع هذا الأمر ودعمه أو التملص منه.