الحباري في ذمة الله ..
أحمد يحيى الديلمي
ودعت مدينة صنعاء عاصمة اليمن التاريخية صباح السبت الماضي رجل الأعمال والبر والإحسان المعروف الحاج / علي محمد الحباري الرجل الذي أحب صنعاء وأبناءها إلى حد العشق وأحبه الناس لسلوكه القويم ودماثة أخلاقه وإسهامه المباشر في حل أي مشاكل تتعلق بين أرباب مهنته من التجار والعطف على المحتاجين . أتضح هذا الأمر جلياً في موكب التشييع المهيب، إذ خرجت المدينة عن بكرة أبيها لوداع الحاج علي كما ألفوا على مناداته به إذا مر بأسواق صنعاء القديمة يتفقد أحوال التجار من أقرانه الذين عاصروه عندما كان عاقل سوق الحب يمازحهم ويسأل عنهم ويتحف التجار الشباب بقصص وحكايات عن قيم التجارة التي كانت سائدة في الزمن الماضي وهي أشياء هامة يرويها بظرف وحرص على نقلها للجيل الحالي بالأخص الحكاية التي طالما سمعتها منه شخصياً عن أهم شروط الحصول على رخصة لمزاولة التجارة . وتتعلق بأهم قيم الإسلام المتصلة بالتجارة استناداً إلى مقولات عظيمة للإمام علي بن أبي طالب كرم عليه السلام ومنها :
* ( الفقه ثم التجارة )
* ( من أتجر ولم يتفقه في الدين فقد التطم في الربا )
استناداً إلى نفس المقولات كان التاجر يبعث إلى مشايخ في الجامع الكبير يدرس علوم الشريعة حتى يلم على الأقل بفقه المعاملات ويمنح إجازة بذلك من علماء معتبرين ثم يقسم في المسمورة والمنقورة بالجامع الكبير على يد عالم ممن أجازوه أنه لا يغش ولا يخدع ولا يحتكر وأن يكون سمحاً إذا باع وسمحاً إذا أشترى .
هذه الثوابت النادرة كان المرحوم في أيامه الأخيرة يتحسر على غيابها من أذهان الجيل الجديد من التجار وبسببها دخل في مشادة مع أحد التجار المعروفين في مكتب الأستاذ الفاضل قائد عبده الحروي عندما كان وكيلاً لوزارة الصناعة والتجارة لقطاع التجارة، فلقد استاء المرحوم لأن التاجر الآخر قلل من أهمية هذه الثوابت والقيم والمرحوم يدافع عنها ببسالة، لأنها في –نظره- تولد رقابة ذاتية في أعماق التاجر مصدرها الخوف من الله سبحانه وتعالى وهذا مصدر عظمتها كونها تحتل ضمير الإنسان وتكبح جماح الرغبات التي تنزلق به إلى مهاوي الزلل ، من تلك اللحظة توثقت المعرفة بيني وبين المرحوم ، كان كلما التقى بي يترجل عن السيارة ليسمعني الكثير من الحكايات عن أخلاق وقيم التجارة التي كانت سائدة في الماضي والمهام التي كان يضطلع بها كونه عاقل سوق الحب ، وكيف ترقى في هذه المهام إلى أن أصبح شيخاً لمشايخ السوق بحسب روايته ،
هذا المنصب لم يكن شرفياً لكنه تنفيذي يتولى ترتيب مهام مشايخ الليل والعقال وتنظيم الحراسات الليلية إضافة إلى فض النزاعات بين التجار قبل اللجوء إلى عامل صنعاء أو الانتقال إلى أروقة القضاء وفي كلا الحالتين يكون لآراء المشايخ والعقال دور في الفصل بالذات ما يتعلق بالسرقات إن حدثت ، والتي كان التعاطي معها يتم وفق قاعدة مفادها إذا ثبت أن السارق دخل من باب الدكان يتحمل التاجر مسؤولية نفسه إما إذا أحدث كوه في سقف الدكان ودخل منها يعاقب المشايخ والعقال لإهمالهم ويعوض التاجر المسروق من خزينة الدولة باعتبار الأمن العام مسؤوليتها ثم تخصم من نسبة المكافأة الشهرية المحددة للمشايخ والعقال .
أشياء كثيرة سمعتها من المرحوم عن نظام السوق وآليات ضمان الحقوق بين أطرافه الثلاثة الجالب ، والمنتج / الوسيط / المستهلك، لا يتسع المجال لذكرها مع أنها مشاهد هامة سبقت في بعض جوانبها القوانين والأنظمة التي تتباهى منظمة التجارة العالمية بابتكارها ، بالذات ما يتعلق بانسياب السلع وإخضاع فكرة تحديد الأسعار لمبدأ العرض والطلب كل هذه المعلومات تضمنها كتاب ” قانون صنعاء ” الذي ألفه العلامة الحيمي قبل ثلاثة قرون ونصف من الزمن وأعاد تحقيقه العلامة المرحوم القاضي حسين السياغي أول نائب لمجلس القضاء الأعلى .. على ذكر المرحوم السياغي سمعت منه أن أسرة الحباري من أول الأسر التي استوطنت صنعاء، لأن سام بن نوح عندما قدم إلى صنعاء أحضر معه عدة أسر واشتهرت منها ثلاث أسر وهي :
* أسرة البصرواي : قائد الجيش .
* أسرة البابلي : للغزل وخياطة الملابس .
* أسرة الحباري : لخزن الحبوب .
في هذا الجانب ليست مصادفة أن يوجد من نفس الأسر أشخاص يعملون في نفس المهن التي وفدوا من أجلها حتى يومنا هذا ، ومنهم بيت الحباري من يتاجرون بالحبوب ويحتلون مساحة كبيرة في سوق الحب للدلالة على نفس الأمر ، أيضاً سألت الدكتور علي سنان وهو عراقي متخصص في الحضارات العراقية القديمة عن معنى كلمة الحباري في اللغة البابلية فأجاب : حب ار : تعني خازن الحبوب وهذا يعني أن الأسرة توارثت المهنة منذ آلاف السنين وهناك حكايات مثيرة جداً أحتفظ بها لنشرها في الكتاب الذي أعتزم إصداره بعنوان ” التاريخ التجاري والصناعي لمدينة صنعاء ” والله أعلم بالصواب.
رحم الله الحاج / علي الحباري ، وأسكنه فسيح جناته والعزاء لأبنائه محمد ويحيى وعبادي وجميع أفراد الأسرة .. وإنا لله وإنا إليه راجعون ..