هشام علي
يقول غوته في «الديوان الشرقي» «من يود فهم شاعر ، فليذهب إلى بلاد الشاعر».
ولكن كيف يمكننا فهم شاعر، إذا كان هذا الشاعر متوحداً مع بلاده، لاتراه إلا منغرساً في طين الأرض متشحاً برائحة حقولها وأوديتها، بل انك لاترى اليمن إلاّ ووجه الشاعر عبدالله البردوني حاضراً أمام عينيك، كأن مرآة اليمن لاتحمل سوى وجه البردوني. كيف نفصل بين الشاعر وبلاده، كيف نفك هذا التوحد والاتصال عند شاعر استثنى مثل هذا الفصل حين، جعل عنوان إحدى قصائده: «إلا أنا وبلادي»..
هل يمكن أن نخترق هذه الوحدة، وأن نبحث عن الشاعر، الصانع، الكاتب، المؤلف لهذا الوطن، شعراً وكتابة وحلما. الشاعر ينشئ الوجود أو يكتبه إنشاداً، أو أنه يصغي لأصوات الطبيعة ويعيد ترديدها شعراً. أهو الإيحاء الشعري، أم أصوات الجن في وادي عبقر، أم أنها غواية الشعر وسحره، توقظ في النفس حنينا لعنف البدايات والإبداع والتأسيس حينها تختلط الدهشة بالكلام فيسيل الشعر مثل الماء . الشعر تأسيس للوجود بالكلمات الدهشة والتأسيس هما ما يجمع الشعر والفلسفة. لهذا طرد افلاطون الشعراء من جمهوريته؟
قد يبدو هذا التقديم مفرقاً في البعد عن الموضوع فنحن لا نبحث في قضايا الشعر المطلق، وعلاقات الشعر بالوجود أو الفلسفة أو الكينونة والتاريخ. ولكن تعمدت اختيار هذا المدخل للولوج إلى العالم الشعري للبردوني، أو لتحقيق مقارنة عامة للبردوني تحرر القراءة، من حصار النقد الذي فرض حدوداً ضيقة لفضائه الشعري، أصبحت يوماً إثر آخر، قيداً يعيقناعن تحقيق قراءة ديناميكية متحررة من عصا الأعمى، الذي تحول من افق رحب محتمل إلى كومة ضيقة ضئيلة مضيئة في وسط الظلام، لقد حاصرنا البردوني بقيود الطبيعة، ثم اضفنا قيداً إلى قيد، العمى الأيديولوجي أو العشى السياسي الذي لا يملك سوى رؤية أحادية البعد، حرمتنا من لذة القراءة الشاملة لشعر البردوني، القراءة المتحررة من العمى البصري والعمى الايديولوجي أو السياسي..
لقد ضاق البردوني بهذا الحصار المفروض عليه، لم يضق بالعمى الذي قدر له، بل ضاق بمحاصرته والنظر المحدود له كشاعر: أعمى، حتى أنه كان يرفض مقارنته بشعراء عظماء مثل ابي العلاء المعري، يرفض أن يكون العمى أساساً للمقارنة. فالشعر أو الإبداع بشكل عام هو اقتحام المجهول بالرؤيا والتجلي، لا بالرؤية، والإبصار. يولد الشعر في لحظة لقاء تحجب الوجود وانكشافه، في لحظة إشراق وتوهج.
كان البردوني متصالحاً مع العمى، لم يكن يعاني منه، اعتاد عليه وتعود على العيش يحس بوجود الأشياء ولا يراها لقد سئل ذات يوم: أيهما تختار البصر أم الشعر؟
سؤال غريب بدون شك، فالبردوني لم يكن مخيراً بين الأمرين لقد اقتحم الشعر حياته كقدر لا يرد، مثلما كان العمى مصيبة داهمته في الصغر، حتى أنه كان يسمع أباه يجمع دائماً بين مصيبتين، عمى ابنه عبدالله ومرض الجمل الوحيد الذي كان يملكه واضطر الى نحره! ورغم هذه الذكرى المؤلمة، لم يصبح العمى عقدة أو جداراً يصده عن مساره. بل على العكس، لم يعد البردوني يقبل أن يقايض الشعر بالبصر، رغم إيمانه بنعمة البصر.
«أنا لا أفضل شعري على رؤية البصر، ولكنني قد ألفت العمى، حتى أصبحت أخاف الإبصار، ولا أظن أنني اعاني العمى لأنني أحس التعويض (بالشعر) هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن الحواس ليست قيماً بشرية، فالفأر أقوى حاسة شم من الإنسان، والغراب احد بصراً من الإنسان، لأن الحواس والغرائز مشتركة (بين الانسان والحيوان) كما أن العاهات مشتركة بين الناس والحيوانات، وربما نتذكر أن عبقرية الرؤية جعلت مني فيلسوفاً، كما أن عاهة الصمم جعلت من بتهوفن فن موسيقياً عظيماً، كما أن عاهة العمى هي التي أنبتت في المعري مئات العيون الداخلية، لأن السماع بالأذان تقليدي، والرؤية بالعيون الجارحة اعتيادي، أما الرؤية بمواطن القلب، ومواهب العقل فهو اجتياز للموروث والمعتاد، فهذا العمى قد أصبح صديقاً، وجعل من الشعر أكثر التصاقاً بنفسي(1).
والعمى لم يمنح البردوني الحكمة وحدها، لقد أعطاه القدرة على الصبر والتآلف واعتياد الأشياء فمثلما العمى وألفه أصبحت لديه القدرة على التألق مع كثير من الأمور التي يعجز كثير من الناس على اعتيادها. ففي قصيدة «اعتيادات» نكتشف كيف اعتاد الحب واعتاد النسيان:
لم أكن (شهريار) لكن تمادت
عشرة صورتك لي (شهرزادا)
كان حبي لك اعتياداً وإلفا
وسأنساك إلفةً واعتيادا.
ليس في هذا الاعتياد أي نقصان في درجات الحب، بل أن الحب يكون في منتهى درجاته حين يغدو ألفة واعتياداً. وكذا يكون النسيان اختياراً صعباً وقاسياً، لكن الإرادة القوية تجعله أمراً مألوفاً.
وهنا ندرك عمق الرفض عند الشاعر عبدالله البردوني فهو لا يرفض لمجرد الرفض، بل أن الرفض يكون خياراً أخيراً بعد أن تنقطع جميع أسباب التآلف والتصالح. وربما نكتشف أهمية هذه الصفة حين نقرأ قصائده السياسية والاجتماعية.
بل أن هذا الرفض المحمول على جناح الصبر والتآني والتألف، كان يجعل البردوني في ضيق من التأويل الأيديولوجي والسياسي المتعجل لقصائده، حيث أخذوا يحملونها معاني وإشارات لا تحتملها. وميزة الرفض في شعر البردوني الوضوح والمباشرة فالقصيدة السياسية عنده رسالة واضحة، ولعل هذا ما كان يأخذه عليه كثير من النقاد. إلا أن البردوني لم يكن يبني عالماً شعرياً بالكلمات، بل كان يؤلف وطناً، أراده شعرياً جميلاً، وشاءت قوى الطغيان والهيمنة والصراع وميراث العصور أن يكون قاسياً، منشوراً مشطرا مع ذلك، كان البردوني مسكوناً بالأمل كان يصغي دائماً، رغم الفوضى العارمة والخراب المدمر لطرقات الأمل الذي يقرع باب اليمن!
وطن يؤلفه الكلام!
ربما يكون ثمة وهج عبقري أو أنها لحظة إشراق وتجلٍ، كانت كامنة في مخيلة ذلك الفنان الشاب الذي عبَّر في لوحة واحدة، عن تلك الصورة المرآوية التي وحدت اليمن وشاعرها، أصبح وجهه وجه اليمن، وأصبحت صورتها هي صورة الشاعر. فقد رسم في لحظة تداخل مرآوي مدينة صنعاء يفصلها بابها السحري الشهير، باب اليمن، ووجه البردوني الذي يظهر واقفاً خارج الباب، كأنه يحرس وجود المدينة. أو كأنه الوجه الآخر للمدينة داخل المرآة.
قد تكون هذه اللوحة التشكيلية، قراءة بصرية عميقة لشعر البردوني. فصنعاء تتشكل في قصائده واليمن تولد في كل كلمة من كلمات شعره ليس سوى الشعر ما يهب للوطن هذا ما يصرح به البردوني في قصيدة قصيرة بعنوان «لعينيك يا موطني»:
لأني رضيع بيان وصرف
أجوع لحرفٍ، وأقتات حرف
لأني ولدت بباب النحاة
أظل أواصل هرفاً بهرف
أنوء بوجه، كأخبار كان
بجنبين من حرف جر وظرف
> > >
أعندي لعينيك يا موطني
سوى الحرف أعطيه سكباً وغرف
أتسألني: كيف اعطيك شعراً
وأنت تؤمَّل، دوراً وجرف
افصل للياء وجهاً بهيجاً
وللميم جيداً، وللنون طرف
أصوغ قوامك من كل حسن
وأكسوك ضوءاً ولوناً وعرف.
يفتتح الشاعر علاقة جديدة بالوطن، أو لنقل إن شعره يصير لحمة هذا الوطن وسداه.. إن التأليف الشعري لا يقتصر على الوصف والتعبير، انه ينشئ إنشاداً؟ ليس كلاماً بل وجهاً وجيداً وجسداً، ثم يكسو هذا الجسد ويضمخه بالعطر والضوء. الكلام يؤلف الوطن ينشئ الشاعر علاقة بين الكلمات والأشياء. في حوار الفرجياس.. يضع افلاطون الكلام مقابل العنف، الفيلسوف مقابل الطاغية هذا هو الشاعر عبدالله البردوني الواقف في وجه حكم الأئمة والحادي لمسار الثورة والتغيير والحرية.
إنّ زمن الحرية لا يأتي بزمن معين. الحرية فضاء مفتوح، قلم التاريخ وتؤسسه بل تعيد تشكيله في كل آوان والبردوني الذي يعيد تكوين الوطن كان يعلم علم اليقين أن الرهان الأساس هو رهان الحرية لكي نعيد بناء الوطن والحفاظ على ثورية الثورة، ينبغي أن نكون احراراً هذا هو الصبح المبين، وهذه هي البشارة:
أفقنا على فجر يوم صبي
فيا ضحوات المُنى: اطربي
أتدرين يا شمس ماذا جرى؟
سلبنا الدجى فجرنا المختبي.
لكن هذا الفجر الذي انتزعناه من فم الدجى ليس نهاية الطريق، انه البداية. وقد بقى البردوني يرقب هذا المولود بعين ناقدة حريصة وتتكرر وقفاته مع الثورة، لا احياءً للمناسبة، بل تأصيلاً لجذوة نار الثورة، واستمرارها. ففي قصيدة تقرير الى عام 71 «حيث كنا» يكتشف البردوني أن ذلك الفجر ما يزال صبياً، وأن تسعة أعوام من عمر الثورة مرت مثل عام.
غير أنا وبعد تسع طوال
حيث كنا كأنما مر عام.
في هذه القصيدة يبين البردوني أن القوى المضادة للثورة، في الداخل والخارج، كانت أقوى من عزائم الثوار، أو أن هؤلاء الذين قاموا بالثورة «قعدوا قبل أن يروا كيف قاموا» لقد اشرنا سابقاً إلى أن الشاعر يدرك أن الحرية ليس لها حدود، ومشكلة ثوار سبتمبر أنهم وقفوا عند حدود اسقاط الحكم الإمامي.
ليس فعل الثورة وحده ما يؤلف الوطن لقد قلنا إن هذا الوطن يؤلفه الشاعر، يعيد تكوينه حرفاً فحرف. وهنا الكلام لا يعكس الواقع وحسب، بل يعيد تشكيل الوطن، يتقمص محنة الشعب، يحكي للعالم مأساته. ولا يبدو الشاعر واقفاً خارج باب اليمن، يصف ما يجري من بعيد، إنه منغرس في رحم الأرض، متوحد معها.
نحن هذي الأرض.. فيها نلتظي
وهي فينا عنفوان واقتتال
من روابي لحمنا هذي الربى
من رُبى أعظمنا هذي الجبال
ولا يكتفي الشاعر بهذا التوحد الجسدي بالأرض، انه يستعيد تجربة التكوين والتغيير والثورة، يفقأ عينيه لكي يرى:
لكي يستهل الصبح من آخر السُّرى
يحن الى الأسنى ويعمى لكي يرى.
يبحث الشاعر عن اليمن، يحمل وطنه معه في الغربة، يعيش تجربة السفر دون وداع ودون شوق إلى الرجوع ألم نقل ان الشاعر لا ينفصل عن وطنه، ليس ثمة مسافة فاصلة بين الأرض والجسد يرحل الشاعر ووطنه معاً:
حان أن يقلع الجناحان.. طرنا
حفنة من حصن على صدر قلعه
مقعدي كان وشوشات بلادي
وجه أرضي في أدمعي الف شمعه
ووصلنا.. قطرات مأساة أهلي
من دم القلب دمعة بعد دمعه.
يرحل البردوني حاملاً حجارة البلاد ووشوشات الأهالي ودموعهم. جناحا الطائرة يحملان وطناً كاملاً اجتمع في ذات الشاعر:
صرت للموطن المقيم بعيداً
وطناً راحلاً، أفي الأمر بدعه!؟
احتسي موطني لظى، يحتسيني
من فم النار جرعة إثر جرعه
في هواه العظيم أفني وأفنى
والعذاب الكبير اكبر متعه:
كل شيء في شعر البردوني مغمور بواقعيته. الكلام هو الوجود والإنشاء. تأليف القصيدة وتأليف الوطن. هذا هو التكوين الشعري ليس ثمة استعارية ولا تشبيه كلمة الوطن هي الوطن ان لفظ «كأن» غير موجود في شعر البردوني فهو يسمي الأشياء، دون أن يراها لا لأنه أعمى ولكن لأن هذا هو الشعر دون لماذا؟ فالوردة تزهر لأنها تزهر هكذا قال هيدجر حسبنا أن ننطق بأشياء الواقع حتى نمسك بها. نعرفها ونتعرف عليها والكلمات ليست صوراً للأشياء، إنها جسور للعبور والوصول تحس وجود الأشياء، وليس شرطاً أن تراها أو لنقل انها تراها برؤية القلب، لا رؤية البصر.
لا غرابة إذاً، أن يبحث صنعاني عن صنعاء. رغم هذه البنايات والأسواق والأصوات والبضائع، لا يجد الشاعر مدينته التي فارقها. لا يحس وجودها، لا يراها!
هذي العمارات العوالي ضيعن تجوالي.. مجالي
حولي كأضرحة مزورة بألوان اللآلي
يلمحنني بنواظر الإسمنت. من خلف التعالي
هذي العمارات الكبار الخرس ملأى كالخوالي
أدنو ولا يعرفنني أبكي ولا يسألن:
مالي وأقول من أين الطريق؟ وهن أغبى من سؤالي.
هناك شيء ضائع في المدينة لقد فقدت قلبها. أصبحت صنعاء مدينة بلا قلب. إنها لا تعرف ابنها العائد ولا تهتم لبكائه. ضاع الحب من المدينة. غابت عنها العلاقات التي تؤلف بين الناس وتجمعهم. أحقاً أن المدينة القديمة لم تتغير، من حيث بيوتها وشوارعها وأسواقها. لكن الذي تغير هو قلب المدينة وجوهرها تغير الناس وتغيرت العادات والعلاقات الدافئة بينهم. لم يكن الشاعر يسأل عن اسماء الشوارع أو عن الطريق اليها، كان يسأل عن تلك الأشياء الخفية التي تحتجب وراء ظاهر العمران. عن هذا الصمت الذي يحسّه رغم ما يزدحم في الشوارع من فوضى، عن هذا الخلاء الذي يراه في البيوت رغم أنها ملأى. يطوف الشاعر في شوارع المدينة بقلب عاشق، يرى كثيرين ولا يرى أحداً!
هل هذه صنعاء.. ؟ مضت
صنعاء سوى كسر بوالي
خمس من السنوات أجلت
وجهها الحر «الأزالي».
من أين يا اسمنت امشي؟
ضاعت الدنيا حيالي
بيت ابن اختي في (معمر)
في الفليحي بيت خالي
أين الطريق الى (معمر)؟ يا بناتي يا عيالي
وإلى (الفليحي) يا زحام.. ولا يعي أو يبالي
بالله يا أماه دليني ورقّت لابتهالي
قالت الى (النهرين)،
قدّامي وامضي عن شمالي
والى (القزالي) ثم استهدي بصومعة قبالي
من يعرف (النهرين)!.. من أين الطريق الى (القزالي)
من ذا هناك؟ مسافر مثلي يعاني مثل حالي
حشد من العجلات يلهث في السباق وفي التوالي
وهناك (نصرانية) كحصان (مسعود الهلالي)
وهناك مرتزق بلا وجه.. على كتفيه (آلي).
لقد أنكر الشاعر مدينته، رغم معرفته لها بيتاً بيتاً.
إنها ساكنة في الذاكرة لا تبرحها. أهو النسيان؟ لعل المشكلة أنه عاد ولم ينس شيئاً. كأنما التقط لها صورة وحفرها في الذاكرة، لم تكن صورة فوتوغرافية، إنها صورة بأبعاد أربعة، البعد الرابع هو الحياة الاجتماعية المليئة بالألفة والحب، لقد كان الجميع عائلة واحدة، وحين عاد الى المدينة بعد أعوام، كان أهالي صنعاء قد خرجوا منها..ليس هذا وحسب، لقد جاء الغرباء، ودخلت معهم عادات جديدة وغريبة. هل كان البردوني يبحث عن صنعاء المخزونة في الذاكرة، في نوع من الحنين الى ذلك الماضي والتوق الى عودته. ليس هذا ما يقصده، إنه يبحث عن روح المدينة، يفتش عن علاقاتها المتمزقة، يعجب لوجود المرتزقة المسلحين في شوارعها، للأجانب الذين لا نعرفهم. لا يعبر الشاعر هنا عن رفض الآخر، لكنه يقلق من وجوده لكثرة ما ارتبط وجود الغرباء بالمؤامرات والدسائس:
اليوم (صنعاء) وهي متخمة الديار بلا أهالي
يحتلها السمسار، والغازي، ونصف الرأسمالي
والسائح المشبوه، والداعي وأصناف الجوالي
من ذا هنا؟ (صنعاء) مضت واحتلها كل انحلالي.
إن الشاعر يرفض هذه العلاقات الجديدة التي تتشكل في المدينة، مدينة مليئة بالبشر، لكن بلا أهالي هذه الكلمة أهالي تحيلنا الى الأهل، الى القرابات التي تتكون في المدينة، ليس قرابات عائلية بالضرورة، ولكنها قرابات تنشأ بالحب والتآلف والاجتماع. مدينة صنعاء في رأي البردوني ليس مكاناً يجتمع فيه مجموعة من الناس وهم مضطرون لذلك الاجتماع إنها مدينة تأسست على عقد اجتماعي اساسه الحب والايلاف والطمأنينة. إذا غاب هذا العقد، تفقد المدينة ركنها المؤسس، تصبح مكاناً قاسياً، جدراناً صماء لا حياة فيها.. ومدينة مثل هذه ينبغي أن تثور على ساكنيها، وتنتفض على غزاتها:
أمي! أتلقين الغزاة بوجه مضياف مثالي؟
لم لا تعادين العداء..؟ من لا يعادي لا يوالي.
ورغم هذا لا يعود الشاعر من حيث أتى. فالبردوني مسكون بالألم وبالأمل.
من أين أرجع.. أو أمرُّ..؟ هنا سأبحث عن مجالي
ستجد أيام بلا منفى وتشمس يا نضالي!
وأحب فجر ما يهل عليك من أدجى الليالي.
ولكن كيف يمكن للشعر أن يؤلف الوطن، وسط هذا الركام الهائل من الذكريات. هل نتذكر الوطن أم نبنيه؟
هل يتجه الشاعر نحو الماضي أم نحو المستقبل؟
إن الماضي ليس بيت الشاعر الذي يحن اليه، ولا هو الجنة الضائعة التي يفتش عنها. لقد لاحظنا في قصيدة «صنعاني يبحث عن صنعاء» أن ذلك البحث هو بحث عن الهوية، الهوية الوطنية بكل امتلاكها التاريخي والحضاري ليست النوستالوجيا ما يحرك الشاعر، ولكن الاستمرار والتواصل، استمرار الهوية التي تجمع وتوحد وتعيد تكوين العلاقة بين الانسان والمكان، وتمنع تحول المدينة الى غابة من الاسمنت.
إعادة ترتيب الذاكرة ومقاومة النسيان والبحث عن زمن ضائع أو عالم ضائع، هذه أشكال متقاربة لإعادة التأليف والتكوين..وقد كان الحلم هو صبح الشاعر الذي يتداخل مع الذاكرة..حتى حين يفتح الشاعر كتاب التاريخ، يكون المستقبل هو الباعث والدافع لمراجعة التاريخ وقراءته.